نحن على حق

أليست معجزة أن يخرج علينا نائب الأمين العام ليقول إن المقاومة بدأت تعدّ العدّة لإعادة بناء الجنوب ليكون أجمل مما كان، وإعادة المهجرين؟ لقد أصبحت المقاومة أمة، والأمم لا تموت.

0:00
  •  المقاومة أوقفت قطار التطبيع.
    المقاومة أوقفت قطار التطبيع.

في خطاب لسماحة القائد الشهيد حسن نصر الله في محرم طرح السؤال: "ألسنا على حق... إذن، لا نبالي بالموت." هل يكفي أن نكون على حق لكي نسخر من الموت؟ وأي حق هذا في زمن اختلطت فيه الحقائق حتى تاهت بوصلة الكثيرين فلم يعودوا قادرين على تحديد العدو من الصديق. قال لي صديق روسي ذات مرة، أنتم محظوظون في نضالكم فرأس حربة المشروع الإمبريالي يقع على حدودكم، وليس أسهل من تحديد العدو من الصديق بالنسبة لكم. كان يقصد الكيان الصهيوني، لكننا غادرنا ذلك المكان وأصبح بعضنا يدافع أو يفاوض لدمج هذا الكيان في جغرافيتنا.

في الصراع الأزلي بين الحق والباطل، ينتصر الحق دائماً، فتستقيم الحياة حتى تأتي جولة جديدة للباطل ينبري لها جنود أشداء، يقدمون التضحيات، ويرفعون لواء التصميم ليتحقق النصر مرة بعد مرة. بغض النظر عن التعريف الذي نعتمده لمفهوم الحق، سواء كان دينياً، أو قومياً أو طبقياً، فإن امتلاك الوعي بضرورة خوض النضال ضد العدو يوحّد النضال، ويوجّه سهامه في الاتجاه الصحيح. هذه العلاقة الجدلية بين مفهومَي الحق والباطل ترتقي بوعي الشعوب وتدفعها نحو مصائرها، فنرى صعود أمم وزوال أخرى، وفي كل مرة تزول دولة الطغيان أمام قوى المقاومة الحقيقية والجذرية.

بهذا الفهم نحن ما زلنا محظوظين، كما قال صديقي الروسي. فها نحن نخوض المعركة ضد الهيمنة والاستعمار نيابة عن شعوب العالم، وعلى صخرة صمودنا تتحطم مشاريع النهب والاحتلال والتبعية. ليست حربنا اليوم كما يحاول البعض تصويرها وكأنها رد فعل على فعل مقاوم هنا أو هناك، فنحن في حالة مواجهة مع الأطماع الاستعمارية منذ أكثر من قرن. خسرنا جولات وكسبنا أخرى، لكننا كأمة لم نتوقف يوماً عن المقاومة. 

منذ عام 2000، تغيّرت شروط المواجهة، كانت المقاومة تكتفي بالتصدي للعدو ومخططاته، وكانت في معظم الأحيان، تنتهي بخسارة المعركة، ويتقدم العدو وحلفاؤه داخل جسد الأمة. بعد أيار 2000، بدأ العدو بالتراجع، فانسحب من لبنان، ثم عاد للانسحاب من غزّة عام 2005، ليتلقى هزيمته الأقسى في تموز 2006. بعد أن اطمأن العدو إلى الفوضى التي خلقها في المنطقة بعد ربيعه المشؤوم، شرع في محاولة جديدة لإعادة ترتيب المنطقة، جغرافياً وسياسياً، تحت عناوين مثل "صفقة القرن"، و"الناتو العربي"، و"السلام الإبراهيمي".

جاءت معارك "سيف القدس" أيار 2021، و"وحدة الساحات" آب 2022 كرد على تصاعد موجات التطبيع في المنطقة، وفي الوقت نفسه كجولات تحضيرية للمواجهة الكبرى مع العدو بهدف القضاء على هذه المشاريع نهائياً.

لم يكن الفعل المقاوم معزولاً عن التطورات في المنطقة، بل كان في صلبها، فهو من دون شك راقب من كثب تقدم العدو الأميركي في بناء قواعده في المنطقة، وفتح مكتباً إقليمياً لـ"الناتو" في العاصمة الأردنية، وأدرك أن هذه الخطوات إنما تهدف إلى ترسيخ المشروع الاستعماري وتأبيده على أرضنا.

لم تكن عملية "طوفان الأقصى" مصادفة أو مغامرة، كما يحلو لبعض المشككين تصويرها، بل كانت قراراً واعياً واستراتيجياً، هدف إلى زعزعة بنية كيان الاحتلال، وإظهار مدى هشاشته، وتأكيد حقيقة أن المقاومة قادرة على إحباط المشاريع الاستعمارية، وبالقوة إذا لزم الأمر. تأكد هذا التصور بفتح جبهات الإسناد بشكل مدروس واستراتيجي، بدءاً من جبهة جنوب لبنان، مروراً بالعراق واليمن. يستطيع المراقب البسيط ملاحظة أن هذه الجبهات عملت بتناسق ودقة لا يتوافقان مع فكرة المصادفة أو المغامرة. لعل القرار كان بيد المقاومة في غزّة، كما أشار سماحة القائد الشهيد أكثر من مرة، لكن كل ما جرى بعد ذلك يشير إلى أن المخطط كان موضوعاً ومدروساً بكل احتمالاته، بما في ذلك استشهاد قادة كبار في المقاومة.

رغم الخسائر المؤلمة، فإن المقاومة أوقفت قطار التطبيع، و"الناتو" العربي وفرضت على دوله الإعلان صراحة عن عدم السماح باستعمال مجالها الجوي لضرب إيران، واستعاد جيل من الشباب العربي بوصلته الدقيقة في تحديد العدو، بل وفتحت عيون شعوب العالم على حقيقة الصراع الذي يدور في منطقتنا والمرتبط صميمياً بقيام الاستعمار بإنشاء الكيان الصهيوني على أرضنا. لقد أصبح الحديث عن 76 عاماً من الصراع أمراً شائعاً في أوساط المثقفين في الغرب. 

أنتمي إلى جيل من جمهور المقاومة لن يتمكن يوماً من تجاوز لحظة غياب قادة المقاومة، وفي مقدمتهم سماحة القائد الشهيد حسن نصر الله، لكن ما حدث ويحدث على الأرض يعمّق إيماننا بالمقاومة التي تسطر على الأرض ملاحم لم يعرفها تاريخنا الحديث. فلا يكاد يمر يوم من دون أن تصنع المقاومة معجزة من معجزاتها، أليست معجزة أن يخرج علينا نائب الأمين العام ليقول إن المقاومة بدأت تعدّ العدّة لإعادة بناء الجنوب ليكون أجمل مما كان، وإعادة المهجرين؟ لقد أصبحت المقاومة أمة، والأمم لا تموت، وهذا الطريق سنكمله حتى النصر، لأنه طريق الحق، "حتى لو قتلنا جميعاً ولو استشهدنا جميعاً".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.