هل أسقط "طوفان الأقصى" وحدة الساحات الفلسطينية؟
هل ساهم هجوم طوفان الأقصى بالفعل في إسقاط معادلة وحدة الساحات ببعدها الفلسطيني؟ وهل فقدت المقاومة الفلسطينية أوراق ضغطها التي كانت تُشهرها في وجه الاحتلال كلما دعت الحاجة لذلك؟
-
المقاومة ستحوّل التهديد الحالي وهو كبير وغير مسبوق إلى فرصة.
أكثر ما يأخذه بعض المعارضين والمنتقدين على عملية "طوفان الأقصى"، وعلى الجهات التي تقف خلفها أو تؤيّدها وتدعمها، أنها أسهمت في فقدان الفلسطينيين للكثير من أوراق الضغط التي كانوا يملكونها، والتي كان يُعتمد عليها في أوقات سابقة لحسم الكثير من المسائل، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالصراع مع المحتلّ الصهيوني، والتصدّي لمخطّطاته العدوانية التي لم تتوقّف منذ احتلاله لفلسطين قبل أكثر من 76 عاماً.
وبحسب هذه الشريحة والتي تمثّل طيفاً لا بأس به من الفلسطينيين على وجه التحديد، فإنّ التداعيات الناتجة عن هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وما تبعه من عدوان واسع استمرّ قرابة الخمسة عشر شهراً وما زالت تداعياته قائمة حتى الآن، قد أفقدت المقاومة الفلسطينية على وجه الخصوص الكثير من المزايا التي كانت تتمتّع بها فيما مضى، والتي كانت تمنحها قدرة فائقة على التأثير في كثير من المجالات، وتعطيها أفضليّة في تحديد الكثير من الخطوط الحمر على صعيد المواجهة مع المحتل، وخصوصاً فيما يتعلّق بعدوانه على الضفة الغربية المحتلة، وعلى مدينة القدس ومسجدها الأقصى المبارك.
ويستشهد هؤلاء في طرحهم بالكثير من الأحداث التي جرت خلال السنوات الأخيرة، والتي قامت خلالها المقاومة في قطاع غزة بتأدية دور رئيسي وفعّال ساهم في إفشال وإفساد العديد من خطط الاحتلال، ولا سيّما فيما يخصّ المسجد الأقصى المبارك، وعمليات التهويد التي تستهدفه، كان على رأسها معركة "سيف القدس" في أيار/مايو من العام 2021، بالإضافة إلى الكثير من المعارك التي جاءت ردّاً على العدوان الإسرائيلي على مدن ومخيمات الضفة المحتلة وفي المقدّمة منها مخيم جنين.
ومن باب التذكير فقط فإنّ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كانت سبّاقة لإطلاق اسم "وحدة الساحات" على المعركة التي خاضتها مع "دولة" الاحتلال في منتصف العام 2022، والتي جاءت ردّاً على قيام "الجيش" الصهيوني باعتقال الشيخ بسام السعدي من مدينة جنين، والذي يُعدّ أحد أبرز قادة الحركة ومؤسسيها في الضفة الغربية المحتلة، حيث قامت قوات الاحتلال حينها بضربه وسحله من دون النظر إلى حالته الصحية أو تقدّمه في السن.
بعد تلك المعركة والتي خاضتها حركة الجهاد وحيدة، وقدّمت فيها ثلة من أبرز قادتها العسكريين كان على رأسهم عضوا مجلسها العسكري تيسير الجعبري وخالد منصور، أخذ مصطلح "وحدة الساحات "والذي بدا غريباً في ذلك الوقت يتحوّل إلى واقع، حيث تدرّج رويداً رويداً حتى بات يضمّ بين جنباته كلّ قوى المقاومة في الإقليم وليس فصائل المقاومة الفلسطينية فقط، وهو ما برز جليّاً في التصدّي للعدوان الإسرائيلي الذي بدأ بعيد هجوم السابع من أكتوبر.
