بطلة باعتراف أعدائها.. فاطمة نسومر: متصوفة جزائرية أوجعت الفرنسيين

جزائرية متصوفة أوجعت الاستعمار الفرنسي. متى بدأ تصوّف النساء في المغرب العربي؟ وكيف أثّر في المستعمِرين؟ وما الذي تمثله فاطمة نسومر؟

وتذكر ثورتنا العارمه            

بطولات، سيدتي فاطمه

يفجّر بركانها جرجرا            

فترجـف باريس والعاصمه

وأرعفت راندون في كبره      

ودست على أنفه الراغمه

وصعرت للجنرالات خــدا      

فــخابت نـواياهم الآثمــه

أتنسى الجزائر حــواءها        

وأمجادها لم تزل قـائمه؟

(قصيدة الجزائر، مفدي زكرياء، شاعر الثورة الجزائرية)

***

أحدث التصوف ثورة كبرى في تاريخ الإسلام في كل نواحيه الاجتماعية والسياسية والفكرية، وبدأ مُبْكِراً في المشرق، ثم انتقل إلى الغرب الإسلامي. وكان تأثير المتصوفة، في فترات تاريخية متعددة، في التراث الإسلامي كبيراً، بتبنّيهم للعرفان كمصدرٍ إبستمولوجي يجعل من التجربة الروحية والمُجَاهَدَة والذوق سبيلاً جوهريا إلى المعرفة، وتوسُّعهم في مفهوم الولاية ليضحي مقام الوليّ مرتبة روحية تصل إليها نخبةٌ خاصة من المسلمين بالتقرب إلى الله والزهد في ملذات الدنيا ومجاهدة النفس، وصولاً إلى الكشف الذي يستبطن إدراكاً لجوهر الأشياء ولمعاني الغيب.

وتتوطَّد الروابط الروحية بين الوليّ الذي يرجع نسبه غالباً إلى الرسول وآل بيته، ومريديه من عامة المسلمين السالكين، في إطار تراتبية مُنظَّمة ضمن الطريقة الصوفية التي تحولَّت منذ القرن الــ 12 الميلادي إلى الظاهرة التاريخية الأبرز في مختلف البلاد الإسلامية، بسبب وظائفها الاجتماعية والسياسية واستقطابها كل الفئات المجتمعية، والنساء من تلك الفئات التي انخرطت في المجال الصوفي، ولم تكتف بعضهن بمرتبة المريد، وإنما خضن التجربة الروحية، أو تصدَّين للشأن العام انطلاقاً من تجربتهن الصوفية، كما حدث مع لالّة فاطمة نسومر، المتصوفة التي قادت مقاومةً منظمة في مواجهة الاستعمار الفرنسي للجزائر في القرن الــ 19.

جذور حركة النساء المتصوفات في الجزائر 

ابتداءً من القرن الثامن الميلادي، ظهرت أسماء نساء اقتحمن مجال التجربة الصوفية في المشرق الإسلامي، وخصوصاً في العراق وبلاد فارس. وعلى رغم أنَّ اسم رابعة العدوية كان الأكثر شيوعاً، فإنَّ أسماء متعددة من النساء المتصوفات الزاهدات، اللاتي خضن تجارب روحية، نجدها مبثوثة في بطون المصادر التراثية على غرار "كتاب الطبقات الكبير" لمحمد بن سعد البغدادي (784 - 845)، و"كتاب الحيوان" للجاحظ (776-868)، و"ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات" لأبي عبد الرحمان السُّلَمي (936-1021)، و"صفوة الصفوة" لأبي الفرج ابن الجوزي (ت 1201م)، و"وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان (1211 - 1282)، و"المؤمنات وسير السالكات" لتقي الدين الحصني (1351 - 1426)، بينها متصوفات العراق مريم البصرية، ومُعَاذَة بنت عبد الله العدوية، وغُفَيْرَة العابدة، وكُردية بنت عمرو، ومتصوفات الشام مُؤمِنَة بنت بُهلول، وأم هارون الدمشقية ولُبَابَة المتعبِّدة من بيت المقدس، وحَسْنَا بنت فيروز من متصوفات اليمن.

