آيات جرادي في" شباك سلوى": شعرية التاريخ والجغرافيا
بلغة موغلة في الشعرية كثيفة الفيء والظلال يحضر فيها التلميح ويغيب التصريح يشقّ قلم جرادي طريقه كزورق مسافر في التاريخ باحثاً عن الجذر التاريخي للحظة الراهنة.
تستهلّ آيات جرادي مجموعتها الشعرية الموسومة بـ" شباك سلوى "والصادرة حديثاً عن "دار الولاء" في بيروت بقصيدة حملت العنوان نفسه "شباك سلوى" حيث تضع الأقدار سلوى في ذلك المكان ـــــ القدس ـــــ العابق بالشعرية المتدفّقة من التاريخ والجغرافيا معاً، فتأتي الشاعرة آيات جرادي لتفتح لها شباكاً على الذكريات، فدكان سلوى الكائن في إحدى حارات القدس القديمة له شباك" على كف عفريت..!
فلو ثبّتته بغصن لأرخته ريح...!
ويُمسكه الله
حتى يوزّع من خلف شباكها الزهر والطهر والعطر.
كانت إذا حدّقت من بعيد على القدس،
وقالت سلام
...
ردّت عليها السلام".
الشباك هو الذي يتيح الرؤية والإطلالة من الداخل لكل ما
هو متاح للرؤية في الخارج. منه ينبعث البصر الشعري من وراء كلّ حاسة، ويبصر من خواطره المنبثَّة في كل معنى، فعندما تطل سلوى من شباكها ترى القدس، وكل ما هو جميل وآسر في المدينة المقدّسة بكلّ محمولاتها الثقافية الممكنة وغير الممكنة، وتتأمل القدس بكل تاريخها بعينين لهما عشق خاص كأنما عينا سلوى خُلقتا لرؤية السِّحْر الخاص بالقدس والتغزّل به، تحدّق من بعيد بهالات النور التي تحيط بها تقول لها سلاماً، فتردّ عليها السلام.
يتلقَّى شباك سلوى النور من كلّ ما حولها فتعكسه آيات جرادي في صناعة شعرية متموِّجة بالألوان والصور والكلمات. من هذا الشباك تلملم آيات الأشياء لتبدع منها صوراً زاهية للقدس، فالأشياء بنظر سلوى لم تعد كما هي لأنّ خيال الشاعرة استخلص منها أسرار المكان وما جرى عليه عبر الأزمان لتضيف إلى الإنسانية موجات عالية من المعاني السامية التي تقرأها في أخبار الأولين وآثار الغابرين .
"تقصّ عليهم حكاية قوم سدوم مدائن لوط
وقد مسّها الكسف
لم يترك الله فيها سوى آية،
ليتهم يعقلون...!"
بلغة موغلة في الشعرية كثيفة الفيء والظلال يحضر فيها التلميح ويغيب التصريح يشقّ قلم جرادي طريقه كزورق مسافر في التاريخ باحثاً عن الجذر التاريخي للحظة الراهنة، كأننا إزاء كتابة أشبه ما تكون بحفريات عميقة في التاريخ.
"وتمسح عنهم بقايا ثمود وعاد
فكم قتلوا النفس،
فكم خلقوا الإفك،
كم نحتوا الصخر
كم عقروها"...
لا تعيش سلوى عُمراً واحداً، وإنما أعماراً كثيرة كأنما نفسها تنطوي على نفوس مختلفة تجمع الإنسانية بأسلافها، لتفيض على اللحظة الراهنة كل تلك الأعمار، كأنما القصيدة هنا نبع إنساني للإحساس تغترف منه لتزيد رهافتها وتدرك أشياء فوق أحاسيسها وضروراتها المباشرة وتتصل بلذات المعاني الجميلة الكامنة وراء الحقيقة الخالدة .
"فإنّا لبلداننا حافظون..
