هل تنجح إجراءات ترامب في إبعاد الاقتصاد الأميركي عن حافة الهاوية؟
هل تحقق الاستراتيجيات الحمائية لإدارة ترامب أهدافها المرسومة، مثل تخفيض الواردات، وبالتالي عجز الميزان التجاري المهول، أم أنها محكومة بالفشل مسبقاً؟
-
إذا أضعف ترامب الدولار فإن ذلك سيقلص من وزن الاقتصاد الأميركي من الاقتصاد العالمي.
حذّر آخر تقرير لصندوق النقد الدولي من أن جولات رفع الرسوم الجمركية التي أطلق دونالد ترامب العنان لها أحدثت "صدمة سلبية كبرى" في الاقتصاد العالمي، وأن تصاعد الرسوم الجمركية عالمياً إلى مستويات غير مشهودة منذ قرن، والتوترات التجارية الدولية المتصاعدة، إضافةً إلى حالة عدم اليقين بشأن السياسات المنوي اتباعها، ستترك أثراً سلبياً كبيراً في النشاط الاقتصادي دولياً، وستجعل وضع توقعات منهجية بشأن مساراته أصعب من العادة.
خفّض صندوق النقد الدولي، في تقريره الأخير، توقعاته لمعدل النمو الاقتصادي عالمياً إلى 2.8% في العام الجاري، نزولاً من توقع نموه 3.3% في تقريره السابق، في كانون الثاني / يناير الفائت.
كما خفض توقعاته لمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي إلى 1.8% في هذا التقرير، نزولاً من 2.7% في التقرير السابق، وللصين إلى 4%، نزولاً من 4.6%، ولبريطانيا إلى 1.1%، بدلاً من 1.6%، ولكندا 1.4%، بدلاً من 2%، ولليابان 0.6%، بدلاً من 1.1%. وخفضها لمنطقة اليورو من 1% إلى 0.8%، وللاقتصادات الصاعدة والنامية من 4.2% إلى 3.7%.
أما التضخم، فرفع تقرير صندوق النقد الدولي توقعاته بشأنه لهذا العام، بالنسبة إلى الاقتصادات المتقدمة، من 2.1% في تقريره السابق إلى 2.5% في تقريره الجديد، ومن 4.2% عالمياً إلى 4.3%. وفي الولايات المتحدة، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته للتضخم من 2% إلى 3% في غضون العام الجاري.
لكنها نسبٌ وتقلبات تراوح ضمن نطاقات مألوفة، لا تتناسب مع التهويل والمبالغات الواردة في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير بشأن المخاطر المترتبة على إجراءات ترامب، وردود فعل دول العالم عليها، إذ إن تخفيض توقع معدل النمو الاقتصادي عالمياً لهذه السنة بمقدار 0.5%، ورفع توقع معدل التضخم عالمياً بمقدار 0.1%، انطلاقاً من معدلات نمو تحوم حول 3%، أو 4%، من الصعوبة بمكان أن يوصف بأنه نذيرٌ للركود التضخمي Stagflation، ناهيك بصعوبة ربط تلك التغيرات في التوقعات برفع الرسوم الجمركية حصرياً دون غيرها من العوامل.
وتدل الإحصائيات التي قدّرها تقرير الصندوق الدولي ذاته على أن أثر الرسوم الجمركية على الاقتصاد الدولي في العام المقبل سيكون أقل شأناً منه في العام الجاري. وتظل الآثار الخطيرة طويلة المدى التي تنبأ بها التقرير، من دون إحصاءات، مبهمة. لكنّ المشكلة تبقى نوعية، أكثر منها كمية، بالنسبة إلى المستفزين أيديولوجياً من الانقضاض على التجارة الحرة ومنظومة العولمة، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي.
هناك اضطرابٌ في مؤشرات الأسواق طبعاً، ولا سيما الأوراق المالية والمعادن والعملات، لكنه اضطرابٌ محدودٌ قياساً بالتحول النوعي الذي تقتضيه إعادة هندسة الاقتصاد الدولي، إذا مضت إدارة ترامب في خطواتها حتى النهاية. وهي أسواق شديدة التأثر بالتوقعات أصلاً، وبالتالي بعدم اليقين بشأنها. لذلك، من الممكن أن تتقلب أكثر في المستقبل القريب، مع عدم اتضاح وجهة التوترات التجارية دولياً، وما إذا كانت ستهدأ أم ستتصاعد أكثر.
