ما بين تنصّل الاحتلال وإصرار المقاومة.. أي مستقبل لهدنة غزة!
حالة من الضبابية ستبقى تسيطر على المشهد في ما يخص تطوّر الأوضاع في قطاع غزة، وهو الأمر الذي سينسحب على ساحات أخرى في الإقليم، وستبقى كل الاحتمالات مفتوحة.
-
إمكانية تراجع المقاومة الفلسطينية سيبقى أمراً مستبعداً إلى أبعد الحدود.
لسنا بحاجة إلى استعراض الكثير من الشواهد للتدليل على محاولات الاحتلال المستمرة للتنصّل من التزاماته التي تعهّد بها ضمن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، إذ إن كل ما جرى خلال الاثنين والأربعين يوماً المنصرمة، وهي مدة المرحلة الأولى من الاتفاق، يشير من دون أدنى شك إلى رغبة حكومة الاحتلال برئاسة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وباقي أطراف ائتلافه اليميني المتطرّف، في تحقيق ما فشلوا فيه خلال خمسة عشر شهراً من العدوان، لا سيّما استعادة الأسرى الصهاينة لدى المقاومة من دون أن يدفعوا الثمن المطلوب مقابل ذلك.
وهذا الثمن الذي نص عليه الاتفاق بصورة لا تقبل التأويل، ومن خلال مصطلحات واضحة وغير ملتبسة يتعلّق أساساً بالإفراج عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين من بينهم العشرات من أسرى المؤبدات، بالإضافة إلى تنفيذ البروتوكول الإنساني بشكل عاجل، إلى جانب البدء في مفاوضات المرحلة الثانية، التي ستكون مقدّمة لإعلان وقف الحرب والانسحاب من أراضي القطاع بشكل كامل، وبداية عمليات الإعمار في القطاع المدمّر والمنكوب، والذي يعاني سكّانه من مروحة واسعة من المشكلات، تبدأ من عدم حصولهم على ما يكفيهم من الغذاء والدواء ومصادر الطاقة، ولا تنتهي بفقدانهم السكن المناسب الذي يؤويهم وأطفالهم في ظل شتاء بارد وقاسٍ.
خلال المرحلة الأولى من اتفاق التهدئة، والتي انتهت يوم أمس، وضع الاحتلال العديد من العصي في دواليب الاتفاق، وكاد أن يُسقطه في عديد المرات، معتمداً في بعض الأحيان على حجج وذرائع واهية مثل قضية المجنّدة في برنامج الفضاء الإسرائيلي "أربيل يهود"، وفي أحيان أخرى، على خطأ غير متعمّد في ما يخص تشخيص جثة الأسيرة "شيري بيباس"، التي قتلتها طائراته خلال شهور الحرب.
في معظم تلك المحاولات كانت المقاومة متفطّنة ويقظة، وأدارت الأزمات التي نشأت عن تهرّب الاحتلال من التزاماته بذكاء وحنكة، مفوّتةً عليه فرصة نسف التهدئة، والعودة إلى مربع الحرب والعدوان من جديد، لا سيّما أنها تعرف أن نتنياهو على وجه الخصوص يريد إسقاط الاتفاق خدمة لأجنداته الشخصية، وإرضاءً لحلفائه في الحكومة، والذين يهدّدون صباح مساء بإسقاط الائتلاف الحاكم، وهو الأمر الذي يرغب نتنياهو في تلافيه مهما كلّف ذلك من ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو أرواح الأسرى الصهاينة في قطاع غزة.
