هدنة غزة المرتقبة: الضمانات بحاجة إلى ضمانات!

ما هي الضمانات التي يمكن أن تُلزم "إسرائيل" باحترام تعهداتها وتنفيذ ما يترتب عليها من بنود ونقاط؟

0:00
  • تنظر فصائل المقاومة الفلسطينية إلى مسألة الضمانات باعتبارها ركيزة أساسية في أي اتفاق.
    تنظر فصائل المقاومة الفلسطينية إلى مسألة الضمانات باعتبارها ركيزة أساسية في أي اتفاق.

بعد تجربتين مريرتين عاشتهما الجهود الدولية الرامية إلى وقف عملية الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على سكان قطاع غزة، وتنصلت فيهما "تل أبيب" من تعهداتها والتزاماتها بموجب اتفاقَي وقف إطلاق النار السابقين (الأول في تشرين الثاني من العام 2023، والثاني في كانون الثاني من العام الحالي) فإن الهاجس الأساس لفصائل المقاومة الفلسطينية لم يعد فقط في مضمون المبادرات والمقترحات المقدمة من الوسطاء الدوليين، وإنما في الآلية التي يمكن أن تضمن التزام الكيان الصهيوني بتنفيذ ما يخصه من بنود الاتفاق، وعدم نسفها متى أراد ذلك.

في المقترح الأميركي الأخير المدعوم مصرياً وقطرياً، والذي يبدو أن فرصه نجاحه تزداد يوماً بعد يوم، ثمة حديث عن تقديم ضمانات من الدول الثلاث الراعية للاتفاق (الولايات المتحدة الأميركية، ومصر، وقطر)، لكن لم يتم إلى الآن الكشف عن ماهية تلك الضمانات التي يمكن أن تقدم، ولا سيما من الجانب الأميركي.

ففي الاتفاقين السابقين عجزت كل من القاهرة والدوحة عن إلزام حكومة نتنياهو الالتزام بتعهداتها وواجباتها، ولم تجد العاصمتان آنذاك ما تفعلانه سوى الإدانة الإعلامية وتحميل نتنياهو وحكومته مسؤولية استكمال عملية الإبادة الجماعية بحق سكان القطاع وإفشال جهود وقف إطلاق النار.

وهذه إجراءات لا قيمة لها بنظر الإسرائيليين بدليل عدد شهداء القطاع من المدنيين بين هدنة كانون الثاني الماضي وبين المقترح الحالي للهدنة، سواء في خيمهم أم في أثناء انتظارهم الحصول على ما يسد جوع أطفالهم وكبارهم.

لماذا الضمانات؟

تنظر فصائل المقاومة الفلسطينية إلى مسألة الضمانات باعتبارها ركيزة أساسية في أي اتفاق يمكن أن يتم التوصل إليه مع العدو الإسرائيلي، وذلك لعدة أسباب من بينها ما يلي:

- تحقيق الغاية الرئيسية من أي اتفاق محتمل، والمتمثلة في التوصل إلى وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع، والانسحاب بالتالي من جميع محافظاته ومناطقه وفتح المعابر لدخول المساعدات والبضائع. في حين أن غاية الإسرائيلي تكمن في تحرير عدد من أسراه لإسكات الرأي العام الداخلي، ومن ثم خرق الاتفاق ومعاودة الحرب على القطاع تحقيقاً للهدف الأساس ألا وهو تهجير سكان القطاع إلى خارجه.

- منع الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية أثناء سريان تنفيذ اتفاق الهدنة، والتي غالباً ما تؤدي إلى سقوط شهداء وجرحى بين المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وبأعداد ليست بالقليلة. وهذا ما حدث في الهدنتين السابقتين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع في تشرين الأول من العام 2023. فمثلاً حصيلة شهداء القطاع خلال أول شهرين من هدنة كانون الثاني الماضي وصل إلى حوالى 140 شهيداً. فيما كانت فصائل المقاومة تلتزم تماماً بالتهدئة وتتجنب حتى الرد على تلك الخروقات كي لا تمنح الاحتلال ذريعة للانقلاب على الاتفاق.

- ضمان تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي لتعهداته المتعلقة بالانسحاب من أراضي القطاع وفق الخطط المتفق عليها، الإفراج عن الأسرى في سجون الاحتلال بحسب العدد الوارد في الاتفاق ومنع إعادة اعتقالهم، ودخول المساعدات والاحتياجات الإنسانية إلى القطاع تبعاً للبرنامج الزمني والكمي المحدد... الخ.

