"حيزيَّا": رواية حبٍّ تثير سجالاً

تبدأ "حيزيا" بـ" استهلال" عنوانه: " كتاب الصمت" موقَّع باسم حيزيَّا، ومؤرَّخ في خريف - شتاء 1973. يتخيَّل الكاتب فيه "حيزيَّا"، وقد قامت من قبرها، في مقبرة "سيدي خالد"، مُثقلةً بالرمل، بعد نومها قرابة المئة سنة.

  • رواية
    رواية "حيزيَّا": رواية حبٍّ تثير سجالاً

"حيزيَّا، زفرة الغزالة الذَّبيحة، كما روتها لالَّا ميرا (دار الخيال، الجزائر، ودار الاَداب، بيروت،2023) رواية للرِّوائيِّ الجزائريِّ واسيني الأعرج، يروي فيها، من منظوره، أشهر قصَّة حبٍّ عرفتها الجزائر، في واحات الزيبان، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بين الحبيبين: حيزيَّا ( 1855- 1878) وسعيِّد. 

تحدَّث واسيني وكتب عن روايته، قبل صدورها، فأثار سجالاً، وهذا ما فعله قبل صدور روايته عن سيرة حياة "مي زيادة". تواصل السجال بعد أن صارت "حيزيَّا" بين أيدي القرَّاء، ووصل الأمر بالمعترضين إلى المطالبة بـ" منع الرواية من الصدور والتداول، ومحاكمة صاحبها، بحجّة المسِّ بالتراث الشعبي الوطني وتحريفه"، والتحوَّل بقصَّة الحبِّ العفيف إلى قصة الحبِّ المتمرِّد. 

نحاول، في ما يأتي، إجراء قراءة في هذه الرواية، تقدِّم معرفة بها على مستويي البناء الروائي والرؤية التي ينطق بها منظوره. 

المنظور الروائي 

كتابة العنوان: " حيزيَّا " بالألف الممدودة، وليس بالتاء المربوطة، يدلّ، كما يقول الكاتب، على "كسر التقليد اللغوي الرمزي...، وتحرير للاسم من قيده الرمزي وانغلاقه، وفتحه على فضاءات الحرية الواسعة" (ص. 7).  

منذ البدء، ينطق البناء الروائي عن  أهم قصَّة عاطفية جزائرية، وأعاد كتابتها. 

مرثيَّة العاشق لا الوسيط هي المصدر الوحيد  

بدا لواسيني، بعد قراءته " مرثيَّة محمد بن قيطون (1847-1907) لحيزيَّا، والتي ترجمها الفرنسي سوناك إلى الفرنسيَّة سنة 1902، أنَّها المصدر الوحيد المتبقِّي لقصة الحبّ ِهذه، وأنَّ ما جاء فيها يقتضي إعادة النظر في الروايات المتداولة لهذه القصَّة. 

 صدّر واسيني الرواية بأبياتٍ من هذه المرثيَّة، تحت عنوان الاَية القراَنيَّة الكريمة: "وإذا الموؤودة سئلت، بأيِّ ذنبٍ قُتلت"، ورأى أنَّ من يتجرَّأ على كتابة هذه القصيدة ...، في مجتمع كان الحبُّ فيه مغامرة غير مأمونة العواقب، لا يكون مجرَّد وسيط حيادي، نظم مرثيته، بناء لطلب حبيبها، كما جاء، في الروايات المتداولة، وإنَّما يكون عاشقاً لها.

الروائيُّ الرحَّالة الباحث والمحقِّق

أفضى هذا إلى البحث الطويل، والقيام برحلات إلى أمكنة الأحداث، وإجراء لقاءات مع أبنائها المسنِّين، ما جعله يحصِّل معرفة بوقائع جديدة ضمّنها روايته، فكان، في مرحلة تحصيل المادة الأولية للرواية باحثاً منهجياً أجاد قراءة المرجع الوحيد/ المرثية، ومحقِّقاً حصيفاً، وكان بعد أن صدر عن هذه المادة الأولية/ المرجع، وكتب الرواية روائياً يقيم بناء روائيَّاً متخيَّلاً، من منظوره، ولا يكتب سيرة تاريخية.

