نهاية "إسرائيل" وولادة أخرى!
تخوض "إسرائيل" هذه المرة أطول حرب في تاريخها، مستغنية بذلك قسراً عن تكتيكها القديم المتمثل "بالمعركة بين الحروب"، أقله داخل فلسطين.
بعد أقل من شهر، تحل الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى التي أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث في العالم. والقول إنَّ ما بعد السابع من تشرين الأول من العام الفائت ليس كما قبله ليس من باب رفع الشعارات الرنانة، إذ إنه يستند إلى وقائع ميدانية وحقائق قيد التشكل، فالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تتوقف بعد، ولا يبدو أنها ستتوقف كذلك في الأمد المنظور، في ظل تعنت "إسرائيل" بقيادة بنيامين نتنياهو والزمرة التي يمثلها، فالهدف هو الإجهاز على القطاع المحاصر عبر مواصلة جرائم القتل والإبادة، بصرف النظر عن أي كلام معلن أو أي مطالبات إسرائيلية بضرورة عقد صفقة لعلّها تعيد المحتجزين الإسرائيليين إلى ذويهم وتوقف الحرب.
ومع مرور عام تقريباً، لا بد من الوقوف على بعض المتغيرات الإسرائيلية.
أولاً، تخوض "إسرائيل" هذه المرة أطول حرب في تاريخها، مستغنية بذلك قسراً عن تكتيكها القديم المتمثل "بالمعركة بين الحروب"، أقله داخل فلسطين، فالخداع الاستراتيجي الذي مارسته حركة حماس أثبت فشل هذا التكتيك الذي تبجح مسؤولو إسرائيل به طويلاً، فكان الكيان أمام عملية السابع من أكتوبر.
ولأن أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة صعبة المنال في ظل مقاومة لا تهادن وشعب يصرخ ولا يركع، فقد أصبحت أقرب إلى حرب استنزاف، والوصف هنا للجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك الذي يرى أن استمرار الحرب كما يريد ويشتهي نتنياهو سيؤدي إلى انهيار "إسرائيل"، لا إلى هزيمة حماس. ويستند بريك إلى معطيات عدة، منها ما هو ميداني ومنها ما هو اقتصادي، ولكن الأخطر هو ما يتعلّق بالمجتمع الإسرائيلي. وهنا نصل إلى المتغير الثاني.
ثانياً، حركت عملية طوفان الأقصى الجمر تحت الرماد، فأظهرت المجتمع الإسرائيلي العنصري المنقسم على نفسه، ما ينبئ بمؤشرات جدية لحرب أهلية داخل المجتمع الاستيطاني.
وقد دفع هذا الواقع بعض المسؤوليين الإسرائيليين إلى دق ناقوس الخطر، وعلى رأسهم إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق. وما مشاهد التظاهرات والتحشيد ضد بنيامين نتنياهو سوى دليل على مشهد التصدعات الداخلية الذي يزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وخصوصاً في ظل رفض اليمين المتطرف أي محاولة لرأب الصدع.
لذلك، لم يكن مفاجئاً وصف الأخير مقترح رئيس الكيان بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية بـ"الدعوة غير المسؤولة والمتعاونة مع دعاية حماس واليسار المتطرف".
ثالثاً، دفعت عملية طوفان الأقصى بالصراعات السياسية-العسكرية إلى الواجهة، فكانت الذريعة-الهدية لليمين المتطرف لإعادة فتح ملف الهوية العسكرية لجيش الاحتلال. كان لافتاً تقاذف المسؤوليات والتهم بعد السابع من أكتوبر بين المستويين السياسي والعسكري.
وكان التصويب على إخفاقات الاستخبارات والجيش الإسرائيلي من قبل كل من إيتمار بن غفير وسموترتش بمنزلة اللازمة التي تتكرر مع كل تطور ميداني. أما الغاية، فكانت الدفع باتجاه تقديم الاستقالات ليبنى على الشيء مقتضاه.
من هنا، رأينا الاستقالات تتوالى، فبعد استقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا، الأنظار تتجه إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي، لقطع الطريق عليه ومنعه من الإشراف على أي تعيينات جديدة في "الجيش". وعليه، يأتي في السياق تساؤل المحلل العسكري آيال عليما: "من يحل مكان الضباط الذين يستقيلون أو ينهون مهامهم؟ ومن هي الجهة التي ستتولى مهمة الإشراف على التعيينات العسكرية الجديدة؟".
الجواب عن هذا التساؤل أصبح أوضح من ذي قبل، فاليمين المتطرف يتطلع إلى الإشراف عبر وزرائه على التعيينات الجديدة، وبالتالي تغيير هوية "الجيش" بشكل جوهري؛ فبعد الوصول إلى السلطة أتت التعديلات القضائية لتلتحق بها المؤسسة العسكرية، وهكذا يكتمل فلك الصهيونية الدينية.
باختصار، نحن أمام صورة جديدة لإسرائيل آخذة في التشكّل أكثر مع مسار الحرب، فـ "إسرائيل" التي قدّمت نفسها "علمانية" في بدايات التشكل تلفظ أنفاسها، واليوم الكلمة لإسرائيل الدينية المتشددة بصورتها الفاقعة. لذا، وجب دراستها وقراءتها وفق المتغيرات التي ذكرناها، فاليمين المتطرف وصل إلى السلطة هذه المرة ليحكم ويتحكم في كل مفاصل الكيان وهاجسه مواصلة الضم والتمدد.