ومن متصوفات بلاد فارس نجد فاطمة النِيسَابُورِية وصفراء الرَّازِية. ومما يلفت الانتباه هو أنَّ عَلَماً كبيراً من أعلام التصوف، وهو الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (1165 - 1240)، أفرد للتجارب الصوفية للمرأة اهتماماً خاصاً، فجزم في "الفتوحات المكية" بأنَّ الجنس لا يحول دون الوصول إلى المراتب الروحية السامية.

هكذا قرّر ابن عربي أنَّ للمرأة الأهلية التامة لبلوغ الولاية بل حتى القطبية، فالمعيار الأساس بالنسبة إليه هو درجة القرب من الله، بمعنى من المعاني أتاح التصوف للمرأة الفرصة لحيازة رتبة دينية واجتماعية عالية، من خلال خوضها غمار التجربة الروحية، وهو ما لا يُتيحه لها الفقه على سبيل المثال. أما في الاصطلاح الصوفي فمنحتها الحقيقة ما لم تمنحه لها الشريعة. هذه الفرادة التي ميزت التصوف في التراث الإسلامي أثارت فضول الدراسات الاستشراقية، والأكاديميا الغربية المهتمة به عموماً، وبالتصوف النسوي بصورة خاصة.

في هذا الإطار، تُعَدّ المستشرقة الألمانية آنا ماري شمل Annemarie schimmel من الذين اهتموا بدراسة الظاهرة، من خلال كتابها "روحي أنثى، الأنوثة في الإسلام" (ترجمة لميس فايد)، والذي ألَّفته بناءً على معايشتها للتصوف في شبه القارة الهندية، وتحدثت عن كبار المتصوفات في التاريخ الإسلامي المُبْكِر ابتداءً برابعة العدوية وصولاً إلى علاقة ابن عربي بالظاهرة من خلال ذكرياته مع "أمه الروحية" فاطمة بنت المُثَنَّى القرطبية. ويضيق المجال هنا للتطرق نقدياً لكتابات المستشرقة الألمانية، وجاء بعدها من الباحثين، التي تعمل على توظيف ظاهرة تصوف النساء وآراء ابن عربي في هذا الصدد، في مواضيع الأنوثة والجندر كونها أسساً مرجعية للتيارات النسوية.

مع الوقت انتقل التصوف إلى بلاد المغرب، وتنقل إلينا المصادر أنّه انتقل من المشرق إلى المغرب عبر الأندلس، التي سلك فيها تشكُّله المسار نفسه الذي عرفه في المشرق، من تصوفٍ زاهد بسيط إلى تصوفٍ ذي أبعاد فلسفية. ويمكن القول إن التصوف استكمل بناءه كمدرسة معرفية وسلوكية في المغرب الإسلامي المُوحَّد تحت راية الإمبراطورية المُوحِّدية في القرن الـــ 12 الميلادي، من خلال متصوفة أندلسيين كبار كأبي مدين الغوث (1126 - 1198)، ومحي الدين ابن عربي (1165 - 1240).

بالتدريج، احتل التصوف مكانة كبيرة في مجتمعات الكيانات الثلاثة التي تقاسمت التركة المُوحدية، من ضمنها المغرب الأوسط أو الجزائر الحالية الذي حكمته سلالة بربرية زناتية. هيمن التصوف على ساحة التدين الشعبي في الأرياف والمناطق النائية كما في الحواضر، التي تقاسمتها لفترات تاريخية متعددة تيارات شيعية وخارجية وسنية متعددة في ظل تفاعلات سياسية واجتماعية واقتصادية قادت في النهاية إلى إسلام المغرب الأوسط والمغرب عموماً.

انطبع تاريخ هذه المنطقة حينها بتوليفة أساسها التصوف في السلوك، والمالكية في الفقه، والأشعرية في العقيدة، باستثناء بؤرة إباضية في منطقة وادي مزاب في الصحراء. من هنا بدأت المرأة في المغرب الأوسط منذ القرن 13م إلى القرن 19م، تدخل هذا المجال الصوفي الذي منحها الأهلية لخوض غمار التجربة الصوفية، ليس كونها مريدة لطريقةٍ صوفية فحسب، بل أن تحاول أيضاً التدرج في المراتب الروحية المعروفة كالأبدال والأوتاد، وصولاً إلى الولاية.