اليوم، وبعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود بعد لقاءات القاهرة الأخيرة، وبعد إصدار حكومة الاحتلال قراراً بوقف إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، وإغلاق كل المعابر المؤدية إليه، وبعد رفضها الذهاب إلى مفاوضات المرحلة الثانية، ورغبتها في تمديد المرحلة الأولى كي تضمن استعادة المزيد من أسراها لدى المقاومة، لا سيّما من فئة الجنود والضبّاط من دون أن تقدّم أي أثمان حقيقية مقابل ذلك، في مقابل إصرار المقاومة وتمسّكها بضرورة تنفيذ كل ما تم الاتفاق عليه في المرحلة الأولى، خصوصاً في ما يتعلّق بزيادة إدخال المساعدات، وفتح طريق صلاح الدين الرئيسي وشارع الرشيد أمام حركة المواطنين والمركبات، بالإضافة إلى إدخال البيوت المتنقّلة والخيام، التي ما زالت دون الحد الأدنى الذي تم التوافق عليه، إلى جانب فتح معبر رفح في الاتجاهين، والذي ينص الاتفاق على ضرورة فتحه في اليوم الثالث والأربعين من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، أي في تاريخ الثاني من آذار/مارس الحالي.
في ضوء كل ذلك، ومع بروز الكثير من التسريبات عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية عن نيّة الاحتلال التراجع عن الكثير مما تم الاتفاق عليه، ورغبته في العودة إلى الحرب في مرحلة لاحقة في ظل ضوء أخضر أميركي لا مجال لإنكاره بعد تصريحات ترامب ووزير خارجيته الأخيرة، وفي ظل ضعف وقلّة حيلة الوسطاء الإقليميين مثل مصر وقطر، واللتين لا تملكان كما ثبت خلال الفترة الماضية أي أوراق ضغط على العدو الصهيوني، تبدو الأيام والأسابيع القادمة مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، والتي يمكن أن يؤدي بعضها إلى اشتعال الإقليم من جديد، وإلى إمكانية توسّع دائرة النار لتشمل مناطق أخرى من المنطقة،لا سيّما في ظل وجود الإدارة الأميركية بشكلها الحالي، وتشبّت نتنياهو بسدّة الحكم في "إسرائيل " مهما كلّف ذلك من ثمن.
أول الاحتمالات هو بروز حالة من المراوحة العملياتية كما يجرى حالياً، رغم التحليق المكثف لطيران الاحتلال في سماء القطاع، وبعض الاعتداءات المتفرقة على بعض المناطق مثل التي وقعت في بيت حانون أو شرق خان يونس، بحيث يستمر توقّف العمليات العسكرية الكبيرة والواسعة إلى فترة زمنية لاحقة، قد تمتد حسب بعض التقارير إلى نهاية شهر رمضان المبارك كما قال سابقاً المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، مع تشديد الحصار على القطاع، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية كوسيلة ضغط على المقاومة لتقديم تنازلات كبيرة.
ثاني الاحتمالات هو حدوث خرق في المفاوضات المتعثّرة التي ما زالت جارية في الكواليس، بحيث يتم الوصول إلى حلول وسط تساعد في تفادي انهيار الاتفاق بصورة شاملة، وتجنّب المنطقة الكثير من التداعيات التي هي في أمسّ الحاجة إلى الابتعاد عنها، خصوصاً أن حالة التوتّر التي تسيطر على المشهد في قطاع غزة، تنسحب أيضاً على ما يجري في جنوب لبنان، والذي يرفض الاحتلال حتى الآن الانسحاب من بعض النقاط فيه، وهو الأمر الذي يهدد أيضاً بانهيار الاتفاق في شقّه اللبناني، وهو ما يعني بالضرورة ذهاب كل المنطقة إلى أتون حرب واسعة قد تكون تداعياتها أكبر وأشمل من سابقتها.
ثالث الاحتمالات هو تنفيذ "جيش" الاحتلال لجملة من الاعتداءات المحدودة، جغرافياً وزمنياً، ضد أهداف منتقاة في قطاع غزة، وهو الخيار الذي أشارت إليه بعض الصحف الإسرائيلية، وعدّته كعنصر ضغط على المقاومة في غزة لتقديم المزيد من التنازلات.
