الحرب والسلام: رواية المقاومة الحيّة

تصور الرواية، بدءاً، انتصار نابليون في عدد من المعارك، لكنها تصوّر خسارته لجيشه الفرنسي، كما تصوّر بطولة الشعب الروسي وإنقاذه لروسيا من قبضة نابليون الباطشة.

  • الحرب والسلام: رواية المقاومة الحيّة
    الحرب والسلام: رواية المقاومة الحيّة

بات مما لا شك فيه أنّ رواية (الحرب والسلام) للكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي ( 1828-1910) هي واحدة من أهم روايات المقاومة التي عرفها العالم عامة، ذلك لأنها غطّت فترة زمنية طويلة وحاسمة من حياة الشعب الروسي في أثناء غزو نابليون بونابرت لروسيا، واحتلال جيوشه لأجزاء كبيرة شاسعة من الأراضي الروسية.

استمرت كتابة تولستوي لهذه الرواية سبع سنوات واقعة بين عامي 1862-1869، وفيها أحداثاجتماعية وسياسية، واقتصادية، وتاريخية، مثلما فيها الأحداث التي تخص البطولة، والانتصار، والهزيمة، والإحباط، والخطط، والخنادق، والمشاعر، والقراءات، والمراسلات، والأحلام، وأحداث تخص العشق والحب والأسرار، والخوف والقلق والتوتر،والفقد والغياب، وأحداث تخص الخنادق، والمشافي والحدود، والأوامر، والدماء، والحرائق، والدمار، وأحداث تخص السعادة، والأمن والأمان، والفرح..ولكل هذا فإنه من الصعب على القارئ أن يجتاح الرواية، لأنها قادرة على اجتياحه دائماً بسبب سعة موضوعها، وامتدادية مكانها، وتشعّب أفكارها، وكثرة شخوصها، وتعددية المشاعر التي تتناهبها الأحداث والأخبار والمشاهد.

إنها رواية التعالق الفذ بين المجتمع المدني الذي يستولد ، وقت الحرب، مجتمعاً عسكرياً يدافع عن الثغور، والتخوم،، ذلك التعالق الذي يصل إلى حد التماهي والاندماج فلا تبدو صورة المجتمع المدنية إلا من خلال صورتها العسكرية، ولا تبدو الصورة العسكرية زاهية منتصرة إلا في مرآة المجتمع المدنية.

إنّ الأخبار، والأحداث، والأسرار جميعاً محمولة في سلة عسكرة المجتمع المدني، وكذلك هي الأخبار والأحداث والأسرار جميعاً محمولة في سلة مدنية إلى المجتمع العسكري، لأنهما معاً، المجتمع العسكري والمجتمع المدني، يعيشان في هذه الرواية (الحرب والسلام) كضفتين تحيطان بنهر اسمه الحرب النابليونية على روسيا.

تصور الرواية، بدءاً ، انتصار نابليون في عدد من المعارك، لكنها تصوّر خسارته لجيشه الفرنسي، كما تصوّر بطولة الشعب الروسي وإنقاذه لروسيا من قبضة نابليون الباطشة، مثلما تصوّر مساحات واسعة من المشاعر عاشها الجنود وهم في تقلبهم ما بين مكان مائي رجراج، ومكان بري موحل، وما بين حال انتصار وحال حزن، وما بين معارك نهارية وأخرى ليلية، وما بين تذكر رفيق غاب أو قتل أو فقد، وبين تذكّرالأهل..الأم، والأب، والعشيقة و الأصدقاء.

إنها رواية الحال التي تعرّش فوقها أطياف الموت، والأحزان، والفقد، والآمال التي تبدو في لحظات الإحباط أشبه بالنجوم الملكية التي تتعلق بها النفوس والعقول معاً في وقت عصيب عاشته روسيا كلها على وقع انتصارات نابليون بونابرت السابقة الذي احتلت جيوشه الجرارة الكثير من البلدان الأوروبية، وغير الأوروبية أيضاً، والصمود الكبير الذي عاشه الشعب الروسي من جهة والجيش الروسي من جهة ثانية على الرغم من أنه انهزم في غير معركة وفي غير موقع أمام اندفاعة جيوش نابليون الشرسة.

الفكرة المهمة التي أراد تولستوي إيصالها عبر روايته (الحرب والسلام) فحواها أنّ القوة العمياء وهم، وأنه من الخطل الكبير أن تنسب حوادث التاريخ إلى جهود أشخاص يؤمنون بها، مهما بلغوا من العظمة، وأنّ الإرادة هي إرادة الشعب، وأنّ البطولة هي بطولة المجتمع وليست بطولة الفرد، والانتصارات التي حققها نابليون لم تكن إلا بالقوة العمياء، وانتصار الجيش الروسي على الجيش الفرنسي لم يكن ليتحقق لولا إرادة الشعب الروسي إذ ليس الجيش الروسي سوى جزء من هذا الشعب الذي صمد وصبر وقاوم حتى خذل الفرنسي، وخذل نابليون بونابرت نفسه!