لم يحظ التراث المناقبي الصوفي في المغرب الأوسط بمصادر خاصة لترجمة المتصوفات أو الصالحات على غرار ما حدث في سائر بلاد المغرب أو المشرق، لكنها هذه المصادر أسعفتنا لمعرفة بعض الأسماء في بطون كتب التراجم للمتصوفة والأولياء من الرجال، مثل أمينة بنت يَغْرُوسَن أو مؤمنة التِلْمِسَانية، أو سعيدة المملوكة، أو لالّة سِتِّي دفينة تلمسان، ولالَّة مُغْنِية دفينة المدينة التي تحمل اسمها في أقصى غرب البلاد، أو أسماء متصوفات ترعرعن في كنف عائلات صوفية معروفة، كلالّة كلثوم حفيدة المتصوف الوليّ امحمد بن بوزيان مؤسس الطريقة الزيانية في جنوبي غربي البلاد، ولاحقاً في القرن الـــ 19 لالَّة زينب بنت محمد بن أبي القاسم الهاملي، مؤسس الزاوية القاسمية الرحمانية في جنوبي شرقي الجزائر، مع بعض القصص المرتبطة بتجاربهن الروحية وبكراماتهن.

أما لفظ لالَّة في لغة أهل المغرب فيحيل على معنى السيدة رفيعة المقام والشريفة النسب، وعلى العموم فإننا لا نعرف لماذا جاء ذكر تصوف النساء في المغرب الأوسط مقتضباً حتى في كتابات مؤرخين اهتموا بتاريخ المغرب الأوسط من قبيل يحيى بن خلدون (1332 - 1379) وشقيقه عبد الرحمن (1332 - 1406)، وابن مرزوق التِلْمِسَانِي (1310 - 1379)، وابن قُنْفُد القَسَنْطِينِي (1339 - 1406)، الأمر الذي حال دون معرفة شاملة لحياة المتصوفات ودرجة تأثيرهن الاجتماعي.

الطرق الصوفية والمقاومة في الجزائر

تأسّست الكيانية الجزائرية الحديثة في القرن الــ 16 في سياق مواجهة الأطماع الأوروبية في بلاد المغرب في أعقاب سقوط غرناطة عام 1492، بالتحالف القائم بين الإخوة بربروس والمتصوفة، وعلى رأسهم المتصوف الوليّ الإدريسي أحمد بن يوسف المَلْيَانِي (1437 - 1524)، وساهمت الطرق الصوفية في توطيد الحكم المركزي الجديد وفي مواجهة القوى الأوروبية في غربي المتوسط طوال 3 قرون، إلى أن سقط هذا الحكم المركزي بسقوط مدينة الجزائر في عام 1830.

هكذا كان من الطبيعي أن تملأ الطرق الصوفية الفراغ كونها، إلى جانب القبائل، البنى الاجتماعية المنظمة الوحيدة في البلاد، وتتحمل أعباء التصدي للغزو الذي تحوَّل إلى استعمار استيطاني طوال القرن الــ 19. ولم تكد تسقط راية صوفية مقاومة حتى تتسلمها أخرى. فمع بداية توغل القوات الفرنسية في السهول المحيطة بمدينة الجزائر، بدأت أول مقاومة شعبية عام 1831، قادها سيد علي السعدي أحد شيوخ الطريقة الرحمانية بمعية ابن زعموم ضمَّت تحالفاً من القبائل البربرية الكُتَامِية والصَّنْهَاجِية، ثم التحقا بعدها بمقاومة الأمير عبد القادر ودولته التي خرجت من رحم الطريقة القادرية بين عامَي 1832 و1847م، ثم تلتها مقاومات أخرى تزعَّمها متصوفة كان أبرزها مقاومة الزَّعَاطْشَة عام 1849 التي شارك فيها مريدو الطريقة الدَرْقَاوِية والرحمانية، ومقاومة المقراني والشيخ الحَدَّاد أحد شيوخ الطريقة الرَحْمَانِيَة في الفترة 1871 - 1872، ومقاومة الشيخ بوعمامة شيخ الطريقة الشَيْخِيَة في الفترة 1881 - 1908.

أما ما يهمنا في هذا الصدد فهو المقاومة التي قادتها المتصوفة لالَّة فاطمة نسومر بمعية المتصوف محمد الأمجد بن عبد المالك، المعروف بالشريف بوبغلة بين عامَي 1851 و 1854.  