يبقى السؤال الذهبي: هل تحقق الاستراتيجيات الحمائية لإدارة ترامب أهدافها المرسومة، مثل تخفيض الواردات، وبالتالي عجز الميزان التجاري المهول، أم أنها محكومة بالفشل مسبقاً، بغض النظر عن ملاءمتها كاستراتيجيات لمعالجة مشكلات الاقتصاد الأميركي البنيوية؟ وإذا افترضنا أنها استراتيجيات فعالة، فهل تؤدي دورها كمسكنات، مخففةً من وطأة العوارض فحسب، أم أنها ستعالج مشكلة اقتصاد أكبر دولة إمبريالية، هي الولايات المتحدة الأميركية، من جذورها؟
لنأخذ بعض أبرز معالم المشكلة التي دفعت ترامب وفريقه إلى تبني سياسات وضعتهم في مسار تصادمي مباشر مع قوى العولمة، مثل:
أ – عجز الميزان التجاري، أي الفرق بين الصادرات والواردات من السلع، والذي بلغ أقل من ترليون دولار سنة 2022، وأكثر من ترليون دولار بقليل سنة 2023، و1.2 ترليون دولار سنة 2024، وهو رقمٌ قياسي.
ويساهم هذا العجز في إبقاء الحساب الجاري في حالة عجزٍ بقيمة 1.13 ترليون دولار سنة 2024، إضافة إلى عجزٍ آخر، بنحو 200 مليار دولار في التحويلات الإحادية (ومنها بند المساعدات الخارجية، ومن هنا استهدافها بالتقليص)، وذلك على الرغم من فائض في ميزان الخدمات بنحو 300 مليار دولار سنة 2024، بحسب مكتب التحليل الاقتصادي (BEA) الرسمي الأميركي.
ب – العجز السنوي للموازنة العامة، والذي بلغ 1.4 ترليون دولار في السنة المالية 2022، و1.7 ترليون في السنة المالية 2023، و1.83 ترليون دولار في السنة المالية 2024، وهو رقم قياسي أيضاً.
ويساوي عجز الموازنة العامة التراكمي عبر السنوات ما يسمى الدين العام للحكومة الفيدرالية، ويبلغ حالياً 36.22 ترليون دولار، وهو أعلى دين عام عالمياً وتاريخياً. وكانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي الأميركي 124% مع نهاية سنة 2024.
جـ - تآكل القاعدة الصناعية للاقتصاد الأميركي في ظل العولمة، وهو عنوانٌ رئيس في حملة ترامب الانتخابية وبرنامجه الاقتصادي.
وتدل الإحصاءات أن عدد العاملين في التصنيع في الولايات المتحدة انخفض من 19.5 مليون عامل سنة 1980 إلى 12.76 مليون سنة 2025. أما نسبة العاملين في التصنيع فانخفضت من 22% سنة 1979 إلى نحو 8% من القوة العاملة الأميركية حالياً. وهم الأقرب إلى التعريف الرسمي لمصطلح "بروليتاريا".
يشار إلى أن مصطلح "التصنيع" يعني إنتاج السلع تحديداً، من الإبرة إلى الطائرة النفاثة، الذي يختلف عن "الصناعة" بالمعنى العام، فهو لا يضم مثلاً قطاعات مثل البناء والمناجم وآبار النفط والغاز والمواصلات والمخازن ومرافق البنية التحتية كالكهرباء وغيرها.
تبلغ نسبة إسهام التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي أقل قليلاً من 10% حالياً، في حين كانت 22.5% سنة 1980. وعلى الرغم من أن انخفاض نسبة التصنيع، في مقابل ارتفاع نسبة الخدمات، في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي تعكس اتجاهاً عالمياً في الاقتصادات المتقدمة، الأمر الذي يراه كثيرون تطوراً طبيعياً من الزراعة والخامات إلى الصناعة إلى الخدمات، إلا أن ذلك خلق مشكلتين مستعصيتين من المنظور الأميركي:
1 – أن نسبة إسهام التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي تتخلف عن مثيلاتها في بعض شركائها التجاريين الأساسيين. وتبلغ نسبة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي 26% في الصين، و24% في كوريا الجنوبية، و20% في المكسيك، و19% في كلٍ من ألمانيا واليابان، و18% في سويسرا، بحسب إحصاءات 2023، وهذا يفاقم العجز التجاري الأميركي.
