هل تشكّل الأصوات الإسرائيلية الرافضة للحرب عامل ضغط حقيقياً على نتنياهو؟
هناك جبهة رفض داخل "إسرائيل" للحرب، لكن تأثيرها لا يزال محدوداً، ولا سيما أن "تل أبيب" تُدار بواسطة الحكومة الأكثر يمينيّة وقوميّة ودينيّة منذ عقود؛ رغم ذلك فإن مساحة الرفض تتزايد، وبالتالي يتنامى التأثير.
-
هل يمكن أن يُجبر المحتجون نتنياهو على إنهاء حربه؟
على مدار شهور، منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، هناك أصوات إسرائيلية تعلن رفضها للحرب، وتدعو إلى عقد صفقة مع المقاومة الفلسطينية تضمن تحرير الأسرى الإسرائيليين، وتمنع تدهور صورة "إسرائيل" على المستوى العالمي، بعد أن صار رصيدها الحقوقي في السالب، وأصبح العديد من الهيئات الفاعلة في فضاء حقوق الإنسان يقيّم نشاط حكومة الاحتلال كنشاط إجرامي وضار للعنصر البشري.
أغلب الرافضين للحرب كانوا من أهالي الأسرى، الذين رأوا أن توسّع رقعة القتال من الطبيعي أن يعرّض حياة ذويهم للخطر، وجرت مؤازرتهم بواسطة فنانين ومثقفين وأكاديميين إسرائيليين، رأوا أن الآلية التي يدير بها بنيامين نتنياهو المعركة لا يمكن أن تُفضي إلى "نصر أخلاقي"، بل ستتسبب في دمار شامل يحرق المنطقة بأسرها، بما يشمل "إسرائيل"، وقد ذكرت صحيفة "هآرتس" مؤخراً بأنّ حوالى 1700 مثقف إسرائيلي قد وقّعوا على عريضة تدعو إلى وقف الحرب.
اللافت أنّ رقعة المعارضة لاستمرار القتال قد اتسعت لتشمل المؤسسات الأمنية في "إسرائيل"، إذ طالت وحدات عسكرية من قوات الاحتياط والمتقاعدين، فوقّع 1600 من قدامى الجنود في لواءي المظليين والمشاة على بيانٍ يطالب بإعطاء الأولوية لإعادة الأسرى، كما وقّع 100 طبيب عسكري في الاحتياط على بيانٍ مماثل يدعو إلى وقف القتال، وكان نحو ألف من عناصر سلاح الجو الإسرائيلي قد بعثوا في وقتٍ سابق برسالة للمطالبة بوقف الحرب، ولاحقاً انضم إليهم جنودٌ في الاحتياط من الوحدة "8200" التابعة للاستخبارات.
وقد أثار هذا المسلك من قبل العسكريين الإسرائيليين انتباه قادة الاحتلال، ما دفع رئيس الأركان إيال زامير إلى التصديق منذ أيام على قرار يقضي بفصل قادة كبار ونحو ألف جندي احتياط من الخدمة، ذلك بعدما نشر الإعلام العبري الأخبار التي تكشف عن توقيعهم تلك الرسائل الداعية إلى إنهاء الحرب، كما حذّر زامير من أنّ نقص عدد الجنود يُحتمل أن يحدّ من القدرة على تحقيق طموحات القيادة السياسية ومخططاتها داخل غزة سواء في الوقت الحالي أم في المستقبل.
في مواقع التواصل، والتي تعطي صورة نسبية عن الرأي العام داخل "إسرائيل"، يمكن رصد حالة الانقسام الواسعة حول هذا الملف:
القسم الأول، يرى أن عملية "طوفان الأقصى" تسببت في أذى هائل للمجتمع الإسرائيلي، بما أنها وصلت إلى عمق الكيان، ونجحت على مستويات غير مسبوقة، لذا فلا مفرّ ـ بحسب هذا الرأي - من توجيه ضربة شرسة للفلسطينيين، تهدف إلى منعهم من التفكير مجدداً في عملية مماثلة، وتقوم باستئصال المقاومة الفلسطينية من جذورها، حتى لو ترتّب على ذلك "إبادة قطاعات واسعة من سكان قطاع غزة" وهذا الرأي يدعمه اليمين الإسرائيلي، ويؤصّل له.
