الاتحاد الأوروبي وتحديات المرحلة... بين التهميش أو الأفول
يعارض توجه الاتحاد الأوروبي في القضيتين موقف القوى الكبرى الأخرى، أي الصين وروسيا. وبالتالي، سيقف الاتحاد الأوروبي، في هذه المرحلة، في مواجهة تقاطع عالمي ليس من السهل تخطيه.
-
الاتحاد الأوروبي لا يملك عملياً القدرة على إدارة صراع دولي بمعزل عن رعاية أميركية.
كثيرة هي التساؤلات التي باتت تؤرق المهتمين بالدور الأوروبي العالمي ولا سيما أن رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين عام 2019 كانت قد عبّرت عن هدف الاتحاد في تلك المرحلة من خلال العمل على تحويله إلى قوة جيوسياسية، بما يمكن أن يُفسر على أنه سعي لتحرر الاتحاد من التبعية للولايات المتحدة، والبحث في كيفية اتخاذ قراراته بطريقة براغماتية، تعكس مصالحه وتطلعاته، بما يساعد في تحويل دوره الجيوسياسي من مجرد مكمّل للدور الأميركي إلى مؤثر أساسي في السياسات الدولية، التي كانت تتفاعل بين الشرق والغرب تحت عنوان نظري هو إرساء نظام تعددي يقلّل من أثار الأحادية الأميركية، التي عرفها دونالد ترامب في تلك المرحلة، من خلال شعار أميركا أولاً، وعنوان فعلي عنوانه محاولة تحييد الاتحاد عن الآثار السلبية للتنافس الأميركي الروسي والأميركي الصيني.
تاريخياً, لم يكن مشروع إضعاف الاتحاد الأوروبي والحؤول دون تكامله مشروعاً صينياً أو روسياً، حيث عبّر الطرفان، في أكثر من مناسبة، عن سعيهما لتعميق علاقاتهما معه. فعلى الرغم من اعتبار بوتين أن انضمام روسيا إلى الاتحاد أمر غير واقعي، فقد أكد ضرورة البحث عن سبل التقارب بينهما.
أما بالنسبة إلى الصين، فيكفي الاسترشاد بمبادرة الحزام والطريق للتدليل على محورية الاتحاد الأوروبي في هذا المشروع. وبالتالي تُطرح تاريخياً إشكالية تقبل التكامل الأوروبي واستقلالية قراره عند مقاربة الاستراتيجيات الأميركية، حيث إن الموقف السلبي من الاتحاد لا يمكن حصره بإدارتي ترامب الأولى والثانية، وإنما يمكن ملاحظتها بنسب متفاوتة لدى أكثر الرؤساء، خصوصاً في فترة ما بعد الحرب الباردة. فالموقف الأميركي من الاتحاد وقياس مدى تقبل الإدارات المتعاقبة منذ بداية تسعينات القرن الماضي، كانت دائماً محكومة لحاجات الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية، ولم تكن تبدي أبداً أي اهتمام لتطلعات الاتحاد أو حاجاته.
طيلة الفترة السابقة، في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى الرغم من انتفاء الحاجة الأمنية إلى الوجود الأميركي في أوروبا بسبب غياب التهديد السوفياتي الذي كان قد سيطر عملياً على جزء كبير من القارة، لم يحاول الاتحاد الأوروبي التعاطي مع الولايات المتحدة بندية أو وفق ما تقتضيه مصالحه، وإنما دأب دائماً على أداء دور المكمّل أو التابع للولايات المتحدة وواظب طيلة أكثر من ثلاثة عقود على مسايرة الولايات المتحدة ومحاولة ملاقاتها في مشاريعها، رغم اقتناعه بانعدام الجدوى وما يمكن أن تخلّفه هذه التوجهات من آثار سلبية على وحدته وسيادة قراراته.
