نيويورك- دمشق- دبي... سيميائية الأبراج العالية
الأبراج العالية مصمّمة دائماً لحمل الدلالات الأبعد؛ فمؤخراً تناقلت وسائل الإعلام طلباً للشرع لصفقة تضم بناء برج في دمشق باسم ترامب!
-
المبنى رمز، وكذلك فعل تدميره!
بعد انهيار أبراج التجارة في نيويورك، كتب المفكر الفرنسي جان بودريار نصاً فلسفياً مذهلاً بعنوان "ذهنية الإرهاب"، وبسببه، اتهمه اليمين الفرنسي آنذاك بدعم الإرهاب.
شرح بودريار في نصه حينذاك سيميائية انهيار برجي التجارة في نيويورك، ووضع إصبعه بدقة على جرح التناقض الوجداني الذي عاشه الناس، فهم من جهة ليسوا مع قتل المدنيين، ومن جهة أخرى، كان انهيار "البرجين التوأمين" يعني القدرة على الانتقام من فائض القوة الأميركية أو حتى خدشها، وكتب بودريار حينها " لقد فعلوها، ونحن بكل تواطؤ مضمر، أردناها" ..
مثلت أبراج التجارة في ذهن الناس، القوة المالية الأميركية، وول ستريت، استنزاف ثروات العالم ومقدراته، التبادل غير المتكافئ في الاقتصاد العالمي، الحرمان من التنمية المستقلة، المصير الاقتصادي المعلّق بإيقاع البورصة، حلم العودة إلى نقطة الصفر في الديون في فيلم "نادي القتال" لـلمخرج ديفيد فينشر وبطولة إدوارد نورتن وبراد بت.
وكأن الأبراج العالية مصمّمة دائماً لحمل الدلالات الأبعد؛ فمؤخراً تناقلت وسائل الإعلام طلباً للشرع لصفقة تضم بناء برج في دمشق باسم ترامب.
"برج ترامب"، هذا هو اسمه؛ لتكون زيارته أو المرور بجانبه تثير الحقائق المرتبطة بالاسم؛ اتفاقات أبراهام، الرغبة في ضمّ سوريا إليها، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، صفقة القرن، الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، الابتزاز المالي، ازدراء العرب...
في سوريا، لا توجد الأبراج الحداثوية بكثرة، وثمة تداخل خفي هنا بين السيادة والحداثة، فأغلب الدول (تحديداً في منطقتنا) التي اختارت مسار السيادة، وتعرّضت للعقوبات، وحُرمت الاستثمارات، تتراجع فرص مشاهدة أبراج من هذا النوع فيها، فيكون غياب الأبراج عنها دلالة سيميائية للعقوبة، ولكن أيضاً السيادة !
ينتمي بودريار إلى مدرسة فكرية مشابهة للمدرسة التي انتمى إليها مفكر فرنسي آخر، تحدّث عنه ألكسندر ديوغين كمشخّص دقيق للحالة الأوروبية، وهو "غي ديبور"، صاحب كتاب "مجتمع الفرجة"، والذي كان معادياً لمشاهد الحداثة التي لا تنعكس على حياة الناس اليومية؛ وكان يقول " لا معنى للأبراج التي ينظر إليها الناس، ولا يستطيعون العيش فيها". آخر ما يلزم السوريين الآن، برج حداثوي في دمشق، مهما كان اسمه !
ضمن دائرة اهتماماته العقارية، احتلّت الأبراج مكانة مميزة في مشاريع ترامب، وتقدّم الأبراج بارتفاعاتها الشاهقة الرضا النفسي الذي يبحث عنه رجل، اتفق تيار واسع من علماء النفس الأميركيين، على تشخيصه بالنرجسية المرضية. لذلك، برج ترامب في سوريا لن يكون حدثاً تجارياً جديداً، فأبراج ترامب استكملت وقوفها في عدد من دول العالم، في تركيا والهند والفيليبين، ناهيك عن الأبراج في الولايات المتحدة نفسها. لكن ترامب بات يبحث عن رمزية إضافية تمنحه إياها الأبراج الجديدة، الرمزية خارج الإطار التجاري باتجاه الإطار السياسي، وهذا ما يمكن أن يميز "برج ترامب" في دمشق !
يسير ماسك على سكة موازية لترامب في رمزية الأبراج، فالرجل المهووس بالصناعات التكنولوجية، يفضّل دبي على دمشق، وقبل 3 سنوات من لحظة الحديث عن برج لترامب في دمشق، تحدّث إيلون ماسك عن برج باسمه في دبي، أعلى من برج خليفة، وحجمه يعادل 3 مبانٍ من البنتاغون، وكأنه يريد أن يقول "نحن رجال التكنولوجيا سنحكم هذا العالم، نحن الكهنة الجدد في العصر الجديد، ومنشآتنا كاتدرائياته، ونحن أيضاً العلامة المسجلة الأقوى للمدن الكوزموبوليتية".
ماي، إيرول، كيمبال، عائلة إيلون ماسك، التي تحدثت أكثر من مرة عن برج ماسك، فالاسم الأخير للبرج يجعل من الرمزية عائلية بامتياز؛ لتعطي دلالة أخرى؛ فإذا كانت هنالك سمة لحكم العائلة في الشرق، فمن الأفضل أن تكون العائلة الأميركية حاضرة أيضاً !
في فيلم V for vendetta الصادر عام 2005، تدور الأحداث حول فكرة محاولة تغيير الواقع السياسي عبر إسقاط عدد من المباني، واعتبر عدد من الناقدين السينمائيين آنذاك، أن الفيلم يحاكي وجدان معارضة شرسة ضد موجة اليمين المتشدد في الولايات المتحدة وبريطانيا.
بطل الفيلم الذي يرتدي قناع جاي فوكس(الذي ترتديه مجموعات احتجاجية متعددة في العالم، إلى جانب قناع دالي)، يقول في المراحل الأخيرة قبيل لحظة التفجير في الخامس من نوفمبر:
" المبنى رمز، وكذلك فعل تدميره، الرموز تستمد قوتها من الناس" !