الرواية زفرة الذَّبيحة: الغزالة/ حيزيَّا 

عنوان الرواية الثانوي دالٌّ على أنَّها ليست تاريخاً، وإنّما هي رواية كتبت من منظور، وتنطق برؤيته، فهي "زفرة الغزالة الذبيحة"، وهذه الغزالة هي "حيزيَّا". تقول لالَّا ميرا لخالد: اقرأ الفاتحة على "حيزيَّا"، وعلى الغزالة الذبيحة، لأنَّهما شيء واحد" (ص. 212)، ورأى خالد أنَّ العلاقة بينهما هي أنَّهما ماتتا في ظرفين ظالمين بسبب الحبِّ (ص. 209)، فكانت هذه الرواية زفرة الذَّبيحة الغزالة/ حيزيَّا، والموؤودة التي قُتلت، المتمثِّلة في حلم يتَّخذ "صورة حيَّة وجميلة وحالمة" (ص. 212). 

 الاستهلال ودلالة الكلام على الصمت

تبدأ الرواية بـ" استهلال" عنوانه: " كتاب الصمت" موقَّع باسم حيزيَّا، ومؤرَّخ في خريف - شتاء 1973. يتخيَّل الكاتب فيه "حيزيَّا"، وقد قامت من قبرها، في مقبرة "سيدي خالد"، مُثقلةً بالرمل، بعد نومها قرابة المئة سنة، في كتاب الصمت، معلنةً أنَّها ظُلمت وخُدعت، وأنَّ معلِّمها الأوَّل ابن قيطون كان يحبُّها، وكتم حبَّه، وأنَّ من أحبَّها ثلاثة هم: سعيد ابن عمِّها، ثم نسيها بسرعة، ومحمد بن قيطون الذي ظل صامتاً كحجر الوديان، وأنت، أي الراوي، وتسأل هذا: ما الذي أتى بك من أرضك الخضراء إلى رملنا الجاف؟ 

يلخِّص هذا "الاستهلال"، المتخيَّل على لسان " حيزيَّا "، الرواية، كما يرويها واسيني، ويؤكّد أنَّها قُتلت مظلومة، ولكن لماذا تحدثت "حيزيَّا" عن الصمت، وقصَّتها غُنِّيت وكُتِبت قصصاً وشعراً وأوبرا ومثلِّت فيلماً؟ 

يبدو لي أنَّ المقصود بالصمت هو الصمت عن كشف سرِّها الذي بقي مخبوءاً طوال تلك السنين، وجاء الكاتب ليُنطق روايته به، وليؤلِّف " أوبرا حيزيَّا"، على غرار  أوبرا بتر فلاي (فراشة)، لتنطق به أيضاً.

أقسام الرواية الثلاثة 

 تتألَّف هذه الرواية من ثلاثة أقسام ، أوَّلها الرِّحلة في سبيل معرفة سرِّ" حيزيَّا" والوصول إلى لالَّا ميرا التي تعرف هذا السرَّ، وفيه يرى الراوي، في الحلم، أنَّه دفن رأس الغزالة في الصحراء، وثانيها الرِّحلة في سبيل إحضار هذا الرأس، وهو ما طلبته منه لالَّا ميرا، وهذه تقنية معروفة في الحكايات الشعبية، فمن يملك المعرفة أو المقدرة/ المساعد يطلب من البطل مثل هذا الطلب، ليلبِّي حاجته، ولالَّا ميرا، كما تقدمها الرواية، تتصف بصفات المساعد، فهي وليَّة صالحة تملك المعرفة وسرَّ  "حيزيَّا"، وثالثها تقديم لالَّا ميرا المساعدة، وروايتها قصة "حيزيَّا". وبهذا تكون راوية القسم الثالث، وليس راوية أقسام الرواية الثلاثة، كما جاء في العنوان الثانوي للرواية.

الرَّاوي الرَّحاَّلة ... 

يروي خالد القسمين الأوَّلين، وخالد هو الرحَّالة الباحث عن سرِّ "حيزيَّا"، وقد سمَّاه والده بهذا الاسم تيمُّناً باسم "سيدي خالد"، الوليِّ الصالح، في بسكرة، وهي المنطقة التي جرت فيها أحداث هذه الرواية، وهو مؤلِّف موسيقي، يريد معرفة سرّ قصَّة الحب الفريدة، ليؤلِّف "أوبرا حيزيَّا". 

