من يُعيد الثور الإسرائيلي الهائج إلى الحظيرة؟
الأوضاع الداخلية لدول وجماعات محور المقاومة لا تسمح بشن هجوم استباقي على الكيان الصهيوني، وهذا أمر يمكن استيعابه وتفهّمه، إلا أن من الأهمية بمكان وضع كل المقدرات والإمكانيات في أقصى درجات الاستعداد تحسّباً لأي طارئ.
-
تحوّل الكيان العبري إلى ما يشبه "الثور الهائج" المنفلت من عقاله.
منذ أكثر من عامين، أي بعد انطلاق معركة طوفان الأقصى المجيدة، والتي أساءت فيها المقاومة الفلسطينية وجه "الدولة" المارقة المسمّاة إسرائيل، ووجهت إليها ضربة قاتلة وغير مسبوقة، جعلها تستنجد بكل قوى الشر في العالم، بعدما كادت تسقط أرضاً نتيجة ما حلّ بها من هزيمة فادحة، منذ ذلك الحين، ونتيجة العديد من المتغيّرات التي كان في مقدّمتها التدخّل الأميركي المباشر في الصراع، إضافة إلى حالة الخذلان التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني المُحاصر والمنكوب.
تحوّل الكيان العبري إلى ما يشبه "الثور الهائج" المنفلت من عقاله، وأخذ يضرب في كل الاتجاهات، غير عابئ بالتكاليف الهائلة التي يدفعها، وعلى كل المستويات، ولا بالتداعيات الناتجة من ذلك الانفلات الصاخب، الذي وعلى الرغم من عديد المحاولات الإقليمية والدولية الخجولة والمحتشمة لكبح جماحه والتقليل من مخاطره، إلا إنه ما زال يتواصل حتى وقتنا الحالي، باحثاً عن تحقيق إنجاز حاسم بحث عنه مطوّلاً لاستعادة قدرة ردعه التي سقطت تحت أقدام أبطال المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن، وكشفت زيفها الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي ضربت عمق الكيان في عمليتي الوعد الصادق النوعيّتين.
يمكن ملاحظة انفلات الثور الإسرائيلي بوضوح حتى بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة قبل أكثر من خمسين يوماً، إذ يتواصل العدوان بكل صوره وأشكاله، سواء من خلال رفض الاحتلال الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق وسحب قواته إلى "المنطقة الحمراء" بحجة عدم تسليم المقاومة آخر جثّتين بقيت بحوزتها، إلى جانب خروقاته التي لا تنتهي، والتي أسفرت منذ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي عن ارتقاء أكثر من 200 شهيد، إلى جانب تدمير مئات المنازل الواقعة في المنطقة الصفراء وخارجها، والتي قدّرتها بعض المصادر، ومنها شبكة بي بي سي البريطانية، بما يزيد على ألف وخمسمئة منزل، إضافة إلى تقييد وصول المساعدات الإنسانية والطبية بكل أنواعها.
تواصل العدوان على غزة انسحب أيضاً على الضفة الغربية المحتلة، والتي وعلى الرغم من إعلان الاحتلال البدء في عملية عسكرية ضد المحافظات الشمالية منها، إلا أن حقيقة الأمر تكشف أن هذا العدوان على تلك المحافظات وغيرها لم يتوقف منذ أكثر من 300 يوم، إذ أدّى في جنين وحدها إلى تدمير أكثر من 700 منزل ومنشأة، وإلى تهجير نحو 4000 من سكّانها، بحسب تقديرات اللجنة الإعلامية لمخيم جنين.
كما يمكن ملاحظة انفلات وهياج الثور الإسرائيلي أيضاً في لبنان، والذي وبالرغم من وقف القتال المباشر فيه منذ أكثر من عام، إلا أن العدوان الصهيوني عليه لم يتوقّف، بل وبات صمود هذا الاتفاق مهدداً بشدّة بعد توالي عمليات الاغتيال ضد كوادر المقاومة هناك، والتي كان آخرها اغتيال القائد الكبير الحاج هيثم الطبطبائي في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، في أكثر الخروقات الإسرائيلية وضوحاً، وفي تصعيد شديد الخطورة عدّه البعض بمنزلة التحضير لاستئناف العدوان من جديد، بذريعة رفض حزب الله تسليم سلاحه للدولة اللبنانية.