القسم الثاني، يرى أن السبيل الممكن للقضاء على العمل المسلّح الفلسطيني، يكون عبر احتضان النماذج الفلسطينية "المعتدلة" التي تقبل بوجود "إسرائيل"، وأن الحكومة مطالَبة بتقديم صورة حسنة عن أدائها لتحث الفلسطينيين على القبول بالعيش تحت "العلم الإسرائيلي"؛ ويركّز أصحاب هذا الرأي على أن "إسرائيل" تتمتع بقبول عالمي، لأنها شكّلت ملاذاً ليهود أوروبا الذين عانوا الاضطهاد على مدار قرون وحتى صعود النازية، وبالتالي على الحكومة الإسرائيلية أن تُحافظ على هذا الشكل من "المظلومية"، وتتوقف عن ارتكاب المجازر التي تجعل "إسرائيل" في نظر العالم هي المعادل الموضوعي لألمانيا النازية مع فارق الزمن.
بالطبع يركز معارضو الحرب داخل "إسرائيل" على وجود 59 أسيراً محتجزاً في قطاع غزة حتى الآن، منهم 24 على قيد الحياة، ووجود حاجة ملحّة لتحريرهم، إضافة إلى إلقاء الضوء على تجنيد 360 ألفاً من جنود الاحتياط للمشاركة في الحرب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والانعكاسات السلبية لهذا الإجراء على المجتمع وأنشطته، كما يلفتون الأنظار إلى الأوضاع الاقتصادية الإسرائيلية التي تراجعت على نحو غير مسبوق خلال الفترة الماضية.
المؤيدون للحرب أم الرافضون لها، من هم أصحاب النسبة الأكبر؟
هذا السؤال لا يمكن حسمه بسهولة، فهناك كتلة صلبة في كل فريق، قد تشكلت على أسس أيديولوجية أو فكرية، لكن أغلب الإسرائيليين في وادٍ آخر، يتأرجحون بين التأييد والرفض، بحسب المواد الإعلامية التي يتعرضون لها، وكنتيجة لآليات تفكيرهم الذاتية؛ وهؤلاء يمكن تسميتهم بـ"المؤيدين/ الرافضين الرماديين"، أي الأشخاص الذين ليست لديهم منطلقات أيديولوجية حقيقية تجاه الحرب، لكنهم قد يشعرون بالإحباط والسأم من استمرار الحرب لفترة طويلة، فيُعلنون الرفض، إلا أنّ موقفهم قد يتغير في لحظات بسبب فيديو لجندي إسرائيلي مُصاب يتحدث عن "بطولاته" و"تضحياته" في غزة!.
بحسب استطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية نهاية الشهر الماضي، فهناك 69 % من الإسرائيليين يؤيدون إنهاء حرب غزة، مقابل اتفاق يجري عبره الإفراج عن جميع الأسرى المتبقين في القطاع، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء قد يقبلون - مثلاً - باستمرار فصائل المقاومة في إدارة قطاع غزة، أو بأن يحصل الغزيون على لوازم العيش التي تجعل حياتهم طبيعية تماماً، فنسبة كبيرة من ال 69%، تريد إنهاء الحرب، لكنها في الوقت ذاته لا تزال تشعر بالحقد تجاه الفلسطينيين بسبب عملية "طوفان الأقصى".
وقد تنصّلت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من إتمام المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، معتبرة أن لديها هدفاً لم يتحقق بعد، يتمثّل في إبعاد حماس عن إدارة القطاع، والقضاء على أي فرصة قد تسمح لها أو لغيرها من الحركات بأن تجمع أعضاءها وتدرّبهم وتنظّمهم وتسلّحهم، بالشكل الذي يهدد أمن "إسرائيل" مستقبلاً!. لكنّ المعضلة التي تواجه نتنياهو هي أنه عاجز عن تحقيق هدفه حتى اليوم، رغم ذلك يستمر في عدوانه من دون أفق زمني، بالشكل الذي يضعه في خضمّ حرب داخلية موازية، مع اتساع موجة الرفض لسياساته.
هل يمكن أن يُجبر المحتجون نتنياهو على إنهاء حربه؟
في البداية يجب الفَصل بين المحتجّين الذين يُعبّر نشاطهم وحراكهم السياسي عن أهدافٍ تتعلق بوقف الحرب على قطاع غزة بالفعل، وبين محتجّين آخرين لديهم خلافات مع نتنياهو حول أمور تتعلق بآليات إدارة الدولة، أو أنهم يخشون المساس بـ"إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ذات مؤسسات تُحكم بشكل هرمي"!.