مسار القصِّ 

يبدأ الراوي القصَّ، في الفصل الأول، في الساعة العاشرة صباحاً، من يوم الأحد، الواقع فيه 24أيلول/ سبتمبر سنة 2023، في المقبرة، في سيدي خالد؛ حيث تنام أسرار "حيزيَّا" ويهمس: " ها قد عدت بعد نصف قرنٍ من الغياب". ويتذكَّر زيارته الأولى، إلى سيدي خالد، وكان ذلك يوم الاثنين في 24 أيلول/ سبتمبر سنة 1973، حينما جاء إلى المنطقة بحثاً عن غيمة هاربة، اسمها "حيزيَّا"، عملاً بوصية والده: "لا أحد غيرك سيستعيدها من ظلمة قبرها، برسمها في القلوب، عبر الموسيقى واللغة، كما يليق بها" (ص. 14). ويسمع صوت لالَّا ميرا، ويتذكَّر أنها قالت له: لا بدَّ من أنَّ هناك قدرة إلهية حمت الحكاية من الموت والاندثار، فإذا كنت أنت الرجل المنتظر، فستظهر العلامات التي تجعلني أحكي لك بلا خوف. وتظهر العلامات، فيكون الرجل المنتظر، وهذه تقنية من تقنيات الحكاية، تتمثل في قيام البطل القادر، المصمِّم، المنتظر، بالسعي إلى تعويض الفقد، ويرصده القدر لذلك. ويتمكَّن من تحقيق هدفه. ويعود، في زيارته الثانية، ليقول إنَّه منح حياة جديدة لـ "حيزيَّا"، فسعدت بها أوبرا الجزائر، وكل مسارح العالم، وتحديد الزمان والمكان بدقَّة يوهم بصدقيَّة القصِّ. 

وهكذا يبدأ خالد القصَّ من نهاية الرواية، ثم يعود إلى البداية، فيروي وقائع رحلتيه، في سياق خيطي، يتقطَّع بالوصف ورسم فضاءات الأمكنة، وخصوصاً فضاءات الصحراء، ما يذكِّر، بفضاءات عاشق الصحراء إبراهيم الكوني، وعالمه الواقعي/ الأسطوري وبالحوار والتأمُّل وتداخل الحكايات والاستطرادات، كالحديث عن شعر الشريف الرضيِّ، ويلاحظ في هذه الجديلة القصصية التكرار، تقول لالَّا ميرا لخالد:" اعذرني على التكرار" (ص. 206)، وسلسلة التخيُّلات.

 يلتقي الراوي مصادفةً مسعود حفيد لالَّا ميرا، فيوصله هذا إليها، ويعرِّفه بالوصايا السبع، فعمل بها، ونال رضاها، غير أنَّها طلبت منه جلب رأس الغزالة، فيرحل، ويدخل دوَّامة التِّيه (ص.154)، ويسمِّي رحلته، عندما يعود، رحلة التيه، التي يلتقي فيها، في قلب الصحراء، العاشق المِثْلِي، الهارب من القتل، فيقول له، في ما يقوله:" إلى هذه الدرجة! يريدون قتلك لأنَّ في حياتك رجلاً؟ لا يُعقل" (ص. 153)، وهذا الحدث الذي يبدو مقحماً على قصة حبِّ "حيزيَّا" وسرِّها.

تروي مالكة السر أنَّ "حيزيَّا" وابن عمها سعيِّد اليتيم الذي ربَّاه والدها يتبادلان الحب، ويرفض والدها طلب ابن أخيه الزواج منها، بحجَّة أنَّها أخته من الرضاعة، ويريد تزويجها من عبد الغني، من قبيلة قانة، عدوَّة قبيلته، وهدفه إحلال السلام بين القبيلتين.  في هذا الوقت، تكون " حيزيَّا" حاملاً من حبيبها، فتتدبَّر أمُّها وخالتها أمر ولادتها، فتلد طفلة تسمِّيها ميرا، تخفيف أميرة.   وفي يوم الاحتفال بالخطبة، تسمِّمها نسوة بني قانة، فتموت. ويرثيها معلِّمها بقصيدة تكشف عن حبِّه المكتوم لها، تربِّي الخالة الطفلة، وتفاجئ لالَّا ميرا خالد بقولها إنَّها هي تلك الطفلة. 

 الرواية المغايرة ودلالتها

 تروي ابنة "حيزيَّا" قصَّة الحبِّ، وهذا يكسب الرواية صدقيَّة، وفاقاً لقواعد رواية "الأحاديث" في التراث العربي. وهذه الرواية مغايرة للروايات المتداولة التي تقول إن الحبيبين تزوَّجا، وأنَّ الحبيبة ماتت، بعد أربعين يوماً من الزواج، وأن الزوج الحزين طلب من محمد بن قيطون رثاءها، ففعل.

 يعيد واسيني الأعرج رواية قصة الحبِّ الشعبية الشهيرة، في الجزائر، بعد بحثٍ ورحلة أدبٍ استقصائي طويلة.