رنا جمول مخرجة للمرة الأولى في "البخيل" لموليير

جعلت جمول من "بخيل" موليير مسرحية سورية معاصرة، بإعدادها الجميل، وتصويرها لرذيلة البخل وتأثيرها على محيط المصابين بتلك الآفة من خلال الكوميديا، وبأسلوبية إخراجية تجمع بين الفودفيل والغروتيسك.

يفتتح عرض "البخيل" لرنا جمول في أولى تجاربها الإخراجية بحوار بين "موفق" (خالد زياد مولوي) و"بسام" (أحمد الحميدي)، لنكتشف أن موفق هو "أرباغون" موليير، أشهر الشخصيات بخلاً في تاريخ المسرح، بينما بسام فهو "لافليش" الخادم المطيع الذي اعتاد بخل سيده، وطرده المستمر له في بداية كل شهر كي لا يعطيه أجرته.

لكن في النص الذي أعدته جمول، ثمة عناصر كوميدية تضاف إلى ما اشتغله موليير في ملهاته الأكثر شهرة. إذ جعلت من بسام شخصية من محافظة دير الزور، وفي الحوار بين شخصية الشامي البخيل وخادمه الديري يتدخل اختلاف اللهجة ليترك أثراً بليغاً على المتلقي، وهذا يحسب لصالح العرض الذي لم يتكئ على الفصحى لأداء هذا النص الكلاسيكي، وإنما على العامية القريبة من نبض الشارع السوري، والاستفادة من حيويتها وغناها في جعل عرض "البخيل" حياتياً وقابلاً للتصديق.

وإمعاناً في جعل العرض سورياً بحتاً، اختصرت المخرجة العديد من شخصيات المسرحية الأساسية، فلن نرى هناك شخصية "إليز" لأنها ملَّت من عيشة الذُّل في ظل بخل والدها وهاجرت إلى هولندا وبدأت العمل في معمل للألبان والأجبان، وأمها فعلت مثلها، وباتت إليز تساند أخيها "كليانت"، وفي عرضنا بات اسمه "وسيم" (علي حميدة) ووالدتها كذلك، ليستطيع مواصلة العيش مع أبيه الذي وصل بُخله أنه غلَّف جميع محتويات البيت ووضعها في كراتين خشيةً عليها من التَّلَف، وحتى أنه يحسب حساب الجلوس على الكنبة الوحيدة في المنزل لأن ذلك يُقصِّر عمر فَرْشِها.

وسيم يُسايس والده باستمرار لمعرفته العميقة بطباعه، وفي إحدى المرات تحدث مكاشفة بين الأب وابنه. لكن هذه المرة لا علاقة لها بالحسابات المادية، و"غلّة" المحلَّ المُهلْهَل الذي يجبر موفق وسيم على العمل به ويعامله كأجير عنده، وإنما كانت مكاشفات عاطفية، إذ يتحدث كل منهما عن رغبته بالارتباط، الأب بسبب هجر زوجته له وسفرها إلى هولندا، والابن لأنه التقى بمن يهواها قلبه وباتت تسكن خياله، وفي محاولة من الابن لإقناع أبيه بتزويجه، أخبره بأنهما إن أقاما عُرساً مشتركاً فإن ذلك سيوفر الكثير من التكاليف.

يحاول وسيم أن يوفر بعضاً من المال، مرة بالرهان على نتائج مباريات كرة القدم، لكنه يخسر ماله في مباراة البرتغال وفرنسا، وأخرى ببيعه فرشاً في نهاية عمره لأحد تُجار الحرب واسمه "أبو زينة" (خوشناف ظاظا) بلهجته الجزراوية المحببة، لكنه يكتشف أن ثمة علاقة بين ذاك التاجر مع والده فيفشل مخططه.

في هذه الأثناء تتدخل "زهرة" (آلاء عفاش) وهي المقابِلة لشخصية "فروزين" في مسرحية موليير، مع تغييرات محلية في تكوين الشخصية الجسدي والنفسي. إذ بعد خسارتها للأموال التي كانت تحصل عليها من تأجير منزلين لها في "مساكن برزة" للإخوة العرب الراغبين في قضاء ليالٍ من المتعة، باتت الآن تتاجر بالأعشاب الطبية، وأيضاً بالوهم الذي تبيعه لطالبيه، سواءً من أجل التجميل، أو الزواج، أو زيادة الحيوية والشباب، وغير ذلك باستخدام خلطاتها الخاصة، ومن ذلك إعلانها الكاذب لموفق بأن "وصال" (زينة المصري) معلمة المدرسة لا يهمها عمر من ترتبط به، وأنها تُفضل كبار السن لأنهم أنضج، وهو ما جعل البخيل يتنازل عن 30 ألف ليرة لزهرة مقابل معلومات إضافية عن وصال، فازدادت رغبته بها عندما أعلمته بأنها لا تأكل غير وجبة واحدة في اليوم، ولا تحب المشروبات الغازية ولا المُنبِّهات ولا الموالح والمُقرمشات، وبهذا فإنها ستوفر عليه شهرياً ما لا يقل عن المليون ليرة، وبذلك ازداد اقتناعاً بأهمية هذه الصبية لأن تكون زوجة له. 