قد تكون مثل هذه الأسباب جزءاً من هواجس أي اتفاق بين طرفين متحاربين في العالم، إلا أنها تصبح أكثر إلحاحاً وضرورة عند يكون الطرف الآخر هو "إسرائيل" المتحررة من أي قيد أو ضغط سياسي وعسكري أو قانون دولي وإنساني أو عرف أخلاقي، وما فعلته في غزة ولبنان وسوريا وإيران واليمن من جرائم إبادة واستهداف متعمد وممنهج للمناطق السكنية والبنى التحتية وسط تواطؤ من بعض الدول وصمت مريب من دول أخرى وخوف من ثالثة، يؤكد أن الكيان الصهيوني لا يزال فوق المحاسبة الدولية والأممية، وبالتالي فهو يملك الضوء الأخضر لفعل ما يريد وكيفما يريد.

ماهي هذه الضمانات؟

لكن ما هي الضمانات التي يمكن أن تُلزم "إسرائيل" باحترام تعهداتها وتنفيذ ما يترتب عليها من بنود ونقاط؟

في حالة الحروب والنزاعات عموماً، يمكن أن تكون الضمانات المقدمة من الدول الراعية لمفاوضات واتفاقيات وقف إطلاق النار على النحو التالي:

-اعتماد مرجعية أممية ودولية للبت في عدم التزام الأطراف بتنفيذ تعهداتهم والواجبات الواردة في بنود الاتفاق، فمثلاً يمكن عرض ذلك على مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار المناسب، أو ترك الموضوع لتكتل إقليمي أو دولي معني بمتابعة ملف هذا الصراع أو ذاك.

في الحالة الفلسطينية تبدو مثل هذه الضمانة بعيدة المنال في ضوء التحالف الأميركي-الإسرائيلي العميق، والذي كان السبب في تعطيل عمل مجلس الأمن، وعجزه عن اتخاذ موقف حازم من عملية الإبادة الإنسانية التي تجري في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023. كما أن الجهود التي بذلت خلال الفترة الماضية لتشكيل تحالف دولي داعم ومؤيد لحل الدولتين لم تثمر سوى عن أصداء إعلامية، وحتى قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي باعتقال نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لم يفضِ إلى وقف العدوان على غزة أو يشكل ضغطاً على حكومة الاحتلال، والسبب أن هناك دولاً كبرى لم تمتثل للقرار واستقبلت نتنياهو وأكدت مجدداً دعم "إسرائيل".

- تعهدات من الدول الكبرى بفرض عقوبات عسكرية، اقتصادية، سياسية على الطرف المخل أو المتهرب من تنفيذ التزاماته، هذا في حال كانت الدول الكبرى تقف موقف الحياد من الصراع أو معنية مجتمعة بوقفه. وعلى اعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية لم تشرك دولاً أخرى كبرى كروسيا والصين في جهود وقف إطلاق النار، فإن مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يشملها المقترح الأميركي المقدّم حالياً.

- الأهم في كل ذلك أن الضمانات تكون ذات موثوقية ومصداقية عندما يكون الأطراف المتحاربون تحت سقف القانون الدولي يلتزمون بما يتضمنه ويعملون على تنفيذه، ويكونون حريصين على السلم والأمن الدوليين، لكن عندما يكون أحد طرفي الاتفاق كياناً استعمارياً، استيطانياً، مجرماً كـ"إسرائيل" تصبح تلك الضمانات بلا فائدة وغير ذات جدوى.

في ضوء الواقع الراهن يمكن القول بوضوح: ليست هناك ضمانات حقيقية. فما دامت الإدارة الأميركية متحيزة ومتحالفة مع الكيان الصهيوني وتبرر له مجازره وجرائمه ضد الإنسانية، فإن الضمانات التي يمكن أن يقدمها الجانب الأميركي ستكون عرضة دوماً للتفسيرات المؤيدة لوجهة نظر الكيان الصهيوني، والتجارب السابقة في هذا الميدان أكثر من أن تعد أو تحصى. وما دامت مصر وقطر لا تملكان من أوراق الضغط ما يجعل حكومة نتنياهو تنصاع لما وقّعت عليه، فإن سيناريو الهدنتين السابقتين مرشح للتكرار مجدداً. وعليه فإن الضمانة الوحيدة هي إبقاء المقاومة يدها على الزناد.