من ميرون إلى الردّ الإيراني... القلق من النمط!

المقاومة وأصدقاؤها وداعموها ما كانوا لينهوا حرب تموز 2006 من دون كسر التفوّق البري. وإذا ما أخذنا هذا المعيار، مضافاً إليه دخول إيران إلى المواجهة بظروف محددة، فإنّ مسألة انتهاء هذا التفوّق الجوي باتت مسألة وقت.

  •  كيف نكسر التفوّق الجوي الإسرائيلي؟
     كيف نكسر التفوّق الجوي الإسرائيلي؟

يمكن الحديث كثيراً عن الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في العاصمة السورية، فالأيام كفيلة أن يقول الاحتلال وربما الإعلام الغربي ما أنكره وما زال ينكره البعض.

في غضون ذلك يبدو أنّ محور المقاومة يحترف أكثر فأكثر إبراز "نمط عمل خاص" مع كيان الاحتلال، وشيئاً فشيئاً يتحوّل هذا النمط إلى فزّاعة فعلية وعملية للاحتلال، وإذا ما قفزنا عن تشريح طبقات هذا "النمط" فسنجده حاضراً من طلقة قنّاص تصيب وسائط تجسس في موقع على الحدود اللبنانية، وصولاً إلى استهداف طهران لقاعدة رامون جنوب الكيان، وضع بينهما ما شئت من الشواهد والأمثلة على الجبهة اللبنانية وغيرها.

القضية يخرج القياس فيها عن "محدودية الأثر" أو "سعة الأثر" في العمل، بل في إرادة العمل وقوة العمل ومعهما هامش لا بأس به من الغموض والرسائل المتروكة للمقبل من الأيام، فيصبح العمل التكتيكي بناتج استراتيجي.

ولكن كيف يمكن الحكم بنجاح النمط طالما أننا لم نسمع عن عشرات القتلى في "جيش" الاحتلال؟ ولم يرشح ما يفيد دماراً شاملاً أصاب مرافقه أو قدرات "جيشه"؟

لفهم ذلك لا بدّ من قراءة مختلفة ننطلق فيها من السقف الذي قرّرت المقاومة ومحورها العمل من خلاله، وهو سقف تتشكّل تحته الردود على تجاوزات الاحتلال حتى لو أوقفت هذه الردود المنطقة على حافة هاوية يقتنع الجميع معها بضرورة "اللا توسيع ولا اتساع" للنار.

بهذا اللحاظ لا يمكن تخطّي أوجه الشبه بين استهداف حزب الله لقاعدة ميرون المختصة في المراقبة الجوية في شمال الكيان (6/1/2024)، وبين استهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية لقاعدة رامون المختصة في المراقبة الجوية في جنوب الكيان ومعها قاعدة نيفاتيم الجوية (ليل 13-14/4/2024)، ولا يمكن أيضاً إغفال حجم الإنجاز المتكامل والمترابط رغم فارق الجهد العسكري بين الردّين، وهذا سنوضحه عند الحديث عن الناتج العام للعمل.

نمط العمل الذي نحاول تفصيله هنا قائم على تشريح الجرم الإسرائيلي مع محاولة فهم أسباب الجرم، وبعد التشريح ووضع المعطيات على الطاولة تأتي الخطوات العملية.

وهنا يمكن أن نفصّل الآتي:

- الردّان جاءا على خلفية اغتيال جوي، الأول في الضاحية الجنوبية عندما استهدف الشيخ صالح العاروري ورفاقه (2/1/ 2024)، والثاني أيضاً اغتيال جويّ للجنرال زاهدي ورفاقه في (1/4/2024).

- أهمية مكان الاغتيال، فالقنصلية هي أرض الدولة ولا فرق في ذلك بين استهداف العاصمة أو المبنى، كذلك في الضاحية الجنوبية فهي فعلياً عاصمة حزب الله ومركز ثقله وقلب مقاومته.

