نقابة الصحافيين التونسيين ومحاولات التشويه

تواجه النقابة محاولات لتشويه قادتها وعلى رأسهم محمد ياسين الجلاصي الذي يعدّ أصغر رئيس لهيكل مهني صحافيّ منتخب بشكل ديمقراطي في المنطقة العربية.

  • تدفع نقابة الصحافيين التونسيين اليوم ضريبة الخيارات المبدئية التي انحازت إليها منذ تأسيسها.
    تدفع نقابة الصحافيين التونسيين اليوم ضريبة الخيارات المبدئية التي انحازت إليها منذ تأسيسها.

بالتزامن مع صدور الترتيب العالمي الجديد لمؤشرات حرية الصحافة التي شهدت فيها تونس نكوصاً غير مسبوق في السنوات الأخيرة بعد تراجعها 21 مرتبة دفعة واحدة، تتعرّض "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين" ورئيسها محمد ياسين الجلاصي لحملات تشويه وتخوين وادّعاءات كاذبة بهدف ضرب مصداقيتها التي اكتسبتها طيلة مسيرة حُبلى بالنضال والاستقلالية في سبيل الوصول بالقطاع إلى مشهد إعلامي آخر ممكن. 

عقد الاتحاد الدولي للصحافيين مؤتمره الثلاثين في تونس في حزيران/يونيو 2019، وذلك تكريماً للدور الذي تلعبه "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين" في مجال الدفاع عن حريّة الصحافة وحقوق الصحافيين والقضايا العادلة في العالم، كالقضيّة الفلسطينيّة. إنّ هذا المؤتمر الذي كانت المنافسة فيه محتدمة من أجل احتضانه بين عديد النقابات التي تحظى بدعم من دولها، والذي تمّ فيه تنقيح المدوّنة الدولية لأخلاقيات مهنة الصحافيين للمرّة الأولى منذ 1954، كان بمنزلة الاعتراف العالمي بمكانة هذه النقابة الوازنة من حيث رأس المال الاعتباري، والتي هي سليلة تجربة عريقة في العمل النقابي المدني المستقل في تونس.

رغم هذه الحظوة التي تتمتّع بها نقابة الصحافيين التونسيين في العالم، والتي يفترض أن تكون مصدر فخر للتونسيين، تواجه النقابة اليوم محاولات يائسة لتشويه قادتها وعلى رأسهم النقيب محمد ياسين الجلاصي (35 سنة) الذي يعدّ أصغر رئيس لهيكل مهني صحافيّ منتخب بشكل ديمقراطي في المنطقة العربية، حيث تئن نقابات الصحافيين تحت وطأة هيمنة الأنظمة الحاكمة.

تدفع نقابة الصحافيين التونسيين اليوم ضريبة الخيارات المبدئية التي انحازت إليها منذ تأسيسها. فبعد أن كان مكتبها التنفيذي الشرعي المنتخب في 2008 عرضة لعمليّة انقلابية دُبّرت داخل أسوار قصر قرطاج في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ها هي اليوم تجابه وضعاً سياسياً قد يكون الأخطر منذ ثورة 2011.

برهنت "النقابة الوطنيّة للصحفيين التونسيين"، على امتداد السنوات التي تلت الثورة في تونس، على استقلاليتها وقدرتها على لعب دور قيادي مهمٍّ في صلب المجتمع المدني في تونس، من أجل الذود عن المشروع الديمقراطي وحماية مكسب الحرية الذي جاء بفضل دماء الشهداء.

في زمن حكم الترويكا بقيادة حزب حركة النهضة الإسلامي بين 2011 و2013، كانت نقابة الصحافيين التونسيين بمنزلة رأس الحربة في معركة التصدّي لمحاولات الهيمنة على الإعلام والصحافيين والتي كانت تهدف إلى تطويع القطاع بالترهيب والترغيب خدمة لمشروع الإسلام السياسي الذي لفظه الشعب التونسي.