المعادلة تكتمل عندما تحاول زهرة إقناع وصال بضرورة زواجها من ذاك الكهل الستيني لأنه بمثابة نجاة لها ولأهلها من وضعهم المأساوي في مواجهة ضنك الحياة وطمع المؤجرين والمكاتب العقارية. لكن تقع المفارقة الأكبر عندما يلتقي وسيم بوصال وهي حبيبته التي ينوي الزواج منها في منزل والده ويكتشف ما يتم التخطيط له، فيعمل مع وصال وزهرة على خداع وسيم. أولاً بإظهار نَهَم وصال للأكل والشرب على عكس ما روته زهرة، ثم بأن ثمة مستثمرة أجنبية وصلت إلى البلد حديثاً وبحاجة شريك، ليهب "البخيل" متحمساً لتلك الشراكة. وعند لقائه بتلك المستثمرة يكشف عن صندوق الذهب الذي دفنه في حديقة منزله. حينها تكشف الأجنبية عن أنها ليست سوى زهرة متنكرة مع لكنة فرنسية، ليقف الجميع في وجه "البخيل" الذي حرم جميع من حوله من إمكانية العيش بهناءة زائدة، ومع هذا الكشف يصيب المكان زلزال قوي يُهدِّم البيت الذي بدأ يتهاوى على ساكنيه، ورغم محاولات العديدين من ابنه إلى خادمه إقناع موفق بالخروج ليحافظ على حياته إلا أنهم فشلوا. إذ بقي متمسكاً بصندوق الذهب الذي قرن كل حياته به فيموت وهو يحتضن ذهبه الفاني.

المخرجة جمول جعلت من "بخيل" موليير مسرحية سورية معاصرة، بإعدادها الجميل، وتصويرها لرذيلة البخل وتأثيرها على محيط المصابين بتلك الآفة من خلال الكوميديا، وبأسلوبية إخراجية تجمع بين الفودفيل والغروتيسك، بعد إزاحة كل معالم اللامعقولية التي يتميز بها الغروتيسك، مع المحافظة على الطرافة والقدرة على امتلاك عواطف الجمهور وتسليته بالحد الأقصى ولو كان الحديث عن أوجاعه. ساعدها في ذلك ممثلون تبنّوا شخصياتهم بوعي كبير لأبعادها النفسية والجسدية، بحيث ساهموا بإثراء العرض وزيادة حيويته. إذ لم يبخلوا في تعزيز طباع كل شخصية بحركاتها وطريقة كلامها وأسلوبية تفكيرها، ومثلهم فعلت "ريم الماغوط" في السينوغرافيا التي صممتها، وجاءت على بساطتها في خدمة مقولة العرض، وتأكيداً على فقر البخيل رغم غناه، وعلى أنه لا يتنفس كما تقتضي حياة الإنسان الطبيعي. لذلك جعلت المكان مليئاً بصناديق متراصفة فوق بعضها، أشبه بسجن تلك الشخصية ضمن تفكيرها وسلوكياتها، على خلاف الحديقة بهوائها الحر والذي زادته إضاءة "محمد يونس قطان" حيوية، بينما حافظ على إضاءة شحيحة داخل منزل البخيل الذي يحسب حساب كل شيء. 

جرأة بليغة تحسب لرنا جمول في خوضها لتجربة الإخراج، وتحديداً في هذا الزمن الذي يشهد ابتعاد كثيرين عن أبي الفنون. لكن لماذا اختارت أن تبدأ ببخيل موليير؟

هذا ما أجابت عنه في تصريحها لــ "الميادين الثقافية" بقولها: "أحببت موليير منذ قراءاتي الأولى له، أضف أنني درست الأدب الفرنسي وتعمقت في أعماله. أحسه قريبي وأن لي به علاقة قوية، فضلاً عن أنني أحب الكوميديا، فمن خلالها نستطيع أن نرى الألم لكننا لا ننقهر، نلامس الوجع لكن من دون عذاب. أميل إلى هذا النوع من المسرح، وإخراجياً اتبعت أسلوبية الغروتيسك التي تركز على الكوميديا والطرافة، وتعتمد على الشكل والحركات العريضة على الخشبة، لكنني تعمدت أيضاً إخفاء الألم كعنصر غروتيسكي مهم، لأن الناس في سوريا اكتفوا منه".

من جهته، أوضح المخرج مأمون الخطيب، أن جمول حققت إعداداً مميزاً لنص البخيل، قريباً من الواقع السوري، والأهم قريب من قلوب الناس، وفي الوقت ذاته حافظ على السمات العامة لمسرحية موليير رغم حذف الكثير من الخطوط الدرامية والشخصيات، وهذا ما جعل نصها ينبض بالحياة، وتعزز ذلك برؤيتها الإخراجية التي اعتمدت حلاً وسطاً بين الفودفيل والغروتيسك، ما جعل الجمهور يلامس تلك الشخصيات ويشعر أنها واقعية إلى حد كبير وأنه قد يصادفها في الحياة، خاصةً مع اختلاف اللهجات ومفارقات الأحداث.

وأضاف: "جميل جداً أن نرى رنا جمول مخرجة في المسرح بعدما قضت 30 عاماً من حياتها في التمثيل له، فخبرتها الواسعة جعلها قادرة على إنجاز عرض مهم في مقولاته وخفيف الظل على الجمهور والأهم أنه مفاجئ وحيوي وفيه ذكاء بالتعاطي مع جميع عناصر العرض، وتكفي مفاجأة نهاية العرض بالزلزال لنكتشف كم أنها صنعت من بخيل موليير بخيلاً آخر يعيش بيننا".