من شرق آسيا إلى البحر الأحمر ... ماذا يحدث بين واشنطن وبكين؟
ما يفسّر التصعيد الأميركي في مواجهة الصين هو قلق الولايات المتحدة من تراجع قدراته الاقتصادية ما يجعلها غير قادرة على تصدّر الصين للساحة الدولية على الصعيد الاقتصادي.
-
ما يفسّر التصعيد الأميركي في مواجهة الصين هو قلق واشنطن من تراجع قدراتها الاقتصادية.
في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لفرض أمر واقع في منطقة الشرق الأوسط يضمن هيمنتها على هذه المنطقة، وفي الوقت الذي تسعى فيه واشنطن إلى ربط العلاقة مع روسيا، فإنّ التوتر يبدو في طور التصاعد مع الصين، في ما يأتي في سياق استراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتركيز جهوده على مواجهة الصين، علماً أنه قد أعلن صراحة أنّ بكين هي التي تشكّل التحدّي الأبرز في مواجهة هيمنة واشنطن على العالم.
التوتر في شرق آسيا
ويبدو أنّ الأمور لن تقتصر على الحرب التجارية التي أطلقها ترامب ضد الصين، بل إنّ سلسلة من التطورات تفيد بأنّ المواجهة قد تنتقل الى مستويات مختلفة. ففي هذا الإطار رفع وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث من درجة التوتر مع الصين عبر إعلانه أنّ "الصين تستعدّ جدّياً لاستخدام القوة لتغيير ميزان القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ".
كلام هيغسيث جاء في كلمته السبت الواقع فيه 31 أيار/مايو في منتدى "حوار شانغريلا" الأمني الذي عقد في سنغافورة، حيث أكد أنّ هنالك تهديداً صينياً حقيقياً وقريباً في شرق آسيا، معتبراً أنّ بكين تسعى لفرض هيمنتها على آسيا" وتواصل تعزيز قدراتها العسكرية، استعداداً لغزو محتمل لتايوان".
وقد اتخذ من هذا الزعم عاملاً لتبرير تعزيز واشنطن لتعاونها العسكري مع حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا وعلى رأسهم الفليبين واليابان والهند "لردع أيّ عدوان صيني" على حدّ تعبير الوزير الأميركي. ودعا هيغسيث، دول آسيا إلى "زيادة الإنفاق الدفاعي"، مقارناً ذلك بـ"التقدّم"، الذي أحرزه حلف الناتو في أوروبا في هذا الإطار عبر زيادة الدول الأوروبية لميزنياتها الدفاعية، معتبراً أنّ "الردع يتطلّب جهداً واستعداداً مستمرّين".
وقد ندّد ناطق باسم وزارة الخارجية الصينية بتصريحات هيغسيث معتبراً أنها تصريحات استفزازية ومبنية على عقلية الحرب الباردة. ورأى الناطق باسم الخارجية الصينية أنّ "وزير الدفاع الأميركي تجاهل دعوات دول المنطقة للسلام والتنمية، وبدلاً من ذلك روّج للمواجهة وشوّه صورة الصين باتهامات باطلة"، مشيراً إلى أنّ "الصين احتجّت رسمياً لدى أميركا على هذه التصريحات".
وأكّد الناطق أنّ الولايات المتحدة وليس الصين هي من تزعزع الاستقرار في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ عبر خلق التوترات ودفع سباق التسلّح في المنطقة بغية فرض هيمنتها الاستراتيجية عليها.
وشدّد على أنّ قضية تايوان تعتبر شأناً داخلياً صينياً وليس من حقّ الولايات المتحدة التدخّل فيها لاستخدامها كورقة ضغط ضدّ بكين. وختم الناطق الصيني بمطالبة واشنطن بوقف تدخّلاتها في بحر الصين الجنوبي متهماً إياها بالسعي لتوتير العلاقات بين بكين وجاراتها ومؤكداً أنّ الصين تسعى لحلّ الخلافات عبر الحوار.
واشنطن تستغلّ الهند ضدّ الصين
بموازاة توتير الأوضاع في شرق آسيا، فإنّ أصابع واشنطن تبدو جلية في تشجيع الهند على اعتماد سياسات عدائية تجاه الصين وحلفائها في محاولة لعرقلة جهود بكين في دفع مبادرة حزام وطريق قدماً ومنعها من الوصول إلى المحيط الهندي. وفي هذا الإطار لا يمكن فصل ما جرى قبل أسابيع قليلة من مواجهة بين الهند وباكستان عن استراتيجية واشنطن القاضية بمنع الصين من مدّ خط تجارة بري ينطلق من منطقة جينجيانغ في شمال غرب البلاد عبر الجزء الباكستاني من إقليم كشمير باتجاه ميناء غوادر الباكستاني على المحيط الهندي.
في هذا الإطار، فإنّ الولايات المتحدة استغلّت العداء الذي يكنّه رئيس الوزراء الهندي نوندرا مودي للإسلام والمسلمين ورغبته في خلق حالة توتر مع باكستان تلهي الجمهور الهندي عن الأزمات الاقتصادية التي قادت حكومة بهاراتيا جاناتا البلاد إليها بسياساتها النيوليبرالية.
إلّا أنّ الأمر ارتدّ سلباً على مودي، إذ إنّ باكستان المزوّدة بأحدث التقنيات الصينية، تمكّنت من إسقاط عدد كبير من المقاتلات الهندية مما أجبر مودي على القبول باتفاق لوقف التصعيد مع باكستان.