بعد ذلك، وإبان تجربة التوافق المغشوش بين حزب نداء تونس الذي يمثل المنظومة القديمة في تونس بقيادة الرئيس الباجي قائد السبسي (2014-2019) وحركة النهضة بقيادة رئيسها راشد الغنوشي، كانت نقابة الصحافيين التونسيين سدّاً منيعاً في وجه محاولات اختراق القطاع والمهنة عبر "طعم" التعيينات التي لا تقوم على الكفاءة بل على الولاء السياسي أو الأيديولوجي. تكفي العودة فقط إلى بياناتها وأنشطتها التي تكاد تكون شبه يومية أو أسبوعية، فضلاً عن تقاريرها السنوية المتعلقة بتقييم واقع الحريات الصحافية، كي نستشفّ مواقفها المبدئية المنتصرة لاستقلالية القطاع أولاً، وأخلاقيات المهنة وإصلاح الإعلام عبر مقاربة جديدة تقوم على وضع سياسات عمومية وفق مسار تشاركي شفّاف، وانتظارات الشعب التونسي، وثانياً، في الشغل والحرية والكرامة الوطنيّة التي كانت عناوين رئيسية لمحركات الثورة التونسية.  

كان لهذا الخط النضالي الذي كانت بوصلته بالأساس الحريّة والاستقلالية ثمن باهظ دفعته النقابة في مواجهتها لكلّ الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. فقد تمّ تعطيل ملف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيين التونسيين، ولا سيّما ملف الاتفاقية الإطارية المشتركة التي وُصفت بأنّها مكسب تاريخي للقطاع، فضلاً عن ملف مشروع السكن الاجتماعي. 

رغم كلّ هذه الخيبات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمهنة والعاملين فيها،  فقد ظلّت النقابة إطاراً جامعاً للصحافيين التونسيين بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسيّة؛ فالقيم والمبادئ التي تكافح نقابتهم من أجلها أسمى وأرقى من المنافع الفئوية القطاعية الضيقة، حتّى وإن كانت حقوقاً مشروعة لا جدال فيها.

منذ انتخابات 2019، ومع انتخاب مكتب تنفيذي جديد في 2020، لم تتردّد نقابة الصحافيين التونسيين في لعب دورها الطلائعي في صلب المجتمع المدني التونسي. كان منعرج الشعبوية الذي دخلت فيه البلاد اختباراً ليس بالهيّن، أثبت اشتداد عود هذا الهيكل النقابي في مواجهة كل العواصف.

كانت النقابة عرضة لحملات أقل ما يُقال عنها إنها غير نظيفة، حينما دعت الصحافيين إلى مقاطعة رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي بسبب هجماتها على الصحافيين وبعض وسائل الإعلام. كما كانت في طليعة القوى المدنية التي تصدّت لحملات التشويه والتحريض التي طالت القطاع من قبل ائتلاف الكرامة الذي يقوده المحامي سيف الدين مخلوف. ونجحت أيضاً في إفشال محاولة السطو على القطاع خلال فترة حكم هشام المشيشي، المدعوم من قبل حركة النهضة وقلب تونس، حزب رجل الأعمال نبيل القروي وصاحب قناة نسمة، حينما تصدّت لمقترح تنقيح المرسوم 116 المنظّم لحرية الإعلام السمعي البصري في البرلمان، والذي كان سيفتح الباب على مصراعيه لمزيد من إغراق القطاع بالمال السياسي والفساد التونسي والخارجي الذي يهدف من خلاله أصحابه إلى خدمة أجندات حزبية لا علاقة لها بأخلاقيات المهنة ولا بالمشروع الديمقراطي في تونس.

