التدخل الإسرائيلي في السويداء... رسائل باتجاهات متعددة

الرسائل التي يريد الكيان توجيهها من خلال تحركه في سوريا تستهدف بالدرجة الأولى تركيا، من خلال منع تحقق متطلبات المشروع التركي، الذي يفترض أن حل القضية الدرزية سيمهد الطريق لحل قضية الكرد.

0:00
  •  الكيان الإسرائيلي  لم ينتظر كثيراً بعد سقوط النظام في سوريا.
    الكيان الإسرائيلي لم ينتظر كثيراً بعد سقوط النظام في سوريا.

يجمع أكثر المحللين على أن وصول أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق لم يكن نتيجة حراك داخلي بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما أمكن اعتباره ثمرة توافقات وتقاطع مصالح دولية عبرت عن نفسها من خلال تسهيل تحرك هيئة تحرير الشام بحرية نحو العاصمة دمشق.

وما نقصده بمصطلح التسهيل ليس فقط مجرد العمل على تحييد القوات الروسية أو الخبراء الإيرانيين وغيرهم، وإنما العمل على تنظيم واقع الجماعات المسلحة ومساعدتها في السيطرة على المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية حيث كان لتركيا الدور الأهم في توفير البيئة الحاضنة وتسهيل انتقال المسلحين والمعارضين قرب حدودها، من دون أن ننسى الدور الأميركي الذي كان حاسماً منذ نهاية فترة رئاسة أوباما، في تكريس وجود قواعد أميركية على أرض سوريا، والتنسيق مع قوى المعارضة، والعمل على منع احتكاك بعضها ببعض، وكذلك ما قامت به الإدارات الأميركية المتعاقبة في مجال العقوبات وفرض حصار محكم على نظام الرئيس الأسد.

في تلك المرحلة، أي قبل سقوط النظام، لم يكن الدور الإسرائيلي العلني أو الواضح محبذاً لدى كل الأطراف الفاعلة في الملف السوري. فمتطلبات تلك المرحلة كانت تفترض تظهير الحراك في سوريا على أنه نتاج ثورة شعبية، تشكل امتداداً لما سمّي بالربيع العربي. وبالتالي، فإن أي دور إسرائيلي، مهما كان حجمه أو شكله، سيؤدي إلى نتائج عكسية لا تساعد في تحقيق هدف إسقاط النظام.

في هذا الإطار، إذا كان من الممكن اعتبار هدف إسقاط النظام في سوريا نقطة تتقاطع فيها مصالح القوى الفاعلة، أي تركيا والولايات المتحدة والكيان، من دون أن نحيِد بعض الدول العربية، فإن الثابت هو أن المطلوب من وراء هذا الهدف ليس واحداً. فإذا كانت الولايات المتحدة تستهدف تسديد ضربة لمحور المقاومة وكسر حلقة التواصل الجغرافي التي كانت تؤمنها سوريا بين إيران وقوى المقاومة في العراق من جهة، وحزب الله من جهة أخرى، فإن الجانب التركي كان يتحرك وفق مخطط خارطة النفوذ التي يسعى إلى توسيعها في الشرق الأوسط، ووفق مسعى إجهاض أي مشروع كردي متماسك مثل سوريا منطلقاً له. 

أما بالنسبة للكيان الإسرائيلي، فإن الهدف الحقيقي لم يكن مجرد تحييد سوريا وإنهاء قدرتها على التهديد أو دعم حزب الله، بل ظهر أنه يتخطى هذه الأهداف نحو مواجهة التمدد التركي في سوريا، وتحقيق الحلم التاريخي العقائدي بالتمدد نحو الفرات، وتحقيق تواصل بري مع الكرد، بما يساعد في تحقيق حلم الدولة الكردية القادرة على تفتيت المشروع القومي العربي وإضعاف الدورين التركي والإيراني في المنطقة. 

وعليه، لم ينتظر الكيان الإسرائيلي كثيراً بعد سقوط النظام في سوريا، ولم يُقدر الدور التركي الذي كان حاسماً وأساسياً في تحقيق هذا الهدف، حيث بدأ الكيان في يوم وصول المعارضة نفسه إلى دمشق بتنفيذ حملة جوية مكثفة وممنهجة، استهدفت تدمير كل المقدرات الاستراتيجية للجيش السوري ورسمت خطوطاً حمراً، بالنار والغارات، منعت على الحكم الجديد تخطيها في الجنوب السوري. فقد ظهر أن الرؤية الإسرائيلية لسوريا، بجغرافيتها ومساحتها 185180 كلم مربع، لا تتوافق مع التوجه الإقليمي الساعي للحفاظ على وحدتها. فمن خلال المسار الأميركي الذي تُوج بلقاء دونالد ترامب مع الرئيس السوري أحمد الشرع برعاية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومن ثم رفع العقوبات والعمل على إزالة مفاعيل قيصر، بالتوازي مع الزيارات المتكررة لتوم براك لسوريا، وتشديده على أن أمام قسد طريقاً واحداً هو طريق دمشق، أمكن استنتاج تطابق في الرؤى الإقليمية والدولية التي يمكن تلخيصها بضرورة بقاء سوريا موحدة، مع التشديد على تحديد أطر تحركها وفق مسار يضمن توجهها ودمجها في مشروع الولايات المتحدة للسلام الإبراهيمي.