اليوم وفي ظلّ ما تشهده مدن ومخيمات الضفة الغربية المحتلة من عمليات هدم وتدمير غير مسبوقة، وتهجير قسري لعشرات آلاف السكّان من قراهم وبلداتهم التي انتشرت فيها آليات العدو المدرّعة، وباتت سماؤها مغطّاة بالكامل بجميع أنواع الطائرات الصهيونية الحربية والاستطلاعية والمروحية، والتي تنفّذ غارات عدوانية على بيوت المدنيين الآمنين، في تكرار لما كانت تفعله في قطاع غزة، تبدو أوراق المقاومة في قطاع غزة بحسب الكثير من المتابعين أقلّ تأثيراً مما كانت عليه، ولا تبدو بتلك الفعّالية التي كانت عليها قبل طوفان الأقصى.
إذ إنّ ما تعرّضت له المقاومة في غزة من خسائر مادية وبشرية، إضافة إلى التداعيات الميدانية والسياسية الناتجة عن العدوان الإسرائيلي على القطاع، والذي أفضى إلى كلّ هذا الخراب والدمار الذي ما زال يتكشّف يوماً بعد يوم، إلى جانب التعثّر المتكرّر في المضي قُدماً في تنفيذ المراحل الثانية والثالثة من الصفقة. كلّ ذلك جعل خيارات مقاومة غزة في مساندة الضفة والقدس والدفاع عنهما محدودة، ومحفوفة بمروحة واسعة من المخاطر، التي هي في أمسّ الحاجة للابتعاد عنها، وإلى تلافي تأثيراتها على المشهد الملتبس حتى الآن في القطاع المنكوب والمدمّر.
وفي حقيقة الأمر يبدو كلّ ما ذُكر أعلاه صحيحاً ولا يمكن إنكاره، بغضّ النظر عن نوايا قائليه وموقفهم من المقاومة بشكل عامّ، ومن عملية "طوفان الأقصى" بشكل خاصّ، ولا سيّما أنّ البعض منهم معروفون بمعاداتهم لفكرة المقاومة من الأساس، وبرفض كلّ ما ينتج عنها حتى لو كان إنجازاً حاسماً وواضحاً كما جرى في كثير من مراحل الصراع.
كما يمكننا من دون الدخول في تفاصيل كثيرة أن نرى بوضوح حجم الاستغلال الإسرائيلي لما جرى صباح السابع من أكتوبر لتنفيذ جملة من المخطّطات في الضفة والقدس وباقي الأراضي المحتلة عام 48، والتي تشير من دون أدنى شكّ إلى وجود خطط إسرائيلية جاهزة ومعدّة سلفاً، وكانت تنتظر الوقت المناسب لتنفيذها، إلى جانب الشرعيّة التي هي بحاجة إليها، خصوصاً وأنها تختلف شكلاً وموضوعاً عن الاعتداءات التي كانت معروفة سابقاً، والتي تميّزت بشكل من "الانضباط" إذا جاز التعبير، وبمحدودية أقلّ سواء على مستوى الفعل أو نطاقه الجغرافي.
على كلّ حال، وبعيداً عن استعراض نوعيّة وحجم تلك الاعتداءات، والتي لا يبدو أنها ستتوقّف قريباً، خصوصاً في ظلّ موقف عربي وإسلامي أقلّ ما يُوصف به بأنه ضعيف ومتخاذل، وموقف عالمي ودولي متواطئ وربما مشارك، وموقف أميركي منحاز بالكامل كما عبّرت عنه تصريحات ترامب الأخيرة.
بعيداً من كلّ ذلك دعونا نحاول الإجابة عن الأسئلة الآتية: هل ساهم هجوم طوفان الأقصى بالفعل في إسقاط معادلة وحدة الساحات ببعدها الفلسطيني؟ وهل فقدت المقاومة الفلسطينية أوراق ضغطها التي كانت تُشهرها في وجه الاحتلال كلما دعت الحاجة لذلك؟ وهل هي قادرة على تجاوز ما حدث حتى الآن، واستعادة دورها في تشكيل أداة ضغط على الاحتلال للتوقّف عن ممارساته وجرائمه في مدن ومخيمات الضفة والقدس؟ وهل لديها القدرة على ذلك بعد ما تعرّضت له من خسائر جسيمة؟
في حقيقة الأمر تبدو الإجابة عن جملة التساؤلات الواردة أعلاه معقّدة وصعبة، ولا سيّما مع وجود الكثير من التقييمات المختلفة لما جرى صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والتي اختلفت الآراء حولها حتى بين الفلسطينيين أنفسهم، وحول جدواها والنتائج المترتّبة عليها.