وكم نضحت ثوبهم بالدموع
وفي قلبها ألف جرح وشكٍ دفين
بأنّ الدماء التي وسّخت بيض أثوابهم
من صنيع يديهم وما يؤفكون...
وتمسح عنهم بقايا ثمود وعاد
فكم قتلوا النفس،
كم خلقوا الإفك،
كم نحتوا الصخر،
كم عقروها"...
غياب أبي
في قصيدة" غياب أبي" تجرح آيات جرادي قلبها وتكتب بالدم رسائل إلى الحبيب المفترض وهو أبوها الذي استشهد على أرض الجنوب، تكتب بالدم تجربتها الحسية في صراع مرير رافقها منذ لحظة الولادة.
" غياب أبي...
يحاصرهُ السكوت...
وفي الأعماق نفس تستميت!
وأعوام بكفّ العمر ضاعت،
حواها الحزنُ
ليس لها بيوت"!
فوضى
لا تكاد تلتئم جراحات الشاعرة من الحب الأول حتى يداهمها حب آخر لا يقلّ نزفه عن الحب الأول حتى يقلّ عنه اصطبارها وتغرق في فوضاها، ففي قصيدة حملت عنوان" فوضى" تغرز نصلها في الشريان فينزّ حبراً أحمر لتحكي عشقها المنبعث من تراكمات الصراخ الداخلي فتفيض نهراً من فوضى الأحاسيس والشعور علّها تعيد شيئاً من التوازن المفقود مع الحبيب المنتصر دائماً في وجدانها، والتماهي المفترض معه يبقى تماهياً مهزوماً كأنّ نصها نوع من الاستسلام اللذيذ إلى الداخل.
"أحبك حتى عظامي...
ولا حدّ للحب عندي
لأني...
فقدت الشعور...
لأني...
سئمت المواعد بيني وبين انتظاري...
لأني... ولا شكّ أني..
حجزت المقاعد، كلّ المقاعد
في مسرح العمر وحدي،
وبعت التذاكر للصبر
ثمّ استضفت اصطباري"..
هكذا ينبغي للعاشق أن يكون أو لا ينبغي له أن يدخل حرم العشق أو يقترب من أبوابه.
زرادشت
زرادشت عاد إلى الجبال بجثةْ..
يمشي على حبل العقول الرثةْ..
والراقصُ المجنون يتبع إثره:
إرحل.. فإنّ الله أوقف بثّهْ..
زرادشت هو رمز الإصلاح الديني في الأساطير الفارسية القديمة وهو السماوي الساطع ومصدر القوة الروحية.
تعود بنا الشاعرة إلى الصراع القديم، الذي تعتمد فيه الأساطير الفارسية على مفهوم زرادشتي للانبعاث المزدوج لـ( أهورامزدا (الأفستية أو ( أهورامزدا) في الفارسية الأخيرة
غير أن زرادشت يمشي على حبل العقول الرثة محاذراً
السقوط في مهاوي جهالتها، حتى يوافيه لطف الله وينزل عليه غيثه، لكن العاشق لا يرتو، فيكمل بحثه عن المعشوق
على الرغم من أن" الله أوقف بثه.
والشمس عانقت المغارة
لم ينته التحليق، لما يبلغ
- المعشوق-
لكن أكمل بحثه" ...!
وهكذا تمضي آيات جرادي في مغامرتها الشعرية تتنوّع قصائدها بين الحب والحنان والالتزام والفلسفة والتصوّف ..:قل لي عن السمراء ، تأخّرت، غياب أبي، إذا عاد، قامة الضوء، يا حظ تلك الجارية، عروج، أنا عاشق، حتى متى؟ بيت أمي .....ثماني عشرة قصيدة تتمدّد على جسد الديوان وكل واحدة من هذه القصائد أشبه بلحظة تفكير شعوري في العالم ، وليس مجرد اشتغال شعري شكلاني بالنص كموضوع منفصل عن العالم.