كما أن حالات مثل سويسرا (18%) والنمسا (16%) وفنلندا (15%)، كاقتصادات متقدمة ترتفع فيها تكلفة العمل، لكنها تحافظ، رغم ذلك، على قاعدة تصنيع متطورة وواسعة، تفسح مجالاً للشك في نظرية التطور الطبيعي من التصنيع إلى الخدمات.
2 – أن تآكل التصنيع في الولايات المتحدة لا يطال الصناعات الاستهلاكية الخفيفة فحسب، بل قطاعات ذات صلة بالأمن القومي، مثل الفولاذ وأشباه الموصلات وغيرها. وكما جاء في تقرير في مجلة "ذا أتلانتيك"، في 17/12/2024، بعنوان "القاعدة المتهاوية للعسكرية الأميركية": "في كل أنواع التصنيع العسكري، من الأكثر إلى الأقل تطوراً، نعتمد في المواد الخام والمكونات – اليورانيوم، والمواد الكيميائية، والمتفجرات، والرقائق الإلكترونية، وقطع الغيار، والخبرة – على سلسلة توريد عالمية متوسعة تشمل، في بعض الحالات، البلدان نفسها التي يرجح أن نقاتلها، مثل روسيا والصين"!
ويعلق كاتبٌ، في 11/4/2025، في موقع Unherd (التي تعني الانفصال عن القطيع) ساخراً: "لتأجيج حربها في أوكرانيا، اضطرت إدارة بايدن إلى وضع برنامج عاجل لبناء مصانع الـ تي أن تي TNT، لأن سلسلة التوريد القديمة لذلك النوع من المتفجرات استولى عليها سحرة الاستحواذ على الشركات ودمجها في وول ستريت، ونُقِلت بنجاح إلى روسيا والصين. عفواً!!!".
يجادل المدافعون عن العولمة أن انخفاض نسبة التوظيف في التصنيع في الاقتصادات المتقدمة هو نتيجة طبيعية لحلول التكنولوجيا، ومستقبلاً الذكاء الاصطناعي، محل العمل البشري. كما أنه نتيجة طبيعية، من جهةٍ أخرى، لتصدير الصناعات الخفيفة كثيفة العمل، والتي لا تمتلك فيها الاقتصادات المتقدمة ميزة نسبية أو مطلقة، إلى البلدان التي تقل فيها أجور العمال.
لكن تيار ترامب واليمين الشعبوي يجادل، في المقابل، بأن انخفاض نسبة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، ونسبة الأميركيين العاملين في ذلك القطاع من القوة العاملة، يعود إلى تزايد الواردات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من نحو 9% في بداية الثمانينيات إلى أكثر من 17% سنة 2011، قبل أن تعود إلى الانخفاض إلى نحو 14% سنة 2023.
كما يعود إلى تصدير الشركات الأميركية الوظائف إلى الخارج، وخصوصاً بعد تحرير القطاعات الصناعية من التنظيم Deregulation، والذي بدأ في الثمانينيات. لذلك، نجد أن ملايين الوظائف في قطاع التصنيع جرى تصديرها إلى الخارج.
كما نجد أن قطاع تكنولوجيا المعلومات IT، وهو قطاع غير تصنيعي يرتبط بالاقتصادات المتقدمة، هو الأكثر تصديراً للوظائف أميركياً، بحسب تقرير في مجلة "فوربز"، في 15/10/2024، قال إن 37% من عمليات شركاته يجري التعاقد عليها خارجياً، يليه قطاع إدارة الأعمال، والذي دأب على تصدير عملياته التسويقية، والموارد البشرية، والدعم اللوجستي، وخدمات المشتركين، ومراكز الاتصال، خارج الولايات المتحدة.
ثمة صلة ضرورية بين عجز الميزان التجاري من جهة، وعجز الموازنة الحكومية، وهي صلة يمكن اشتقاقها مما يسمى "متساوية الدخل القومي" National Income Identity في علم الاقتصاد الكلي. وهي متساوية تقوم على مبدأ الحقن يساوي التسرب في الدورة الاقتصادية، تماماً كما الدورة الدموية في جسم الإنسان، وأن تدفقات الاستثمار والإنفاق الحكومي والصادرات الداخلة كحقن يجب بالضرورة أن تتساوى مع تدفقات الادخار والضرائب والواردات كتسرب.