إلا أنه وبعيداً عن العاطفة، وبناءً على جملة الأحداث التي نشهدها حالياً، يمكن لنا أن نجد أنّ هناك بالفعل تأثيراً حقيقياً على معادلة "وحدة الساحات" بشقّها الفلسطيني على وجه التحديد، ولا سيّما بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والذي كما يبدو شكّل حاجزاً أمام أيّ تدخّل من فصائل المقاومة في القطاع في الصراع الدائر في مدن ومخيمات الضفة، وجعل إمكانية تدخلّها أصعب بكثير مما سبق، بل بات من شبه المستحيل أن تبادر لأيّ عمل هجومي ضدّ "دولة" الاحتلال انطلاقاً من أراضي القطاع كما كان يحدث سابقاً، خصوصاً من خلال استخدام سلاح الصواريخ، والذي عُدّ في مرحلة سابقة بمثابة سلاح استراتيجي وفعّال أجبر الاحتلال في عديد المرات على الإذعان لشروط المقاومة ومطالبها.
وهذا ما أفقد المقاومة من دون أدنى شكّ أحد أهم أوراق الضغط على الاحتلال، والذي كان ينظر باستمرار إلى قطاع غزة كخزّان للمقاومة، وباعتباره حائط الصدّ الأساسي في وجه مخطّطاته العدوانية التي تستهدف كلّ جغرافيا فلسطين المحتلة، والتي يأتي على رأسها عدوانه المستمرّ ضدّ مدينة القدس ومسجدها الأقصى، بالإضافة إلى هجمته التي لا تتوقّف ضدّ كلّ مدن ومحافظات الضفة، وفي المقدّمة منها مدن ومخيمات الشمال مثل جنين وطولكرم ونابلس.
إلا أنّ هذا الواقع الذي نراه مؤقتاً وطارئاً لا يعني بالضرورة سقوط معادلة "وحدة الساحات" في نطاقها الفلسطيني، ولا يشير إلى أنّ العدو نجح في مخططه القديم الجديد، والذي كان وما زال يحاول من خلاله فصل الجبهات، والتفرّد بكلّ ساحة من ساحات الوطن على حدة، إذ إنّ الواقع الذي نشأ خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والذي حوّل "وحدة الساحات" من مجرّد شعار إلى واقع عملي على الأرض، وبُذل من أجله الكثير من التضحيات والدماء، لا يسمح بسقوط هذه المعادلة بسهولة، أو إلغاء مفاعيلها بعملية عسكرية هنا أو هناك، حتى لو استخدمت فيها "دولة" الاحتلال القوة العسكرية المفرطة.
ويمكننا أن نرى بوضوح أنّ البنية التنظيمية العسكرية التي بنتها المقاومة في الضفة، والتي احتاجت إلى كثير من الجهد والتعب، وإلى إسناد وتدخّل من مقاومة غزة في عديد المرات حتى تستوي على سوقها ويشتدّ ساعدها، ما زالت قادرة على الوقوف في وجه قوات الاحتلال، وما زالت تملك الإمكانيات البشرية والتسليحية لتكبيده خسائر فادحة في الجنود والمعدّات، وهذا إن دلّ على شيء فهو يشير إلى أنّ العمل الذي تمّ في مدن ومحافظات الضفة خلال السنوات الأخيرة لم يكن عشوائياً، ولم يكن الهدف منه مجرّد مناوشة قصيرة المدى تنتهي تأثيراتها بمجرّد تلقّي ضربة هنا أو هناك، وإنما تأسيس بنية عسكرية تستطيع التأقلم مع مختلف الظروف، والتكيّف مع المتغيّرات التي كانت مُتوقّعة ومنتظرة حتى قبل حدوث هجوم "طوفان الأقصى".