شخوص الرواية كثيرة، وبطولاتها كثيرة أيضاً، ومعرفة هذه الشخصيات وسيرورات حياتها تشكل صعوبة كبيرة للإحاطة بالرواية، فوراء كل شخصية سلالة عائلية متعددة بذكورها وإناثها، مثلما هي متعددة بقصصها وأخبارها، ولكن يمكن حصر بطولة هذه الرواية في عدد من الشخصيات مثل: الأمير بولكونسكي الصلب في قراراته، المتمسك بمبادئه الذي عرف أنّ الحياة نظام، ونيكولاي روستوف الجندي الشجاع الفرح بالحياة سواء أكانت في المدينة أو في الخنادق، والفرح بزواجه من الأميرة (ثريا) ابنة الأمير بولكونسكي، يتمنى أن تنتهي الحرب بظفر الجيش الروسي كي يسعدها بالحياة، فيعود إلى عالم الأشجار والنبات والزهور والفلاحة والطيور، وهناك شخصية دولوكوف صاحب الشجاعة النادرة واللسان السليط، والسخرية المرة، والتهكم الموجع، إذ لا شيء يعجبه إن لم يكن موجهاً نحو معركة الخلاص من شرور نابليون! كما تبدو شخصية أمير آخر هو ناسيلي الذي عرف دعة الحياة والجاه، فتأتي الحرب ليعرف القلق والخوف من مخاطرها، وتبدو شخصية ابنه أناتول على صورة جديدة خلقتها ظروف الحرب، شخصية متزنة بعيدة عن التهتك والدعة وانتهاك الأعراض، أي بعيدة عن ما عرفت عليه قبل المواجهة ما بين الجيش الروسي وجيوش فرنسا، إن وعيه بالأخطار المحدقة بروسيا تحوله إلى رجل يعرف واجبه تجاه الأرض الروسية، وهذا ما يجعله عالياً في نظر أبناء الشعب، كذلك تبدو شخصية القائد الروسي كوتوسوف الذي أبدى حكمة في قيادة المعارك، مثلما أبدى كفاءة في التخطيط والمثابرة والصبر، وقد كان من المقدر لهذه الشخصية أن تبدو شخصية عظيمة غير أنّ تولستوي/ المؤلف لا يؤمن بأنّ الشخصيات العظيمة هي التي تشكّل مسار التاريخ. إنّ المسارات الجديدة للتاريخ تشكّلها إرادة الشعب فحسب.

(الحرب والسلام) رواية تاريخية، فلسفية، اجتماعية، سياسية كشفت عن دموية نابليون بونابرت ونهمه للمجد ولو على تلال من الجماجم، كما أنها كشفت عن صلادة الشعب الروسي وثباته على الرغم من هزيمة الجيش الروسي في مواضع ومعارك عدة.

لقد أراد تولستوي المولود سنة (1828) أن يؤكد حيوية الروح المقاومة التي تعيشها كل نفس روسية، والتي تزداد حيوية في أيام الخطر والتهديد وقد استطاعت الرواية أن تصوّر الحياة العسكرية تصويراً واقعياً كما لو انّ تولستوي كان جندياً يعيش أحداثها، ولعل هذا عائد إلى أنّ تولستوي كان قد انخرط في الجيش الروسي عام 1851 إبان حرب القرم، وشارك في معارك وكتب عنها كتابه المعروف (لوحات من سيباستوبول) وهي قصص الفقد والموت والأسر والمشافي وانهيارات الأنفاق والكهوف، وويلات البرد والثلج في الشتاء.

ولأنّ تولستوي كان منحازاً إلى طبقة الفقراء والمحرومين، مع انه ينحدر من سلالة إقطاعية، ويحمل لقب كونت، فقد سلّط الأضواء في روايته (الحرب والسلام) على الأدوار التي لعبها أبناء الطبقات الفقيرة الذين انخرطوا في الجيش الروسي وهم في مواجهتهم لجيش نابليون، وهي أدوار محتشدة بالبطولة والفداء، بينما أشار إلى حياة الرغد والدعة والتهتك التي عاشها أولاد النبلاء الأمراء، أولاد الطبقات الثرية في أثناء الخطر الذي حملته معها جيوش نابليون، ورأى أنّ حياة الفلاحين، وأبناء الطبقات الفقيرة لم تتغير في أثناء المواجهة مع نابليون فهم ومثلما كانوا يذودون بكل ما يمتلكون عن الوطن كي لا يقع فريسة سهلة بين أيدي الأشرار  والاقطاعيين في الداخل الذين ينهبون كل شيء،والذين يستحوذون على كل شيء.. هم أيضاً في أثناء الخطر الخارجي يذودون عن الوطن كي لا يقع فريسة سهلة بين أيدي الأشرار الآتين من الخارج..وهكذا ظلّت حياة أبناء الطبقات الثرية منصرفة ومطاردة لنزوات الحياة ومغرياتها.

لذلك لم يكن تولستوي، ولا روايته (الحرب والسلام)، من المراهنين على المسار التاريخي الذي يصنعه الأفراد، خصوصاً إذا ما كانوا أثرياء او أمراء، فالمسار التاريخي لا تصنعه سوى الشعوب.

وأياً كانت الحال، فإنّ رواية (الحرب والسلام) رواية مقاومة يتراصف فيها التاريخي إلى جوار الاجتماعي، مثلما يتراصف فيها الفلسفي والعاطفي، وهي نموذج عالمي للمقاومة النابعة من ضمير الشعب ووجدانه لا من قرارات ومدونات الإملاء والتلقين.