المجموعة الأولى تشمل عائلات الأسرى وتيارات يسارية وناشطين في المجتمع المدني، وهؤلاء يعارضون استمرار القتال، ويرون أن الحلّ يكمُن في ميدان السياسة، لكنّهم أقلية مقارنة بالتيارات اليمينية التي تهيمن على الحكومة ووسائل الإعلام؛ أما المجموعة الثانية، فتختلف مع رئيس الحكومة حول أمور إجرائية، كما جرى عند إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار، الذي كان قد قال "إن إسرائيل ستقتل قادة حماس في كل مكان، حتى لو استغرق الأمر سنوات"، وذلك بحسب تسجيل صوتي جرى الكشف عنه في الـ 3 من كانون الأول/ ديسمبر 2023.
لإيضاح الأمور أكثر، يجب الإدراك أن التظاهرات التي حاصرت بيت نتنياهو رفضاً لإقالة رئيس الشاباك، والمحكمة العليا التي أصدرت أمراً يُلزمه بالاستمرار في عمله، هما حدثان لا يتعلقان بشكل مباشر بالموقف من الحرب، إذ لا يختلف بار عن نتنياهو فيما يتعلق بالموقف من المقاومة الفلسطينية، غاية ما يجري أن هناك شعوراً لدى قطاع من الإسرائيليين بأن الحكومة باتت تُدار بحسب أهواء شخصية، وبأن ثمة محاولة للتغطية على مخالفات وتمويلات من الخارج، والمحتجّون هنا يريدون الحفاظ على "نزاهة المؤسسات"، ومنع قادة الحكومة من السيطرة على كل شيء.
بناءً على ما سبق، فإن من الخطأ التعامل مع سائر الاحتجاجات التي تحدث في الشارع الإسرائيلي، باعتبارها تتعلق بالعدوان على غزة، فأغلبها يخص ترتيبات البيت الإسرائيلي من الداخل، شأنها شأن التظاهرات الضخمة التي عارضت محاولات الحكومة الحدّ من سلطة المحكمة العليا ومنح الائتلاف الحاكم أغلبية في اللجنة التي تقوم بتعيين القضاة، وذلك في مطلع عام 2023، أي قبل اندلاع الحرب بحوالى عشرة أشهر.
الحقيقة أن هناك جبهة رفض داخل "إسرائيل" للحرب، لكن تأثيرها لا يزال محدوداً، ولا سيما أن "تل أبيب" تُدار بواسطة الحكومة الأكثر يمينيّة وقوميّة ودينيّة منذ عقود؛ رغم ذلك فإن مساحة الرفض تتزايد، وبالتالي يتنامى التأثير، وخاصة أن هناك ضباطاً كباراً صاروا يعلنون رفض القتال ويحشدون الرأي العام خلفهم، ولا شك في أن هذا أشدّ ما تخشاه القيادة الإسرائيلية، ولا سيما إذا أُخذت في الاعتبار الأخبار التي تتحدث عن استعداد 40 % فقط من جنود الاحتياط للخدمة العسكرية.
وكانت تقارير منسوبة إلى "الجيش" الإسرائيلي قد تعرّضت خلال الأشهر الماضية لمشكلة نقص الجنود النظاميين بسبب عدم تجنيد اليهود المتدينين "الحريديم"، إضافة إلى عزوف جنود من الاحتياط عن الخدمة؛ ورغم أن المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية غالباً ما تُظهر تماسكاً في أوقات الأزمات، فإن وجود أصوات معارضة من داخل المنظومة الأمنية قد يتسبب بحدوث خلخلة في "الإجماع الوطني" ما يُلقي بمزيد من الأعباء على القيادة السياسية.
الأكيد اليوم، أن هناك جبهة رفض للحرب على غزة، وهناك ما يدل على تململ داخل "الجيش الإسرائيلي"، ورسائل وعرائض تكشف نوعاً من الرفض لاستمرار القتال، وهناك أيضاً اتهامات لقادة الحكومة بالترف والعمل على تحقيق مصالح شخصية، لكنها حتى اللحظة لم تصل إلى نقطة الضغط الحاسمة التي يمكن أن تُجبر نتنياهو على تغيير مسار الحرب. لكن الأمور قد تتبدّل إذا استمرت الحرب لفترة أطول، وما يتبع ذلك من ارتفاع في أعداد القتلى من الجنود الإسرائيليين، وتفاقم أزمة الأسرى، وتزايد الضغوط الدولية، إضافة إلى تكرار الاضطرابات السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الائتلاف الحاكم، وسقوط نتنياهو، وبالتالي وقف القتال.