في حال تم اللجوء إلى هذا الخيار، والذي يمكن له أن يترافق مع تشديد الحصار وإغلاق المعابر فإن العدو سيلجأ لاستهداف بعض المراكز الأمنية التي أُعيد افتتاحها، لا سيما تلك الخاصة بجهاز الشرطة في غزة، وإلى استهداف بعض المؤسسات التي تقدّم خدمات إنسانية للمواطنين مثل المراكز الصحيّة والإغاثية ومراكز الإيواء، والتي كان لها نصيب وافر من الاعتداءات في خلال الحرب، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات اغتيال لبعض قادة المقاومة، إذ بذلت أجهزة استخبارات الاحتلال خلال الأسابيع الستّة الأخيرة جهوداً كبيرة للحصول على معلومات بشأنهم، كما تشير مصادر في المقاومة.
الاحتمال الرابع وهو ما يسعى إليه نتنياهو وقوى اليمين في "إسرائيل"، العودة إلى الحرب بصورتها السابقة، بما يسمح له بالحفاظ على ائتلافه المتطرّف من السقوط، بالإضافة إلى إبعاد شبح انتهاء مستقبله السياسي الذي يراوده عند كل صباح، لا سيّما تلك الصباحات التي يذهب فيها للإدلاء بشهادته في المحكمة، والتي تمثّل له كابوساً لا يمكن الفكاك منه أو التهرّب من تداعياته.
هذا الاحتمال، وإن كان وارداً وممكناً، فإنه يُواجَه بعقبات وكوابح عديدة، منها الوضع الداخلي في "إسرائيل"، والذي يُتوقّع له أن يشهد المزيد من التدافع والاختلافات في ظل توقف عمليات تبادل الأسرى، وإمكانية أن يلجأ ذووهم إلى تصعيد احتجاجاتهم ضد الحكومة الإسرائيلية، وإمكانية أن يدخل "الجيش" على هذا الخط، خصوصاً أن كل المتبقّين من أسرى لدى المقاومة هم من فئة الجنود والضبّاط، والذين يمكن أن يشكّلوا ضغطاً إضافياً على المستوى السياسي في الكيان الصهيوني للمضي قُدماً في إتمام الصفقة، بما يضمن الإفراج عن من تبقّى من أسرى، وبما يضمن أيضاً الوصول إلى هدوء مستدام يتيح عودة المستوطنين إلى مستعمراتهم القريبة من غزة، أو حتى تلك على الحدود الشمالية مع لبنان.
على كل حال، فإن حالة من الضبابية ستبقى تسيطر على المشهد في ما يخص تطوّر الأوضاع في قطاع غزة، وهو الأمر الذي سينسحب على ساحات أخرى في الإقليم، وستبقى كل الاحتمالات مفتوحة ومتاحة خصوصاً في ظل تعنّت ملحوظ من "الدولة" العبرية، مدعوماً بموقف أميركي منحاز، وموقف دولي وإقليمي وعربي أقل ما يمكن أن يُوصف به بأنه ضعيف ومتخاذل.
إلا أنه، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن إمكانية تراجع المقاومة الفلسطينية، أو انكسار شعبها وبيئتها الحاضنة سيبقى امراً مستبعداً إلى أبعد الحدود، إذ إن هذا الشعب الذي صمد وتحمّل وقدّم كل ما يملك خلال خمسة عشر شهراً من الحرب والعدوان، لن تخيفه أو تفتّ في عضده تهديدات نتنياهو المأزوم، أو الأحمقان بن غفير وسموتيريتش، ولن يكسر عزيمته إغلاق معبر هنا أو إيقاف مساعدات هناك، وسيواصل طريقه مسنوداً بمقاومة شريفة وعزيزة ومقتدرة، وبحلفاء وداعمين موثوقين في المنطقة والإقليم حتى الحصول على كل حقوقه المشروعة، هذه الحقوق التي لن تسقط بالتقادم، ولن تذهب أدراج الرياح السوداء القادمة من "تل أبيب" وواشنطن.