إسراء زيدان: الجسد الأنثوي بلا تنميط
"يا هوا بيروت" ليس مجرد مناسبة فنية/اجتماعية، بل إعلان موقف تقوله فرشاة الرسّامة التي اختبرت سطوة النظرات الذكورية على جسدها، تنتقم بالفرح لأنها لا ترسم النساء ممتلئات فحسب، بل ترسمهنَّ سيدات لكامل المساحة الكونية.
-
من أعمال إسراء زيدان
كأنّ قدر بيروت الدائم أن تناضل بجمالها ضد العدوان والحروب والفساد والإهمال، من أمسية شعرية إلى عرض مسرحي فمعرض تشكيلي تكافح العاصمة اللبنانية كي تظل منبراً للإبداع وفسحة للحرية.
في "غاليري مايا آرت سبيس" وتحت رعاية سفير مصر لدى لبنان، علاء موسى، وبشراكة "فيلا آزاد للفن"، جرى قص شريط افتتاح معرض أشبه بواحة مُعطّرة بألوان الحرية.
هنا، حيث تعلو صرخات الألوان فوق أزيز المسيّرات الإسرائيلية المعادية، تُطل الفنانة المصرية، إسراء زيدان، بمعرضها "يا هوا بيروت" لترسم أناشيد فرح للجسد الأنثوي الذي يرفض أن يكون سجين مقاييس نمطية وقوالب جاهزة.
يتسرب الضوء عبر نوافذ الغاليري ليلامس لوحات تتنفّس حياة: نساء ممتلئات كأنهنّ أنهار تفيض بالصفاء، يرقصنَ على شواطئ بيروت الذهبية، ويتمددنَ تحت شمسها كأنهنّ يغرفنَ الدفء من قلب السماء. لا انكسار في عيونهنّ المشعة، ولا اعتذار في ضحكاتهنّ التي تكاد تخرج من إطار اللوحات. إنهنّ يحوّلنَ الخفَر الأنثوي إلى ما يشبه حركة الفراشات في الهواء الصيفي، ويحملنَ امتلاءهنّ كتاجٍ من نور.
بفرشاةٍ تخلط الأكريليك الزاهي بحكايات التحدي، تُعيد زيدان تعريف الجمال: خطوطٌ منحنية كأنها قصائد مكتوبة بمداد الراحة، تروي حكاية الجسد الذي يرفض أن يُقاس بمسطرة الموضة. الزهريّ يُغنّي أناشيد القبول، والأزرق يرفرف كأجنحة تحرر، والأخضر يصرخ: "هذا جسدي وطني الذي أتوجّ فيه ملكةً". الزهور تتسلل بين طيات الألوان، والفراشات ترافق تحليق الأجساد في الفضاء، وكأن الطبيعة نفسها تُبارك هذا التمرّد البهيّ.
"يا هوا بيروت!" ليس عنواناً عابراً، بل هو نَفَسٌ يحاكي روح مدينة تمنح الجسد الحرية ليكون قصيدةً بصرية. الفنانة (30 عاماً) التي تخرجت من كلية الفنون التطبيقية في مدينة حلوان، تحمل في لوحاتها فلسفة نسوية صادقة: "الامتلاء ليس جُرماً.. بل هو فعل مقاومة ضد مقصّات الجمال الجاهزة".
من تجربتها الشخصية مع جسدها، إلى دعم أمّها التي علمتها أن ترى نفسها "جميلة كما هي"، نسجت إسراء عالماً يُذكّرنا بأنّ الجمال الحقيقيّ يسكن في عين لا تبحث عن عيوب، بل عن إبداعات الخالق في خلقه، وعن مكامن الجمال في كل شكل أو رسم.
في المعرض (شارع عبد الملك، خلف مبنى بلدية بيروت)، يجد الزائر نفسه في كرنفال مبهج: أجساد تتحرّك بحرية كأن العالم مسرح لها وحدها، وألوان تُفجّر فرحاً خالصاً ينتقل كعدوى سعيدة. هنا، حيث اللوحات تشبه مرايا الروح، يصبح كل جسد ممتلئ واحة تُنبِت زهور الكرامة، وكل منحنى بارز خريطة لجمال لم تروِه الأساطير بعد.
"يا هوا بيروت" ليس مجرد مناسبة فنية/اجتماعية، بل إعلان موقف تقوله فرشاة الرسّامة التي اختبرت سطوة النظرات الذكورية على جسدها، تنتقم بالفرح لأنها لا ترسم النساء ممتلئات فحسب، بل ترسمهنَّ سيدات لكامل المساحة الكونية.
رعاية رجل لحفل الافتتاح — بينما تغيب الذكورة تماماً عن اللوحات — تصبح مفارقة لافتة؛ فالفن هنا لا يرفض الرجل، بل يرفض أن يكون الرجل حارساً وقيّماً على الجمال، أو محدِّداً لمقاييسه ومعاييره وفق المنطق الذكوري السلطوي.
بيروت التي عانت من قسوة الحرب، تحتضن احتفالاً بالحياة في أبهى صورها. ومع كل ضحكة مرسومة، وكل جسد يحلّق في فضاء اللوحة، تُلخّص إسراء زيدان رسالتها: "الجسد الممتلئ بالحياة وليمة للعين والروح، ولم يُخلق أحد ليأكل من مائدة الوجود خلسة".
إذاً، تحية لبيروت، ولإسراء، وللجمال الذي يرفض أن يُختزل في قياس.