الجهاد بصيغة المؤنث.. من الخَلوة الصوفية إلى المقاومة

تتميز تجربة لالَّة فاطمة نسومر الصوفية في خروجها عن إطار التجربة الفردية المحضة التي طبعت حالات تصوف النساء في المغرب الأوسط في العصرين الوسيط والحديث، وتحولها إلى حالة اجتماعية، عندما قرَّرت التصدي للشأن العام بقيادة القبائل البربرية الكُتَامِية والصَّنْهَاجِية في بيئتها لمقاومة جيوش الاستعمار التي اقتحمت مناطق أجدادها الجبلية الوعرة في الأرياف الشرقية لمدينة الجزائر المعروفة بجُرْجُرَة، وهو ما كان حكْراً على شيوخ الطرق الصوفية المقاومين طوال القرن الــــ 19.

وُلدت فاطمة بنت السيد أحمد عام 1830 التي شهدت سقوط مدينة الجزائر، في بلدة وَرْجَة في جبال جُرْجُرَة، ولا شك في أنها سمعت في طفولتها بشأن جرائم الإبادة التي صاحبت التوسع الاستعماري في سهول المدينة وأريافها، ومقاومة سيد علي السعدي ومن معه من مريدي الطريقة الرحمانية، ومبايعتهم بعدها للأمير عبد القادر.

ترعرعت في كنف عائلة من أصول حسنية إدريسية توارثت الانتماء للطريقة الرَحْمَانِية الخَلْوَتِية، وخدمة الزوايا المرتبطة بها في المنطقة، وهي طريقة أسسها الوليّ الحسني محمد بن عبد الرحمان المعروف بأبي قبرين (1720 - 1793)، وهي امتدادٌ لطريقة السهروردي (1154-1191) التي عرفت انتشاراً واسعاً في إيران وآسيا الوسطى.

وللزوايا تأثير كبير في تاريخ الجزائر (وبلاد المغرب عموماً) الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي، كونها المؤسسة التي تجسّد سلطة الوليّ وطريقته على المجتمع، والإطار التنظيمي الذي من خلاله تنتقل التجربة الصوفية من بُعدها الفردي إلى الاجتماعي والسياسي.

لم يحُل حرمان لالَّة فاطمة من الالتحاق بالزاوية التي كانت تفتح أبوابها عُرفاً للذكور من دون الإناث، من حفظ آيات القرآن من خلف جدرانها. آثرت التبتل والخلوة ورفض الزواج، وواجهت بذلك العادات الاجتماعية الرافضة لهذا السلوك غير الاعتيادي، في حالة تتكرر مع بدايات التجارب الروحية لعدد من المتصوفات في التاريخ الإسلامي. بدأ سكان القرية ينظرون إلى خَلْوَة الشابة فاطمة على أنها ضرب من التساكن مع الأرواح، فلما حاول شقيقها السي طيب أن يفرض عليها الزواج القسري ويكسر خلوتها، قُطِعت أصابع يده اليسرى وهو يطلق البارود من بندقيته ابتهاجاً بالعرس، في حادثةٍ نُظر إليها على أنها كرامة إلهية لا تُمنح إلا للأصفياء من عباده.

هذه الحادثة كانت أول مؤشرات دخول لالّة فاطمة عمق التجربة الصوفية وبداية ممارستها التأثير في محيطها. الكرامة، التي تُعَدُ جوهرية في الخطاب الصوفي، لها مضمون اجتماعي بالمعنى السوسيولوجي، فهي تُجسِّد الحضور الرمزي للوليّ بين مريديه تؤهله لممارسة هيمنته المقدسة على المجتمع.

انتقلت فاطمة إلى قرية سومر بحيث تفرّغت للعبادة والتأمل في خلوتها وتدبير شؤون الزاوية، ونُسبت إليها حيث أضحى اسمها "لالَّة فاطمة نسومر"، فالنون ضمير للملكية في الألسن البربرية، وهذا تركيب يوافق التركيب الإضافي (المضاف والمضاف إليه) في العربية. ولما خرجت من خَلْوَتِها بدأ الناس يتوافدون على بيتها طلباً للبركة والمشورة. ذاع صيتها بين بطون قبيلة زْوَاوَة الكُتامية. وفي هذه الأثناء كانت أخبار التصدي لزوايا المنطقة وقبائلها للزحف الفرنسي تصل تباعاً، وبرز اسم مقاوم متصوف هو محمد الأمجد بن عبد المالك المعروف بالشريف بوبغلة لنسبه وتنقله على ظهر بغلة.