 

اليوم، ومع انفراد الرئيس قيس سعيّد بجميع الصلاحيات في مؤسسات الدولة التونسية بعد قرارات الـ 25 من تموز/ يوليو الشهيرة، رفعت نقابة الصحافيين التونسيين شعار "حرية الصحافة تواجه الخطر الداهم"، في إشارة إلى الوضع الذي آل إليه مناخ حرية الإعلام في تونس، ولا سيّما في ظلّ تنامي الاعتداءات على الصحافيين، والمحاكمات، بما في ذلك العسكرية، التي تطالهم خارج إطار المرسوم 115 المنظّم للمهنة منذ الثورة في 2011، إضافة إلى الضغط الذي يتعرض له بعض المؤسسات الإعلامية من أجل ضرب استقلاليّته كي يتحوّل إلى بوق دعاية للرئيس سعيّد ومشروعه السياسي، مثلما هي الحال خلال الأشهر الأخيرة في التلفزة الوطنية، القناة الرسميّة العمومية التي تموَّل من أموال دافعي الضرائب.

تواجه نقابة الصحافيين التونسيين اليوم، بسبب مواقفها المبدئية في الدفاع عن مكتسبات التجربة الديمقراطية في تونس، والتي تعدّ حرية الصحافة أبرزها على الإطلاق، استهدافاً بواسطة حملات مسعورة قد تكون الأخطر منذ 2011. يقف وراء هذه الحملات من يسمّون أنفسهم أنصار الرئيس قيس سعيّد الذي تراجعت حرية الصحافة في عهده بين 2020 و2022 من المرتبة الـ 72 عالمياً إلى المرتبة الـ 94 وفق التقارير السنوية لمنظمة "مراسلون بلا حدود".

وعلى الرغم من صيحات الفزع التي أطلقتها نقابة الصحافيين التونسيين أكثر من مرّة من أجل أن يلعب الرئيس سعيّد دوره كضامن رئيسي لحرية التعبير والصحافة في البلاد، وفق ما ينصّ عليه الدستور، يقف الأخير صامتاً تجاه الانتكاسة التي بات عليها واقع الحريات الصحافيّة في تونس، بل أكثر من ذلك، فقد أضحى اليوم أوّل من يخرق قانون النفاذ إلى المعلومة، معتبراً نفسه فوق المساءلة الإعلامية التي تُعتبرُ شرطاً أساسياً في أيّ بلد تزعم قيادته أنّها ديمقراطية.

يعمل الرئيس قيس سعيّد منذ وصوله إلى سدّة الحكم على تهميش وإقصاء الإعلام كوسيط مجتمعي، فهو يعتبر، وفق مشروعه السياسي، أنّ زمن المؤسسات الوسيطة قد انتهى، وأنّ العصر الجديد الذي يبشّر به لا يحتاج فيه رئيس الدولة إلى صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية كي يتواصل مع شعبه الذي انتخبه. كما أنّ للرئيس قيس سعيّد رؤية في علاقته بالمجتمع المدني الذي يريد أن يعوّض عنه بما سمّاه "المجتمع الأهلي".

في هذا "المجتمع الأهلي" الذي يبشّر بمنافعه الرئيس سعيّد، لا يوجد مكان للنقابات والهياكل المهنية كمؤسّسات وسيطة. فعلاقة الحاكم بالمحكوم علاقة مباشرة تقوم على "البناء القاعدي" و"الديمقراطية المباشرة" التي هي نقيض الديمقراطية التمثيلية.

ولا أدلّ على هذا التصوّر السياسي الطوباوي الشعبوي غير الديمقراطي، إلّا استقباله مؤخّراً لمستشارته الإعلامية السابقة رشيدة النيفر تزامناً مع صدور تقرير "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين" حول واقع الحريات الصحافية في تونس، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة. 

ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه العديد من المراقبين أن يُجري الرئيس لقاءً مع نقيب الصحافيين لتدارُس سبل تدارك هذا الوضع الخطير، استقبل سعيّد مستشارته السابقة النيفر، التي أدلت قبل ذلك بيوم بتصريح غريب مفاده أنّ سعيّد "يعمل ما لا يقل عن 20 ساعة في اليوم"، ليمرّر بذلك رسائل واضحة مفادها أنّ الرئيس لا يعترف بالأجسام الوسيطة، وأن تعامله البراغماتي المناسباتي معها هو مجرد مرحلة ظرفية تسبق مرحلة توطيد أركان جمهوريته "الشعبوية الهلامية" العصيّة على الفهم الفكري والسياسي، حتّى من قِبل أفلاطون نفسه لو كُتب له أن يكون حيّاً يُرزق بيننا في تونس اليوم.

 

منذ تولّيه مقاليد الحكم، أجرى الرئيس سعيّد حواراً يتيماً مع القناة الوطنية الأولى التونسية بمناسبة مرور 100 يوم على وصوله إلى كرسي الرئاسة، وكان ذلك في إطار تعهّد انتخابي قطعه كل المترشحين الذين شاركوا في المناظرة الرئاسية. فضلاً عن ذلك، وطيلة سنتين ونصف سنة من عهدته الرئاسية، بنى جداراً سميكاً بينه وبين الصحافيين، ورفض تعيين ناطق رسمي باسم الرئاسة، كما لم يعيّن مستشاراً مكلّفاً بالإعلام والاتصال منذ استقالة رشيدة النيفر سنة 2020.

يتّهم من يسمّون أنفسهم أنصار الرئيس سعيّد نقابة الصحافيين التونسيين بخدمة أجندة غير وطنية تعادي مسار الـ 25 من تموز/ يوليو التصحيحي، وبالحصول على تمويلات أجنبية في سبيل ذلك، والحال أنّ لرئيس الدولة كلّ الصلاحيات لتحرّي هذه الاتهامات الخسيسة والكاذبة التي يُراد منها ضرب مصداقية النقابة، ومن خلفها قطاع الإعلام والصحافيين الذين برهنوا على تشبّثهم باستقلاليتهم ومسؤوليتهم الاجتماعية والأخلاقية في هذا الظرف الصعب الذي تمرّ به البلاد.

لا شكّ في أنّ هذه الادعاءات الباطلة لن تزيد نقابة الصحافيين التونسيين وقياداتها الشابة إلّا صلابة في الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية في تونس ما بعد الثورة. بل أكثر من ذلك، فهي تعزّز مصداقية هذا الهيكل النقابي المتمسّك بالمبادئ والقيم نفسها طيلة السنوات الماضية، رغم تغيّر الحكومات والرؤساء، وذلك بعيداً عن أي اصطفافات سياسية أو أيديولوجية.

بين عام 2011 واليوم، تعاقبَ على رئاسة تونس خمسة رؤساء. فمن فؤاد المبزع وصولاً إلى قيس سعيّد، مروراً بمحمد منصف المرزوقي والباجي قائد السبسي ومحمد الناصر، ظلت نقابة الصحافيين شامخة صامدة دفاعاً عن حرية الصحافة والصحافيين وعموم التونسيات والتونسيين، لكنّ جلَّ هؤلاء رحلوا عن السلطة وبقي فقط أثرهم للتاريخ الذي في باطنه نظر وتحقيق على حدّ عبارة ابن خلدون.

في واقع الحال، لا مراءَ في أنّ الرئيس قيس سعيّد سيرحل يوماً ما عن السلطة مثلما كانت الحال مع من سبقه في الجلوس على كرسي الحكم في قصر قرطاج. لكن إلى أن يحين وقت الرحيل بالنسبة إلى الرئيس سعيّد، عاجلاً أو آجلاً، ستكون نقابة الصحافيين التونسيين حتماً شوكة في حلق أنصار "الجمهورية الشعبية القيسيّة" التي يعتقد عبثاً منظّروها أنّ زمن الأجسام الوسيطة قد ولّى وانتهى، وأنّ دور الإعلام يكمن في خدمة من يكون في السلطة بشكل فجّ لا غير.