وقد شكّلت المواجهة الهندية الباكستانية فرصة لإثبات جدارة التكنولوجيا الصينية في مواجهة التكنولوجيا الغربية. كذلك فإنّ هذه المواجهة دفعت باكستان الى تفعيل تحالفها مع بنغلاديش التي تنشط فيها جماعات إسلامية مدعومة من تركيا تطالب بضمّ أقاليم من شرق الهند ذات غالبية إسلامية.
وقد استفادت بكين من الأمر لمدّ جسور علاقات وثيقة مع دكا، علماً أنّ المعلومات تفيد بأنّ الصين تقوم بتأهيل قواعد عسكرية في هذا البلد، ما يجعل الهند بين فكّي كماشة، باكستان من الغرب، وبنغلاديش من الشرق.
الشرق الأوسط
ويبدو أنّ المواجهة امتدّت الى الشرق الأوسط ولو بالوكالة، حيث ظهرت تقارير أميركية تفيد بأنّ الحكومة اليمنية بقيادة جماعة أنصار الله الحوثيين استفادت من خدمات شركة صينية للتزوّد بصور أقمار صناعية مخصصة لرصد الأرض لتنفيذ هجمات ضد السفن الأميركية والإسرائيلية في البحر الأحمر.
واسم الشركة الصينية هو تشنغ قوانغ وقد تأسست في العام 2014، وهي إحدى شركات الفضاء الخاصة الرائدة في الصين. وهي تشغل أكثر من 140 قمراً صناعياً صغيراً لرصد الأرض بدقة متوسطة وعالية، مما يجعلها واحدة من أكبر مجموعات أقمار تصوير الأرض حول العالم.
والشركة هي شركة خاصة إلّا أنّ أسهمها مملوكة من قبل الحكومة الصينية وتحديداً حكومة مقاطعة جيلين في شمال شرق البلاد بالقرب من الحدود مع كوريا الشمالية، ومعهد تشانغتشون للبصريات والميكانيكا الدقيقة والفيزياء، التابع للأكاديمية الصينية للعلوم والمرتبط ارتباطاً مباشراً بالحكومة الصينية.
وقد تعالت أصوات المسؤولين الأميركيين ضدّ الصين بنتيجة ما اعتبروه عملاً عدائياً صينياً ضدّ الولايات المتحدة مباشرة. فالشركة التي سبق وقدّمت قمرين صناعيين لمجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة لاستخدامها في عملياتها العسكرية في أوكرانيا وأفريقيا، وجدت شريكاً جديداً تمثّل بجماعة أنصار الله التي تحدّت القوات الأميركية مباشرة.
وبالنسبة للأميركيين فإنّ هذا يجعلهم ليس فقط في مواجهة أنصار الله وإيران التي يتهمونها بدعمهم، لكن أيضاً في مواجهة الصين في منطة البحر الأحمر، ما يهدّد المخطّطات الأميركية في بسط هيمنة واشنطن المطلقة على الشرق الأوسط.
القلق من التفوّق الاقتصادي الصيني
ما يفسّر التصعيد الأميركي في مواجهة الصين هو قلق الولايات المتحدة من تراجع قدراتها الاقتصادية ما يجعلها غير قادرة على إيقاف تصدّر الصين للساحة الدولية على الصعيد الاقتصادي.
وفي هذا الإطار، أطلق جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان تشيس، تحذيراً لحثّ الولايات المتحدة على مواجهة التحدّيات الداخلية حتى تتمكّن من مواجهة الصين على الساحة الدولية.
تحذير ديمون جاء خلال منتدى ريغان الاقتصادي الوطني في سيمي فالي في كاليفورنيا إذ قال إنّ "الصين هي عدوٌّ محتمل - فهم يُحسنون صنعاً في كثير من الأمور، ويواجهون مشكلات كثيرة إلّا أنّ ما يقلقني حقاً هو أنفسنا. هل يمكننا أن نُنظّم أمورنا - قيمنا، قدراتنا، إدارتنا الخاصة؟".
وقد أتت تعليقات ديمون في الوقت الذي أدّت فيه التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب إلى تقليص حادّ في التجارة بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم.
وقد شهدت سياسة ترامب التجارية تذبذباً حاداً في مستويات التعريفات الجمركية، كما تأثّرت بقرارات المحاكم، مما زاد من حالة عدم اليقين في علاقة متوترة تؤثّر على اقتصادات العالم. وحذّر ديمون أيضاً من أنّ المواجهة مع الصين - التي تصاعدت يوم الجمعة بعد أن زعم ترامب أنّ بكين "انتهكت تماماً" أحدث اتفاقية تجارية لها - لن تتراجع.
وحذّر من ترهّل البنى التحتية والبنى الاقتصادية والإنتاجية الأميركية في مواجهة الصين التي يبدو أنها غير خائفة من مواجهة مع الولايات المتحدة.
وقال ديمون إنّ على الأميركيين النظر إلى الأمور بعين مختلفة خصوصاً أنّ الولايات المتحدة تعاني من مشكلة "سوء الإدارة". ودعا إلى إصلاح أنظمة التصاريح واللوائح والهجرة والضرائب والمدارس في الأحياء الفقيرة ونظام الرعاية الصحية حتى يتمكّن الاقتصاد الأميركي من تحقيق نسبة النمو المقدّرة بـ 3 بالمئة واللازمة له للبقاء في دائرة المنافسة مع الصين.
والجدير ذكره أنّ مؤشّرات الاقتصاد الأميركي لا تبدو واعدة، إذ بلغ عجز ميزانية الحكومة الأميركية نحو تريليوني دولار في عام 2024، أي ما يعادل 7% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتقرير صادر عن مكتب الميزانية بالكونغرس في حزيران/يونيو 2024. وإذا دخلت الولايات المتحدة في حالة ركود، فإنّ نسبة الـ 7% هذه ستُصبح 10%".