الانفلات الإسرائيلي المدفوع بالكثير من الأسباب المباشرة وغير المباشرة، والتي يقف على رأسها طموح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو المدعوم من ائتلاف ديني يميني متطرّف، والذي يسعى، إلى جانب رغبته في الإفلات من العقاب نتيجة قضايا الفساد المنظورة ضده في المحاكم الصهيونية، لتخليد اسمه في قائمة أعظم قادة "إسرائيل" تحقيقاً للإنجازات، إلى جانب ما أشرنا إليه أعلاه من محاولة الكيان العبري استعادة قدرة الردع المفقودة التي كانت على الدوام من أهم المبادئ التي قامت عليها "الدولة" العبرية منذ تأسيسها قبل نحو سبعة وسبعين عاماً، وصل إلى مناطق بعيدة عن غزة ولبنان، حيث الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ غدت التهديدات المتعلّقة بعودة الحرب على إيران جزءاً لا يتجزأ من ديباجة التصريحات الإسرائيلية اليومية التي يرافقها الكثير من الاستعدادات اللوجستية في بعض الساحات القريبة من الأراضي الإيرانية، كما يشير الكثير من وسائل الإعلام الصهيونية والأميركية، إلى جانب الإجراءات الأوروبية والأميركية بفرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية، تحت الحجج والذرائع نفسها المتعلّقة بالبرنامج النووي الإيراني، الذي تحاول قوى محور الشر القضاء عليه بالطرق الديبلوماسية والضغط الاقتصادي، بعد فشل الحليفين الإسرائيلي والأميركي في أداء المهمة بالطرق العسكرية أثناء حرب الاثني عشر يوماً.
ساحات أخرى مثل اليمن والعراق يطولها انفلات الثور الإسرائيلي، وإن بصورة أقل وضوحاً في هذه المرحلة على أقل تقدير، ولكنها مرشّحة بقوة لمواجهة تداعيات انفلاته في مراحل لاحقة، وخصوصاً في حال اندلعت مواجهة جديدة في المنطقة، كما يعتقد الكثير من المحللين والمتابعين.
على كل حال، وأمام هذا الانفلات الإسرائيلي الفاضح الذي خلّف، وما زال، نتائج وتداعيات يدفع ثمنها في الأساس سكّان قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة بشكل خاص، إلى جانب الشعب اللبناني العزيز ومقاومته الباسلة التي أعلنت موقفها الواضح والصريح برفض الانصياع للإملاءات الصهيونية والأميركية، وباستعدادها لدفع كل الأثمان اللازمة لرد العدوان، وإفشال كل مخططاته ومؤامراته، كما هو حال المقاومة في فلسطين تماماً، فقد بات من الواجب على أطراف محور المقاومة بكل تشكيلاتها وتموضعاتها الجغرافية إيجاد وسائل وابتكار أدوات للجم هذا الانفلات، والإمساك برسن هذا الثور الهائج وإعادته إلى الحظيرة، إذ إن إبقاء الحال على ما هو عليه سيشكّل خطراً على الجميع في المنطقة، حتى على تلك الدول التي تعتبر نفسها بعيدة عن تداعيات هذا الانفلات، وفي المقدّمة منها مصر والسعودية وتركيا، وسيفتح شهيّة هذا الثور للانطلاق إلى ساحات أخرى، بعيدة كانت أم قريبة، والعبث فيها ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، مدفوعاً بموقف الثور الأكبر في واشنطن، والذي يهيئ له كل الأسباب، ويوفر له كل الأداوت ليعيث فساداً وخراباً دون مساءلة أو محاسبة.
مطلوب من دول وجماعات محور المقاومة، والتي تملك رؤية واضحة لحقيقة الأوضاع في المنطقة، عبّر عنها قبل أيام المرشد الإيراني على خامنئي، وأكّدها الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وأشارت إليها فصائل المقاومة في فلسطين أكثر من مرة، أن تتّخذ كل الخطوات والإجراءات التي من شأنها وأد المخططات الصهيونية والأميركية في مهدها، وقبل أن تنتقل إلى مرحلة التنفيذ على الأرض، إذ إن التجربة الماضية التي عايشناها، وخصوصاً أثناء العدوان على لبنان وإيران، كشفت حجم تلك المخطّطات والمؤامرات، وما خُصّص لها من إمكانيات، وما وُضع لها من أهداف، وهذا ما يدعو الجميع في هذه الأوقات بشكل خاص إلى اتخاذ أعلى درجات الحيطة والحذر، ورفع مستوى الجاهزية للتعامل مع أي طارئ، وعدم الوقوع فريسة لما يتم تسريبه من أخبار عن خلافات داخلية بين وزير الحرب الصهيوني ورئيس أركانه، أو عن نقص حاد في القوى البشرية في "جيش" الاحتلال، إذ تم استخدام هذه الفقاعات سابقاً للتغطية على العديد من العمليات الكبيرة التي جرت في الكثير من الساحات.
صحيح أن الأوضاع الداخلية لدول وجماعات محور المقاومة والمزاجات والتوازنات الدولية والإقليمية لا تسمح بشن هجوم استباقي على الكيان الصهيوني، وهذا أمر يمكن استيعابه وتفهّمه، إلا أن من الأهمية بمكان وضع كل المقدرات والإمكانيات البشرية والعسكرية في أقصى درجات الاستعداد تحسّباً لأي طارئ، ولا سيّما تعزيز القدرات الاستخبارية المضادة التي نجح العدو في فترات سابقة بالاستفادة من كثير من أوجه القصور فيها لتحقيق بعض المكاسب المهمّة، وخصوصاً على صعيد اغتيال القيادات الكبيرة والوازنة في لبنان وإيران واليمن وغزة.