هذه الحال على صعيد المقاومة في الضفة، والذي لا يُنبئ بإمكانية تفكّكها أو انهيارها خلال المرحلة المقبلة، على الرغم من كلّ ما تتعرّض له من هجوم واسع وغير مسبوق، ينسحب على المقاومة في قطاع غزة، والتي ما زالت تمتلك هي الأخرى العديد من الأوراق الضاغطة حتى في ظلّ تعقيدات المرحلة الحالية، والتي يمكن أن يُنظر إليها بأنها مرحلة إعادة بناء وتنظيم، وتعويض لكلّ ما فقدته المقاومة من إمكانيات وهي بكلّ واقعية كبيرة ومؤثّرة.
نحن نعتقد كما الكثيرون أنّ موقف المقاومة في قطاع غزة لم يتغيّر تجاه العدوان على القدس والضفة، وأنّ خطوطها الحمر إزاء هذا العدوان ما زالت كما هي ولم تتبدّل، وأنها وهي تعيش مرحلة التعافي من العدوان، وتعيد تنظيم صفوفها بشكل أسرع من المُتوقّع كما يعترف الاحتلال وأجهزة استخباراته، ستعود لتأدية الدور نفسه وإن بطرق وأدوات مختلفة تراعي المرحلة الجديدة الناشئة، وتساهم في ردع العدو من خلال الضغط على خواصره الرخوة التي تعرفها المقاومة أكثر من غيرها.
قد يقول البعض إنّ هذا الكلام منفصل عن الواقع، وإنّ المقاومة في غزة باتت محاصرة ومعزولة وتفتقد القدرة على إحداث أيّ ضغط على العدو، وإنّ الخطط الأميركية والإسرائيلية التي تُعدّ للقطاع أكبر من قدرات المقاومة في غزة على الحفاظ على بنيتها أو حاضنتها، ولن تسمح لها بتأدية أيّ دور داخل القطاع أو التأثير على مجريات الأحداث في الضفة والقدس.
من وجهة نظر أعداء المقاومة أو المختلفين معها قد يبدو هذا الكلام صحيحاً، وأنّ مسلسل سقوط المقاومة ومشروعها قد بدأ ولن يتوقّف قريباً، ولا سيما في ظلّ ما يُعلن عنه أميركياً من خطط ومؤامرات يُراد لها أن تبدو وكأنها قدر لا فكاك منه، إلا أنّ التجربة السابقة، والواقع الحالي يشيران إلى أنّ هناك إمكانية كبيرة للغاية لتجاوز المقاومة في غزة تحديداً لجملة من التحديّات الخطيرة، والتي تستهدف بنيتها وحاضنتها إلى جانب دورها، وأنّ ما تملكه من إمكانيات بشريّة على وجه الخصوص سيمكّنها من تفادي مروحة واسعة من المخاطر، وسيجعلها تنهض من جديد كما كانت تفعل على الدوام، لتعود لممارسة الدور المنوط بها، والذي لم يتبدّل أو يتغيّر بغضّ النظر عن التحوّلات، وهو يتعلّق في الأساس بالدفاع عن أرضها ومقدّساتها، ومقاومة الاحتلال الذي يحتلّ أرضها ويشرّد شعبها، وهي لن تألو أيّ جهد في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى لو كلّفها ذلك أثماناً باهظة.
نحن على تمام الثقة بأنّ المقاومة في غزة والضفة وعموم الإقليم ستحوّل التهديد الحالي وهو كبير وغير مسبوق إلى فرصة، وأنها ستنجح رغم حجم التحدّيات في إعادة الأمور إلى نصابها، ولن تمكّن "دولة" الاحتلال المارقة، وحليفها الأميركي المجرم من تنفيذ أجنداتهما الشيطانية، وستقف كما الطود الشامخ في وجه كلّ المؤامرات، وستُسقطها كما فعلت طوال تاريخها، هذا التاريخ الذي يشهد بأنّ مقاومات الشعوب لا تنكسر، ولا تستسلم، وأنّ النصر حليفها على الدوام.