في هذا الإطار، يمكن الركون إلى قضيتين أظهرتا عقم السياسات الأوروبية وعدم قدرتها على التدليل على أهداف الاتحاد وتوجهاته. فقد أظهر التعاطي الأوروبي مع أزمة البرنامج النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية فشلاً في بلورة توجه أوروبي مستقل يمكن من خلاله ادعاء العمل على بناء جسم أوروبي سيد ومتكامل. فبعد أكثر من 18 شهراً من التفاوض، الذي أدى إلى توقيع خطة العمل المشتركة الشاملة عام 2015 بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومجموعة ال5+1، التي كانت فرنسا وبريطانيا وألمانيا ضمنها، لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من أن يفرض الإيقاع الذي يناسبه على مسار الاتفاق بعد انسحاب دونالد ترامب منها عام 2015، حيث ظهر الاتحاد الأوروبي، ممثلاً بهذه الدول الثلاث، على أنه مجرد شاهد لا يملك الحق أو القدرة على تنفيذ الاتفاق بغياب الولايات المتحدة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الأزمة الأوكرانية، حيث ظهرت الولايات المتحدة على أنها المحرك الوحيد لمسار المواجهة مع روسيا. فبعد أن كان التوجه الأوروبي يفترض ضرورة البحث في حل سلمي للأزمة حيث حافظ الطرفان الفرنسي والألماني على تواصلهما مع الرئيس الروسي، بحثاً عن حلول سلمية، خضع الاتحاد الأوروبي بعد فترة زمنية قصيرة للقرار الأميركي بتسعير المواجهة، وذهب باتجاه قطع العلاقات مع روسيا بشكل كامل، رغم اقتناعه بالآثار السلبية لهذا التوجه على المديين القصير والبعيد، ورغم قناعة كل دول الاتحاد بأن الخلفية التي تدير الولايات المتحدة من خلالها سياساتها في شرق القارة لا تخرج أبداً عن شعار "أميركا أولاً".
في هذا الإطار تكمن إشكالية الاتحاد الأوروبي الرئيسية، في أنه يقارب سياساته الخارجية وفق سياق إيديولوجي وقيمي غربي، في حين أن السياسات الأميركية تُقارب وفق سياق براغماتي يعكس، في بعض الأحيان، توجهات الرئيس الشخصية. وعليه، اصطدم الاتحاد الأوروبي في الأشهر القليلة الماضية، بعد تسلّم دونالد ترامب الحكم، بتوجه أميركي لحل هاتين القضيتين، أي النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية، بطريقة أحادية تراعي فقط التوجهات الأميركية.
فالاعتراف الأميركي بعدم جدوى استكمال مواجهة روسيا في أوكرانيا والسعي للوصول إلى اتفاق ينسف كل الأسس التي تم تسويقها في بداية الحرب على أنها من الثوابت، بالتوازي مع الذهاب إلى التفاوض بشكل منفرد مع إيران، والبحث في كيفية ضمان المصلحة الأميركية فقط في أي اتفاق مستقبلي معها، وضع الاتحاد الأوروبي أمام تحدي البحث في كيفية إرساء مستقبله، كقوة جيوسياسية قادرة على فرض إيقاعها ودورها بشكل مستقل.
في هذا الإطار، لجأ الاتحاد الأوروبي إلى إعلانه استكمال دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، وحاول أن يشترك في المخاض التفاوضي بين إيران والولايات المتحدة، من خلال تهديد الترويكا الأوروبية لإيران بتفعيل آلية إعادة فرض العقوبات عليها في مجلس الأمن الدولي.
وإذا أردنا تقييم هذا التوجه بطريقة واقعية، فإن واقع الاتحاد الأوروبي وقدراته لا يدلّلان عملياً على قدرة فعلية لتنفيذ هذين التوجهين.
فالاتحاد الأوروبي لا يملك عملياً القدرة على إدارة صراع دولي بمعزل عن رعاية أميركية. فمن خلال مقاربة منطق ترامب في إدارة علاقاته الدولية، فإن أي معارضة أوروبية له ستدفعه إلى تبنّي مسار تصادمي قد يمتد من السياسة إلى الأمن والاقتصاد، بما قد يهدد وحدة الاتحاد الذي تنقسم دوله حول كيفية مقاربة العلاقة مع الولايات المتحدة. فأكثر دول أوروبا الشرقية تفضّل علاقاتها مع الولايات المتحدة على تكاملها مع الاتحاد الأوروبي، من دون أن ننسى أن أكثر دول الاتحاد ما زالت تؤمن بأن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على حفظ الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية.
من ناحية أخرى، يعارض توجه الاتحاد الأوروبي في القضيتين موقف القوى الكبرى الأخرى، أي الصين وروسيا. وبالتالي، سيقف الاتحاد الأوروبي، في هذه المرحلة، في مواجهة تقاطع عالمي ليس من السهل تخطيه.
فبنتيجة التحديات الدولية الحالية، والتي كان آخرها الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب، لن تكون هذه الدول الكبرى، رغم تباعدها واختلافها، معنية بأن تسمح للاتحاد الأوروبي بأن يزيد من تعقيدات ما تواجهه. وعليه، يمكن التقدير أن الدور الأوروبي في هذه المرحلة ذاهب نحو الأفول أو التهميش بأقل تقدير، أقله في المدى المنظور.