- تكثيف الضغوط، بعد الاغتيال سواء في بيروت أو في دمشق، تحرّكت ما تسمّى بـ "الدبلوماسية الإسرائيلية" بموازاة الاستهداف من أجل إيصال رسائل تحذيرية وتهويلية بأن أي رد سيكون مفتاحاً لاتساع الحرب، حصل ذلك من خلال وسطاء، حصل ذلك مع حزب الله وكان على مستوى أعلى مع طهران. في المقابل كانت الإجابات واضحة ونهائية بأنّ الردود قائمة حتى لو لم يتحمّلها الاحتلال وأدى ذلك إلى اشتعال المنطقة.

- رسم سقف الردّ، وقد لخّصته عبارة المرشد الإيراني السيد خامنئي، الصفعة، وهذا أيضاً ما رسم في الضاحية بعد اغتيال الشيخ صالح، وبالتالي هنا تصبح الأمور أكثر وضوحاً لدى الميدان ومعها يمكن له المضيّ بخطوات عملية.

أما سبب تكريس كلمة "الصفعة" فهو لأن أصل عمل محور المقاومة قائم على الإسناد والتضامن وتخفيف الضغوط، ومعها تفويت الفرصة على الاحتلال بجرّ الجميع إلى سيناريوهات تتناسب مع طريقة إدارة رئيس حكومة الكيان للمشهد السياسي والميداني، وهي طريقة باتت فاقدة لسياقات منطقية ولعل هذا ما دفع الأمين العام لحزب الله في أكثر من مناسبة للقول بأن نتنياهو "يرتكب الحماقات".

تشريح الجرم الإسرائيلي

تعلم المقاومة ومحورها حقيقة القدرات الإسرائيلية، وهي تختبرها منذ سنوات، وفي مواجهة طوفان الأقصى تختبرها كل يوم وكل ساعة، وكناتج قطعي فإن الجو هو نقطة التفوّق الكبرى لحساب الاحتلال على حساب المقاومة.

الحال في البرّ متكافئ وكذلك في البحر رغم عدم دخول هذه المواجهة حيّز التفعيل حتى اللحظة (تجربة تموز 2006 ما زالت ماثلة)، التكافؤ الاستخباري موجود وحاضر على امتداد جبهة كبيرة وهذا يبرز يومياً في حجم الاستهدافات ولا سيما للنقاط المستحدثة وبعمق متفاوت، وأيضاً لا يمكن إغفال الجرأة باستهداف بطاريات الدفاع الصاروخي والقبة الحديدية، ومع تبلور شكل هذه الجبهة يمكن القول إن تحدي الجز بقي أساسياً لدى المقاومة، وطبعاً لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذا أصلاً قائم حتى قبل الاغتيال، وهو أمر استلزم نقاشات كبيرة وعميقة لسنوات، إذ إن برامج بناء القدرة ولا سيما بعد تموز 2006 حضر فيها سؤال كبير: 

 كيف نكسر التفوّق الجوي الإسرائيلي؟

بعد عمليات الاغتيال في بيروت ودمشق تم تشريح طبيعة الجرم في المناسبتين حيث تطابقت الخلاصات ببعض جوانبها على الشكل الآتي:

- الاحتلال يستثمر بالدرجة القصوى في تفوّقه الجوي متى أراد تنفيذ أعمال مؤذية من هذا النوع.

 - العمل الجوي هو عمل مركّب، الغارة وإطلاق الصاروخ هو خطوة متأخرة يسبقها عمل معقّد يتمّ في قواعد القيادة والتحكّم الجوية، وطبعاً من خلال المطارات والمدرجات.

- القواعد الجوية واضحة ومحددة ومحدودة في الكيان وهي مشخّصة ومقسّمة بين منطقة الشمال (قاعدة ميرون صاحبة الدور الرئيسي في عملية اغتيال الشيخ العاروري)، ومنطقة الوسط والجنوب (قاعدة رامون صاحبة الدور الرئيسي في عملية اغتيال الجنرال زاهدي في دمشق).

-  صحيح أنه لا يمكن إنكار هذا التفوّق، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن العمل بوجهه، وإذا كان سقف الردّ هو "الصفعة" أو البقاء تحت ظل "الإسناد والتضامن" فإن هذه الصفعة لا بد أن تكون بوجه ما يتفوّق به الاحتلال، وليس بوجه ما تتكافأ فيه المقاومة معه ميدانياً.

- هذه القواعد فيها مميزات ويحيط بها عدد من الدفاعات الصاروخية وغيرها، وعليه يجب تحضير حلول مناسبة لتحقيق الهدف.

