تونس: محاكمات قضية "إنستالينغو" دلالاتها وتداعياتها

القضاء التونسي الذي كان يُراهن على استقلاليته إلى حدّ ما بدا في قضية محكمات إنستالينغو تابعاً تبعيّة مطلقة للسلطة التنفيذية، وأنه بات أداتها لمواجهة خصومها السياسيين، وتداعيات ذلك خطيرة فهو يُخرج القضاء من الحيادية.

0:00
  • أعمدة المشهد التونسي الاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل أيّ رياح حتى تواجه العواصف.
    أعمدة المشهد التونسي الاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل أيّ رياح حتى تواجه العواصف.

قدّمت تونس نموذجاً متفرّداً في ثورة الياسمين، وقدّمت نموذجاً متفرّداً آخر في التداول على السلطة، وتُعتبر حالة سياسية متفرّدة فيما يتعلّق بعلاقة المعارضة بالنظام السياسي. وحتى في علاقة الأحزاب فيما بينها، لم تكتفِ تونس بتقديم النماذج السالفة حتى قدّمت نموذجين مهمّين جداً سيترتّب عليهما مستقبل المشهد السياسي في تونس لأجيال.

 النموذج الأول: عبّرت عنه السلطة التنفيذية ممثّلة في شخص الرئيس قيس سعيّد وهو المرشّح المستقلّ أي أنه لم يكن قادماً من حزب سياسي كبير داعم ومساند له؛ حتى انتخابه رئيساً للجمهورية شهد مقاطعة شعبية ملفتة.

ورغم ذلك استطاع أن يُمسك بأوراق المشهد السياسي كافة بما في ذلك العلاقة مع الأحزاب السياسية التونسية، حتى بدا الرجل أنه قادر على إدارة كلّ مكوّنات المشهد السياسيّ. والمفارقة أنه ـــــ المستقلّ ـــــ ذهب بعيداً في التحييد والتضييق على الأحزاب السياسية كافة.

النموذج الثاني: تُعبّر عنه العلاقة البينية بين الأحزاب والقوى السياسية التونسية والتي تغلب عليها حالة الافتراق وعدم التوافق لمواجهة تغوّل السلطة التنفيذية ونموذجها علاقة جبهة النهضة ببقية المكوّنات السياسية.

 وقد انعكست تداعيات تلك العلاقات الباردة بين المكوّنات السياسية التونسية وعدم قدرتها على تكوين جبهة موحّدة؛ على ما حدث مؤخّراً فيما يُعرف بمحكمات قضية "إنستالينغو" والتي تُعدّ حدثاً غير مسبوق في العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والأحزاب السياسية ولا سيما عقب الثورة.

وتعود قضية "إنستالينغو" إلى شركة تحمل التسمية نفسها مختصة في صناعة المحتوى الإعلامي، أُثيرت حولها تحقيقات في أيلول/سبتمبر 2021؛ شملت شخصيات سياسية، وأمنية، وصحافيين، وُجّهت إليهم تهم الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة، وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً، وارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الدولة، ومحاولة المسّ بسلامة التراب التونسي.

قبل المُحاكمات كانت تونس على موعد مع الدخول في حوار وطني من أجل وحدة الصف وتجاوز الخلافات السياسية، وقُدّمت مبادرة برلمانية من أجل ذلك على أن يكون إطلاق سراح معتقلي الرأي كبادرة حسن نيّة، وبدلاً من الحوار وإنهاء الخلافات وتوحيد الصف، تفجّرت الأحكام القضائية في ما يُعرف بقضية "إنستاليغو".  والتي تُعدّ بمثابة تصعيد خطير سيفضي لتأزّم الوضع السياسي وتوتير العلاقة ونسف أيّ فرصة للذهاب إلى حوار وطني حقيقي بين شركاء المشهد السياسي التونسي الذي شهد أزمة سياسية تراوح مكانها منذ سنوات.

التباس المشهد وتعقيدات تداعياته ودلالاته أنّ توقيت الأحكام جاء في بيئة سياسية تونسية داخلية في غاية التعقيد اقتصادياً واجتماعياً، وأما التوقيت فكان الجميع في انتظار الذهاب إلى الحوار بدلاً من التصعيد، وفي الحيثيات الصادمة أنّ الأحكام طالت شخصيات سياسية وازنة داخل المشهد كرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي حُكم عليه بالسجن 22 عاماً.

كما طالت الأحكام رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي 35 عاماً، في حين حُكم على الصحافية شذى الحاج مبارك بالسجن 5 سنوات، وحُكم على الصحافية شهرزاد عكاشة بالسجن لمدة 27 عاماً. 

يُذكر أنّ الأحكام شملت أكثر من 40 اسماً بين وزراء سابقين وأمنيين وصحافيين قد تجاوزت في مجموعها وفق هيئة الدفاع أكثر من الـ 760 سنة سجناً، وهي أحكام غير نهائية قابلة للطعن وفق القانون في غضون 10 أيام.

قبل التعرّض لفهم دلالات وتداعيات المحاكمات التي شهدتها تونس يتفجّر سؤال موضوعي يتعلّق بمسبّبات القوة التي مكّنت السلطة التنفيذية من تأميم السلطة القضائية لإصدار مثل تلك الأحكام، والتي يكاد الجميع أن يُجمع بأنها أحكام مُسيّسة.

