أمستردام..ليست مجرد مشاجرة!

المثل الشعبي الشائع يقول "كُثر الدقّ يفكّ اللِّحام". لا يمكن للبشرية أن تستمر على هذا النحو من الظلم والظلام. الانفجار الكبير آتٍ ولو بعد حين.

ما حدث في العاصمة الهولندية، أمستردام، ليس مجرد مشاجرة كالتي تحصل عادة بين مشجعي كرة القدم. الأمر أبعد من ذلك وأعمق. إنه مؤشر على حجم الاحتقان الذي تسببت به الجرائم الإسرائيلية في غزة ولبنان، والخطاب العنصري والمتطرف الذي بات سمة "تميّز" معظم ما يتفوّه قادة الاحتلال ومسؤولوه.

هذا الخطاب العنصري نفسه هو ما يهتف به جمهور نادي "مكابي تل أبيب" الصهيوني أينما حضر. ومن المعروف أن هذا الجمهور هو من بين الأكثر تطرفاً وعنصرية. إذ لا تخلو مشاركة له من مشكلة أو "مشاجرة"، وهو لم يحترم حتى دقيقة الصمت إجلالاً لضحايا الفيضانات في فالنسيا الإسبانية، قبيل انطلاق المباراة بين "مكابي تل أبيب" و"أياكس أمستردام"، وظل يردد هتافاته القذرة.

ما حدث في أمستردام ليس مجرد مشاجرة. تمزيق الأعلام الفلسطينية والهتافات المبتذلة المعادية للعرب التي سبقت وتلت المباراة بين الناديين الإسرائيلي والهولندي تعبّر خير تعبير وتقدّم نموذجاً عن مدى التطرف والانحطاط الذي بلغه المجتمع الإسرائيلي، الذي أيّد بغالبيته العظمى جريمة الإبادة الجماعيّة ضد أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، ودعم العدوان الهمجي على لبنان.

ردة فعل الشبان العرب، أياً كانت شرائحهم وبيئاتهم، ليست فقط شعوراً بالغضب والاستفزاز من تصرفات جمهور "مكابي" العنصري المتفاخر بجرائم جيشه من قتل للأطفال وتدمير للمدارس في غزة، بل هي أيضاً نتاج احتقان يعتمل في الصدور بفعل جريمة الإبادة الجماعية المتمادية في غزة، وإمعان الاحتلال في القتل والتدمير والتهجير من منطقة إلى أخرى، ومحاولة إخلاء شمال القطاع كلياً من أهله وسكانه، مسبوقة بعقود من الظلم والبطش والتنكيل.

كلّ ذلك يجري فيما "العالم المتحضّر" يصمت ويتفرج، أو يتواطأ ويستمر برفد الاحتلال بالعتاد والذخائر القاتلة والمدمرة. هذا العالم نفسه الذي لم تهتز له شعرة حيال مقتل أكثر من 43 ألف إنسان فلسطيني جلّهم من الأطفال والنساء، وجرح أكثر من 100 ألف آخرين، فضلاً عن آلاف المفقودين تحت الركام، هبّ ليصف ما جرى في أمستردام بأنه "معاداة للسامية"!

حين تتهم العرب بمعاداة السامية يصير الأمر أشبه بنكتة سمجة. إذ كيف لأمة أن تعادي نفسها. لكن معاداة السامية باتت حجة حاضرة ناضرة لوسم ووصم أي شكل من أشكال الاحتجاج على الممارسات الصهيونية، وقمع كل الأصوات المناهضة للاحتلال وارتكاباته في فلسطين المحتلة.

حجة معاداة السامية ساقطة أمام ما حدث في أمستردام، لأن ردة فعل الشبان العرب الغاضبين من جرائم الاحتلال ومن ممارسات جمهور "مكابي"، لم تكن ضد هذا الجمهور بوصفه جمهوراً يهودياً، بل لأنه مجموعة من الرعاع المتطرفين. فما فعلوه في أمستردام موثّق بالصوت والصورة: تمزيق الأعلام الفلسطينية والهتافات البذيئة ضد العرب أجمعين والسلوك الهمجي وغير الحضاري في الملعب وفي الشارع، كل هذا لم يره الذين يتطلعون إلينا بعين واحدة ويكيلون بمكيالين.

الذين هبّوا لاعتبار ما جرى في أمستردام معاداةً للسامية هم أنفسهم الذين يدعمون جرائم الاحتلال في غزة ولبنان، وبعضهم يبرّر حتى قتل المدنيين(وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك مثالاً). هؤلاء عليهم أن يعلموا أن جريمة الإبادة الجماعية غير المسبوقة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي والمدعومة من قبل ما يُسمّى "العالم المتحضّر" ستساهم بخلق أجيال من الغاضبين الذين يتحينون الفرصة للثأر والانتقام.

العالم الذي ينحاز للقاتل ضد القتيل ماذا يتوقّع من أبناء القتيل؟ ماذا يتوقع من أطفال يشاهدون أترابهم مقطوعي الرؤوس، وذويهم مدفونين تحت ركام بيوتهم ومرابع أحلامهم؟ ماذا ينتظر من طفل لم يبلغ العاشرة من عمره أُضطّر لقضاء ليلة بأكملها مع جثامين أمه وأبيه وأخوته؟ أو من طفلة في الثامنة حملت على ظهرها أختها الأصغر المصابة باحثة عن بقية مستشفى لم يدمرها الاحتلال؟ أو من فتى رأى بأمّ عينه أمه تحترق في خيمتها التي هُجِّرت إليها؟ أو من شاب لا يزال ذووه تحت الأنقاض؟

حقاً، ماذا يتوقع هذا العالم من جيل يعيش في قلب محرقة يومية دافعاً ثمن محرقة حصلت قبل عقود لا يد له فيها ولا ناقة أو جمل؟ وماذا يتوقع من شباب العرب وسواهم وهم يشاهدون يومياً ضراوة المذبحة في فلسطين ولبنان؟ ألا يدرك هذا العالم أنه يهييء المناخ المولّد للثأر والانتقام أينما سنحت الفرصة.

نكرر، ما حدث في أمستردام ليس مجرد مشاجرة. إنه مؤشر على حجم الغضب الكامن النفوس، والشعور بالظلم المعتمل في الصدور. ففي عالم اليوم لم يعد في إمكان القوى المهيمنة إخفاء حقيقة ما يجري. ما كان يحجبه الإعلام التقليدي الممسوك من قبل الحكومات والأنظمة بات يفضحه الإعلام البديل القادر على نقل الحقيقة على الرغم من كل محاولات الحظر والحجب والمنع والتقييد.

بسبب سياسات الغطرسة والهيمنة التي تنتهجها "القوى العظمى"، والدعم اللامحدود واللامشروط لـــ"دولة" الاحتلال، وبسبب الاحتلال نفسه وما يرتكبه، من البديهي أن نشهد أكثر من ردة فعل وأكثر من موجة غضب. المثل الشعبي الشائع يقول "كُثر الدقّ يفكّ اللِّحام". لا يمكن للبشرية أن تستمر على هذا النحو من الظلم والظلام. الانفجار الكبير آتٍ ولو بعد حين.
 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.