- الصفعة على وجه التفوّق الجوي لا يشترط فيها إسقاط طائرة بل تحتاج إلى حلول إبداعية قد تكون أقل حدّة بالشكل ولكنها أكثر إيلاماً بالناتج. 

إذ قد يكون مشهد إسقاط طائرة حربية قاسياً جداً على الاحتلال على فرض وجود قدرة تفعل ذلك وقد لا يعطّل العمل الجوي، بينما استهداف قواعد التحكّم قد يكون أقل حدة ويصيب أكثر من عصفور برمية واحدة.

بعد ما تقدّم إضافة إلى عوامل لسنا بصدد تفصيلها تقرّر شكل عمليات الردّ على ميرون الأولى، وكذلك على رامون ونفاتيم وغيرها من النقاط التي طالها الردّ الإيراني.

الجمع المعلوماتي الدقيق، حيث برز حجم معرفة المقاومة ومحورها بالنقاط والمواقع العسكرية الإسرائيلية وتفاصيلها وأدوارها ومهامها وحتى أقسامها وغيرها.

- الإشغال والإغراق، وبهما تمّ تخطّي الدفاعات في ميرون من خلال إشغال الدفاعات بصواريخ غراد وكاتيوشا واستهدافها بصواريخ موجّهة (كورنت أي أم)، أما في عملية الوعد الصادق الإيرانية فكانت عملية إغراق تاريخية من خلال مسيّرات تخطّت دولاً نصبت فيها دفاعات صاروخية وبعدها كلّ الدفاعات في كيان الاحتلال، وكان الهدف أن تسقطها الدفاعات لتصل الصواريخ، وقد وصلت وأصابت أهدافاً (نشر الإعلام الإسرائيلي مشاهد لها رغم كلّ الرقابة المفروضة).

-  الجرعة المناسبة، إذ كان يمكن إطلاق أضعاف من الصواريخ الموجّهة في ميرون، وكان يمكن للردّ الإيراني إطلاق أضعاف من المقذوفات، لكن ذلك لا يقع تحت عنوان الصفعة بل ينتقل إلى عناوين أخرى لم يأت وقتها بعد.

- الناتج السريع، الحركة الجوية بعد استهداف ميرون أصيبت بخلل فوق الجغرافيا اللبنانية وتوقّف التحليق لساعات، وكذلك بعد الردّ الإيراني كما أفاد الإعلام وأفادت شهادات أهل غزة الصامدين.

- دخلت ميرون كهدف روتيني في جبهة جنوب لبنان وأصبحت ضمن معادلات الردّ، وبحسب مصادر الميادين فإننا قد نشهد يوماً تاريخياً تنتهي فيه هذه القاعدة بكل وظائفها، فهل كسر الرد الإيراني الحرم عن قاعدة رامون ومعها نفاتيم؟

هذا التشريح يعكس بما لا يقبل الشك بدء تصدّع التفوّق الجوي الإسرائيلي، تكفي قراءة تعليقات إسرائيلية حول هذا الموضوع، فالمقاومة ومحورها وضعت قدماً عملية في طريق إنهاء هذا التفوّق، طبعاً لا تقول إنه قصير أو سهل، ولكنها وإن أبقت كل أعمالها بما فيها إسقاط مسيّرات هيرمز (450، 900) تحت سقف طبيعة وخصائص الجبهة، إلا أن هذا المسار بدأ، لا يمكن التكهّن كيف يمضي ولا كيف وأين ومتى ينتهي؟ 

ولكن ما يمكن الجزم به هو أنّ المقاومة وأصدقاءها وداعميها ما كانوا لينهوا حرب تموز 2006 من دون كسر التفوّق البري، وإذا ما أخذنا هذا المعيار مضافاً إليه دخول الجمهورية الإسلامية إلى المواجهة بظروف محددة، فإنّ مسألة انتهاء هذا التفوّق الجوي باتت مسألة وقت، ومسألة الوقت هذه ستزيد من مخاوف الكيان لأنها ستكشف أكثر عن فصول "نمط العمل" الذي بدأ في ميرون ووصل إلى الرد الإيراني ولا أحد يعلم ماذا بعد!

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.