بدأت فاطمة نسومر تخطب في الناس من حولها وتدعوهم إلى التعبئة استعداداً لساعة الجهاد، إلى أن جاء تعيين المارشال جاك لويس راندون Jacques Louis Randon (1795-1871) حاكماً عاماً على الجزائر، الذي كان يحمل مخططاً يقضي بغزو منطقة القبائل الجبلية شرقي مدينة الجزائر التي ظلت في منأى عن الغزو لوعورة تضاريسها، حتى ذلك التاريخ، فانضمّت نسومر إلى الشريف بوبغلة بعد أن أعلنت الجهاد واستجاب لها طلبة زوايا المنطقة ومريدو الطريقة الرحمانية في كل أرجاء المنطقة، ليُشكِّلوا قيادة لصفوف مقاومة منظمة حشدت قبائل المنطقة في مواجهة شرسة مع الاستعمار.

أسفر إعلان الجهاد عن أول مواجهة مع قوات راندون في معركة واضية عام 1851،بحيث تمكَّنت فاطمة من قتل أحد كبار المتعاملين بيدها، وبرزت كقائدة للمقاومة بعد قتل شريكها الشريف بوبغلة غيلة في عام 1854، ثم أعقبتها معارك أخرى كمعركة وادي سيباو، ومعركة تَشْكِيرْت، ومعارك إِيشْرِيضَن الأولى والثانية عام 1857، التي حققت فيها لالَّة فاطمة انتصارات كبيرة وألحقت خسائر بشرية كبيرة بالجيش الفرنسي وجنرالاته.

جهز الفرنسيون حملة أكبر انتهت بأسر لالَّة فاطمة نسومر ومن كان معها من قيادات من النساء والرجال غدراً في ظل مفاوضات لوقف القتال في 11 تموز/يوليو 1857، أخضعها الفرنسيون بعد ذلك لإقامة جبرية أمضتها في التعبد إلى أن تُوفيت عام 1863.

هكذا انتهى مسار حافل لمتصوفة تميزت عن كل من سبقها من المتصوفات في بلادنا في فترات تاريخية متعددة، سمَّاها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 - 1962)، بل عدها الماريشال راندون، نفسه، "جان دارك جُرْجُرَة"، في تشبيه بالبطلة القومية الفرنسية والقديسة في الكنيسة الكاثوليكية جان دارك (1412 - 1432)، وما كانت لالَّة فاطمة نسومر لتقبل تسمية لا تنبع من تراث إسلامي حافل بأمثلة التضحية والبطولة.  

مثّل التصوف ثورة حقيقية على كل المدارس الفكرية والمنظومات المعرفية التي عرفها التراث الإسلامي من فقه وعلم كلام وفلسفة وغيرها. وكان تصوف النساء جزءاً من هذه الثورة، وانتقل من المشرق إلى المغرب عبر الأندلس، في صورته الفلسفية أولاً، ثم في صورته المُؤَسَّسية الاجتماعية المبنية على الطريقة والزاوية، فهيمن على الساحة الدينية لبلاد المغرب، وضمنها الجزائر.

وحلّ التصوف كتدين شعبي محلّ كل التيارات الدينية التي تصارعت قروناً طويلة للسيطرة على المجال المغربي. وعرف المغرب الأوسط في العصر الوسيط، ثم في الجزائر الحديثة تصوف النساء من ضمن حركة التصوف العامة في البلاد، في شكل أسماء بارزة لنساء متصوفات في فترات تاريخية متعددة. لكن حالة لالَّة فاطمة نسومر تميزت بتفردها في الفضاء الصوفي  في المغرب كما في المشرق، فهي تجاوزت التجربة الصوفية الفردية، لا لتصبح فاعلاً اجتماعياً فحسب، بل لتتصدى أبضاً لعمل سياسي خطير، تمثَّل بقيادة مقاومة منظمة ضد استعمار استيطاني عنيف.