الأحكام الصادرة في دلالاتها تعني أنّ المشهد السياسي التونسي مقبل على أزمة عميقة ومتدحرجة وأنّ التجاذبات ستتقدّم على حساب الحوار والوحدة، وتعني أيضاً أنّ المحاكمات جزء من أزمة سياسية دخلتها تونس منذ 25 تموز/يوليو 2021، عندما تغوّل الرئيس قيس سعيّد على التجربة الديمقراطية.

واستمرّت هذه الأزمة حتى مع الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس في تشرين الأول/أكتوبر 2024، والتي افتقدت للمشاركة السياسية وقرّر 70% من الناخبين مقاطعتها.

 ورغم ذلك فالملاحظ أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يُغيّر من خياراته وأدواته في التعامل مع الأزمة السياسية التي تعصف بتونس وبدا وكأنه غير مُبالٍ بكلّ ما تقوله الأحزاب والقوى السياسية التونسية سواء الموالية له أو المعارضة؛ وهذا يعني أنّ سيناريو التوافق بين القوى السياسية التونسية قد يحدث وتتوافق وتُجمع على مواجهة الرئيس. 

من دلالات المحاكمات أنّ القضاء التونسي الذي كان يُراهن على استقلاليته إلى حدّ ما بدا في قضية محكمات إنستالينغو تابعاً تبعيّة مطلقة للسلطة التنفيذية، وأنه بات أداتها لمواجهة خصومها السياسيين، وتداعيات ذلك خطيرة فهو يُخرج القضاء من الحيادية.

إنّ أعمدة المشهد التونسي الاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل أيّ رياح حتى تواجه العواصف، وقد رأينا كيف فجّرت حادثة بوعزيزي في سيدي بوزيد ثورة 2011 التي أطاحت بالجميع، وقضية المحاكمات قد لا تُفجّر المشهد مباشرة لكنّ الصواعق حاضرة.

إذ إنه على وقع المحاكمات شهدت تونس خلال أسبوع 4 محاولات انتحار حرقاً، لأشخاص من فئات عمرية ومحافظات مختلفة أضرموا النار في أجسامهم في واحد من أشكال الاحتجاج. والأهم والملفت أنه في اليوم التالي للمحاكمات شهدت سوسة محاولتي الانتحار حرقاً بعدما أقدم شاب عشرينيّ على سكب البنزين وأضرم النار في جسمه أمام مقرّ أمنيّ، وأشعل آخر جسمه بمادّة حارقة أمام أحد المستشفيات الحكومية. 

قد لا تكون هناك علاقة مباشرة بين المحاكمات ومحالات الانتحار لكن ماذا يمنع لو حدث توظيف سياسي لحوادث الانتحار، خاصة أنّ هناك سياقاً مشتركاً وهو أنّ مقرّ شركة إنستالينغو التي سمّيت بها المحكمات ومحاولتي الانتحار التي قيل بأنّ أحد الشبان قد توفّي بعد يومين كلّها حدثت في محافظة سوسة. وبالتالي فإنّ المتراكمات والأخطاء وعدم الالتفات للتداعيات كلّها أسباب قد تُفضي لتفجير المشهد.

المفارقة أنّ هناك إجماعاً للقوى السياسية التونسية ـــــ الخلاص والنهضة ـــــ على رفض المحكمات ووصفها بالمسيّسة ورفضها، ما يعني أنه يمكن القول بأنّ هذه المحكمات أفضت إلى ما يشبه وحدة الموقف بين القوى السياسية التونسية.

 وهذا أمر يُفترض أن يقلق الرئاسة، وهو أن تتوافق القوى السياسية في ما بينها على موقف أو قضية واحدة. وبالتالي فإمّا أن تتوافق القوى السياسية التونسية بالفعل وتواجه تغوّل السلطة التنفيذية وذراعها السلطة القضائية وتعيد تصويب وتصحيح المشهد السياسي في تونس بهدوء، وإمّا أن تنسحب تلك القوى من المشهد وتتفرّق وتُطلق اليد للسلطة التنفيذية لتكمل عملية التغوّل على مكوّنات المشهد السياسي التونسي كافة، ليعود المشهد إلى ما قبل الثورة ويتمظهر نظام سياسي شمولي لا يشارك أحداً إطلاقاً. 

المهم أننا الآن أمام نتيجة واحدة واضحة وهي أنّ المحاكمات في قضية إنستالينغو قد قطعت الطريق على أيّ حوار أو وحدة أو توافق أو اتفاق للخروج من عنق الزجاجة التي تمرّ بها الأزمة السياسية في تونس.

 وأنّ المعارضة تبدو أضعف من القدرة على المواجهة، وأنّ الاتحاد العامّ التونسي للشغل الذي كان يُعتبر رمانة الميزان في المشهد التونسي بات هو الآخر يعاني من الانقسام ويعيش أزمة تهدّد بقاءه وكيانه بسبب تصاعد الخلافات داخله. كلّ ما سلف من دلالات وتداعيات قد يأخذ المشهد التونسي نحو مسار الاحتكام للشارع.