فإذا افترضنا جدلاً تساوي الاستثمار والادخار في سوق الأموال القابلة للإقراض، فإن ذلك يؤدي مباشرةً إلى تساوي الفرق بين الواردات والصادرات (الميزان التجاري) مع الفرق بين الإنفاق الحكومي والضرائب (الميزانية الحكومية)، سلباً أو إيجاباً. ومن هنا العلاقة الضرورية بين العجز في الميزانين أميركياً.
فإذا افترضنا جدلاً موازنة حكومية متوازنة، تتساوى فيها النفقات والإيرادات، فإن أي فرق بين الواردات والصادرات يجب أن ينعكس بالضرورة في صورة فرق بين الادخار والاستثمار، سلباً أو إيجاباً، بحيث تتدفق رؤوس أموال أجنبية للاستثمار في الولايات المتحدة بما يفوق الادخار المتاح سنوياً إذا زادت الواردات عن الصادرات، وأدخل ذلك الحساب الجاري في حالة عجز، كما هي حال الولايات المتحدة.
يمثل ما سبق إعادة صياغة فحسب لإحدى أبجديات علم المالية الدولية بأن الحساب الجاري زائداً الحساب المالي والرأسمالي في ميزان المدفوعات يجب أن يساويا صفراً بالضرورة. وليس هناك شيء اسمه عجز (أو فائض) في ميزان المدفوعات، كما يعرف طلاب المالية الدولية جيداً، بل يقابل العجزَ في الحساب الجاري، إن وجد، فائضٌ في الحساب المالي والرأسمالي حتماً، والعكس بالعكس.
بناء على هذا النموذج المبسط، المشتق من أسس علم الاقتصاد، والذي تمكن صياغته جبرياً بسهولة، يمكن فهم ما يقوم به ترامب كما يلي:
أ – مهاجمة العجز في الميزان التجاري الأميركي من خلال رفع الرسوم الجمركية، والتي يفترض أن تخفض الواردات. وهذا، إن نجح، يساهم في خفض العجز في الموازنة الحكومية، بحسب نموذجنا المبسط أعلاه.
ب – مهاجمة العجز في الموازنة الحكومية الأميركية، في الآن عينه، من خلال خفض الإنفاق. وهذا، إن نجح، يساهم في خفض العجز في الميزان التجاري، بحسب نموذجنا المبسط أعلاه.
جـ - تخفيض الضرائب على الأميركيين ومحاولة الاستعاضة عنها بالرسوم الجمركية كمصدر لدخل الدولة، على النمط المركنتيلي. ويهدف تخفيض الضرائب أميركياً إلى تحفيز النشاط الاقتصادي، وبالتالي الدخل القومي، وبالتالي الادخار المحلي. فإن نجح ذلك، فإنه يؤدي إلى تخفيض عجز الميزان التجاري بالتعريف، بناءً على نموذجنا المبسط أعلاه.
د – استعادة القاعدة التصنيعية الأميركية من خلال الضغط على الشركات الأميركية للعودة إلى موطنها، وعلى الشركات الأجنبية لهجرة موطنها والمجيء إلى الولايات المتحدة. فإن نجح ذلك، فسوف يزيد الاستثمار، وهذا سيؤدي إلى تخفيض عجز الموازنة الحكومية بالتعريف، بناءً على نموذجنا المبسط أعلاه.
هـ - تخفيض قيمة الدولار الأميركي كي تصبح الصادرات الأميركية أكثر جاذبيةً في الأسواق العالمية.
لكنّ مقاربة ترامب لحل مشكلات الاقتصاد الأميركي تواجه كثيراً من التحديات واحتمالات التعثر، منها:
أ – أن تقوم الدول الأخرى برد الصاع صاعين في ميدان الرسوم الجمركية، الأمر الذي قد يقلص الصادرات الأميركية إلى الخارج. وتحاول إدارة ترامب حالياً إقناع الدول "الصديقة" أو الخائفة بعدم الرد على الرسوم الجمركية الأميركية عليها في مقابل "حمايتها" عسكرياً، كما كوريا الجنوبية، أو التلويح بشن حروب اقتصادية عليها.