وفق هذا السياق، لم يتردد النظام السوري الحالي في مخاطبة الكيان الإسرائيلي، حيث تحدث رئيسه عن أهداف مشتركة وأعداء مشتركين، والتقى ممثلون عنه مع آخرين إسرائيليين أكثر من مرة، وكان آخر هذه اللقاءات في باكو- آذربيجان، حيث تم الاتفاق على سلسلة من التنسيقات الأمنية بين البلدين. بنتيجة هذا اللقاء الأخير، اعتقد الرئيس السوري أن بإمكانه التحرك في جنوب سوريا، وأن مجرد الانفتاح الإسرائيلي عليه، إضافة إلى كلام براك مع قسد، يمكن تسييل ذلك اعترافاً ضمنياً بإمكان العمل على فرض سلطة النظام على كامل الأراضي السورية، ومنها السويداء. 

غير أن الواقع الميداني لم يدلل على صحة هذا الاعتقاد، وظهر التحرك الإسرائيلي الداعم للدروز، والذي تخطى في تحركه منطقة السويداء ليستهدف العاصمة دمشق، حيث نفذ أكثر من 200 غارة استهدفت القصر الجمهوري ومبنى قيادة الأركان السورية، إضافة إلى أهداف أخرى، على أنه يدلل على رؤية إسرائيلية مختلفة. يتحدث الإسرائيليون صراحة عن أن الواقع في جنوب سوريا سيبقى خاضعاً لمتطلبات الأمن الإسرائيلي، وأن المشروع الإسرائيلي لا يتوقف على حسن جوار مع الدولة السورية، وإنما يفترض العمل على حماية الدروز والكرد. وإذا قاربنا الرؤية الإسرائيلية من منظور عقائدي، فإن ادعاء العمل على حماية الكرد والدروز لا يخدم إلا تلك الرؤية الإيديولوجية لـ"إسرائيل" الكبرى والتي يمكن اختصارها في سوريا بممر داوود.

في هذا الإطار، تجب الإشارة إلى أن الواقع الإنساني الذي يحرص الكيان الإسرائيلي على التحرك وفقه في سوريا، لا يتناسب مع الإطار النظري المحرك للكيان الإسرائيلي في حروبه وحركته. فالحريص على أمن الأقليات وواقعهم الإنساني في السويداء، يقدم لنا في غزة نموذجاً لجريمة إبادة بشرية عبر التجويع والإعدام الجماعي وعدم التفريق بين مقاتل ومدني، أو بين مقاتل ورضيع. وبالتالي يمكن اعتبار التدخل العسكري الإسرائيلي في السويداء مدخلاً لتوجيه رسائل متعددة، يستهدف الكيان من خلالها الإعلان عن خارطة نفوذ جيواستراتيجية لن يتنازل عنها.

بالطبع، لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة عائقاً أمام تنفيذ الكيان لهذا المخطط.  فإذا كان دونالد ترامب قد تماشى مع التوجه الإقليمي العربي والتركي بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتثبيت الحكم الحالي في سوريا، فإن ذلك لا يعني معارضته لخطط التوسع الإسرائيلي في سوريا، خصوصاً وأنه اعترف سابقاً بالسيادة الإسرائيلية على الجولان والقدس، وأبدى استعداده للاعتراف بها على الضفة الغربية. و

عليه يمكن القول إن الرسائل التي يريد الكيان توجيهها من خلال تحركه في سوريا تستهدف بالدرجة الأولى تركيا، من خلال منع تحقق متطلبات المشروع التركي، الذي يفترض أن حل القضية الدرزية وفرض سيادة الشرع عليها سيمهدان الطريق لحل قضية الكرد في شرق الفرات، وتستهدف ثانياً حكم الرئيس الشرع من خلال عدم الاعتراف بأي حصانة له، وإفهامه أن التواصل معه لا يعني إعطاءه الحق بالتصرف في الجنوب السوري بحرية، أو الاعتراف بسيادته على كامل التراب السوري، وتستهدف ثالثاً الدول العربية، من خلال التأكيد أن الانخراط في اتفاقات أبراهام والتطبيع مع الكيان لن يكونا على أساس قواعد المنفعة المتبادلة والتوازن في الحقوق والواجبات، وإنما وفق مفهوم الحاجة والمتطلبات الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية فقط لا غير.