ب – فإذا لم ترد معظم الدول المستهدفة بالرسوم الجمركية الأميركية، وتقلصت واردات الولايات المتحدة بنسبة كبيرة، فإن الأثر المباشر لذلك هو بالضرورة ارتفاع قيمة الدولار الأميركي، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة، لأن الواردات الأميركية تمثل عرضاً للدولار، وتقلصها يعني تقلص عرض الدولار، فإن حدث ذلك وارتفع الدولار مقابل العملات الأخرى، فإنه سيدمر الصادرات الأميركية. ولا يمكن تجنب ذلك إلا بخفض معدلات الفائدة الأميركية.
جـ - إذا قام الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة (معادل البنك المركزي) برفع معدلات الفائدة، أو رفض تخفيضها، بذريعة درء خطر التضخم، فإن ذلك سيعيق الاستثمار من جهة، وسيزيد الطلب على الدولار الأميركي من جهة أخرى، وسيؤدي ذلك إلى تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدولار، وهذا سيزيد عجز الميزان التجاري، وبالتالي عجز الموازنة الحكومية. ومن هنا، التوترات بين إدارة ترامب من جهة، والاحتياطي الفيدرالي، من جهة أخرى، كقلعةٍ للدولة العميقة.
د – تحاول إدارة ترامب "إقناع" الأمم الأخرى التي يوجد لديها فائض تجاري مع الولايات المتحدة أن تستخدم الدولارات الأميركية التي تجنيها إما في شراء عملاتها الوطنية، كي تزيد قيمتها إزاء الدولار، وبالتالي كي تزيد أسعار صادراتها، أو أن تشتري بها سندات حكومية أميركية طويلة الأجل (قد تصل إلى مئة عام)، وبالتالي تجميد تلك الدولارات فعلياً. فإذا "اقتنعت" الأمم الأخرى بذلك، وانخفضت قيمة الدولار، كما ترغب إدارة ترامب، ومعها قيمة أذونات الخزانة الأميركية التي يفترض أن يقل تداولها هنا، فإن ذلك سيؤدي إلى رفع معدلات الفائدة الأميركية في الحالتين، وهذا سيدمر خطة ترامب، ما دامت توجد حرية حركة لرأس المال، إلا إذا رفعت البنوك المركزية الأخرى معدلات الفائدة لديها.
هـ - إذا تعاون الاحتياطي الفيدرالي، والذي يتمتع باستقلالية تنفيذية، مع إدارة ترامب، وشرع في طباعة الدولار لشراء العملات الأجنبية لرفع سعرها مقابل الدولار، فإن الأثر التضخمي لذلك الإجراء سيكون كبيراً، وقد يكلف ترامب ثمناً سياسياً باهظاً.
لكنّ جوهر المشكلة، كما صاغها ستِفان ميران في ورقته الشهيرة "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي"، هي انخفاض نسبة الناتج المحلي الإجمالي الأميركي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويذكر أن تلك النسبة بلغت 40% سنة 1960، و34% سنة 1985، وتبلغ اليوم نحو 26%.
أما إذا حسبنا الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بمعدل القوة الشرائية، أي بعد تحييد قوة الدولار عالمياً، فإن نسبة الناتج المحلي الإجمالي الأميركي من العالمي تزيد قليلاً عن 12%. وهي نقطة سبق أن تطرقت إليها في مواد أخرى.
فإذا أضعف ترامب الدولار، كما ينوي، وثبت ذلك الاتجاه في المدى الطويل، فإن ذلك سيقلص من وزن الاقتصاد الأميركي من الاقتصاد العالمي بصورة أكبر.
ومصدر المشكلة هنا، كما وصفها ميران في ورقته، أن الولايات المتحدة، العملاق الاقتصادي، كان يسهل عليها سابقاً تحمل العجز الناتج عن تحول الدولار إلى عملة العالم.
أما مع تقلص وزنها وحجمها النسبي عالمياً، وتوقع ترسخ ذلك الاتجاه مستقبلاً، مع تزايد وزن القوى الصاعدة دولياً، فإن قدرتها على تحمل ذلك العجز باتت أقل فأقل، وهنا يكمن مصدر الأزمة.
يكمن جذر المشكلة إذاً في الأفول الأميركي، بعيداً من أي إحصاءات، وهذا هو الاتجاه الذي يحاول ترامب أن يعكسه من خلال استعادة القاعدة الصناعية الأميركية وإيقاف العجزين التجاري والحكومي، مستغلاً أوراق القوة الأميركية المتبقية قبل فوات الأوان.