ليتحوّل الإنجاز إلى عبء: "إسرائيل" وفخ "الانخراط المفرط"
الإنجازات التي يتباهى بها نتنياهو وحكومته، قد تتحوّل إلى عبء، خاصة في حالة استمرار تعدّد الجبهات من دون أفق سياسي وبغياب استراتيجية خروج واضحة.
-
"إسرائيل" ليست قوة عالمية ضخمة لتتحمّل انخراطاً مفرطاً لوقت طويل.
تشير التطوّرات الإقليمية المتسارعة بعد عام 2023، إلى أنّ التوجّهات الإسرائيلية لا تقتصر على السيطرة على غزة وقضم الضفة الغربية فحسب، بل تمتدّ نحو إعادة تشكيل شامل لخريطة الشرق الأوسط بما يتماشى مع رؤى اليمين الإسرائيلي الذي يسعى لتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى"، وتحقيق الهيمنة الاستراتيجية طويلة الأمد على الشرق الأوسط برمّته.
ولتحقيق هذه الأهداف، تطرح القوى الحاكمة في "إسرائيل" ذلك في مسارين متوازيين: تقسيم الدول المحورية مثل سوريا، وإعادة تعريف الصراعات بما يُخرج القدس والقضية الفلسطينية من مركزيّتها التاريخية، مقابل فرض وقائع جيوسياسية جديدة على الأرض في لبنان وغزة وسوريا وقد يكون في الأردن ومصر.
وهكذا، تكوّنت ظروف إقليمية تشكّل فرصة ذهبية لـ "إسرائيل"، لتطبيق الحلم التوسّعي، ولتغيير الشرق الأوسط، في مشهد يمكن اختصاره كما يلي:
- انتهاء تهديد "الجبهة الشمالية" الممتدة من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان.
- تحوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة أمام مشاريع التقسيم، حيث تبقي "إسرائيل" احتلالها للجولان السوري، والمناطق الجديدة التي احتلتها بعد سقوط النظام، بالإضافة الى تقسيم الباقي إلى كيانات طائفية وإثنية، أبرزها: شمال شرقي كردي مدعوم أميركياً، شمال غربي تحت النفوذ التركي، وساحل علوي تحت حماية روسية، وسط وجنوب مفتوحان لصراعات متعدّدة الولاءات.
- إنهاء العمق الاستراتيجي الذي طالما مثّلته سوريا لصالح المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
- فتح المجال أمام اتفاقيات أمنية/اقتصادية مع قوى كردية أو محلية انفصالية داخل سوريا.
- حاجة الحكم الجديد في سوريا لرفع العقوبات الأميركية مما يجعله يقبل بشروط الرئيس دونالد ترامب وأهمها التطبيع (ويبدو غير مشروط بعودة الأرض المحتلة ـــــ بحسب الطرح الأميركي ـــــ لغاية الآن).
لكنّ هذه الفرصة التاريخية لـ "إسرائيل" وتوسّعها في الإقليم، قد تحمل في طيّاتها تهديداً على المدى الاستراتيجي الأبعد، حيث تهدّد بأن تتحوّل إلى "انخراط مفرط" يؤدّي غلى زعزعة استقرارها وأمنها لاحقاً.
أـــــ ما هو الانخراط المفرط؟
الانخراط المفرط هو مصطلح في العلاقات الدولية يُستخدم لوصف الحالة التي تتورّط فيها دولة بشكل مفرط في صراعات أو التزامات خارجية، سياسية أو عسكرية أو دبلوماسية، من دون أن تكون لديها قدرة واضحة أو خطة مستدامة لإدارتها.
منذ نشأتها، اعتمدت "إسرائيل" على عقيدة أمنية قائمة على الردع الاستباقي والضربات الوقائية، ضمن بيئة إقليمية عدائية. لكنّ التطوّرات التي حصلت بعد عام 2023، والتي أدّت إلى مرحلة جديدة من التورّط العسكري الواسع جغرافياً، والذي قد يؤدّي لاحقاً الى انخراط مفرط على المدى الطويل، خاصة إذا ما واجهت مقاومة مستمرة من السكان المحليين وأهالي المناطق المحتلة.
ب ـــــ محاور الانخراط المفرط الإسرائيلي
منذ أكتوبر 2023، دخلت "إسرائيل" في أطول عملية عسكرية مستمرة داخل قطاع غزة، تخلّلتها اجتياحات برية، عمليات اغتيال، واشتباكات مع المقاومة الفلسطينية، وقتل ما يزيد عن 50 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال. في المقابل، واجهت الحرب الإسرائيلية على غزة انتقادات دولية واسعة، وتحوّلت الإبادة في غزة إلى عبء أخلاقي، سياسي، حيث حوّلت الرأي العام العالمي كما لم تفعل أيّ حرب إسرائيلية ضدّ الفلسطينيين منذ عام 1948.
ورغم الإنجازات التكتيكية، لم تحقّق "إسرائيل" الأهداف التي وضعتها، فلم تقضِ على حماس بالكامل، ولم تحرّر الرهائن من دون صفقة تبادل، ولم تستطع تهجير الفلسطينيين من القطاع.
وكلما طال أمد الحرب، ازدادت التصدّعات السياسية والمجتمعية والتحدّيات الاقتصادية داخل "إسرائيل". ويعاني "الجيش" من تحدّيات في الاحتياط والتجنيد، وسط إرهاق جنود الاحتياط وانتقادات واسعة لإعفاء الحريديم، واتهامات لحكومة نتنياهو بأنها تعمل لمصالح شخصية ولا تهتم بالأسرى (أكده الجانب الأميركي).
وعليه، وانطلاقاً من معايير الانخراط المفرط في العلم الاستراتيجي، يمكن القول إنّ الإنجازات التي يتباهى بها نتنياهو وحكومته، قد تتحوّل إلى عبء، خاصة في حالة استمرار تعدّد الجبهات من دون أفق سياسي وبغياب استراتيجية خروج واضحة تؤدّي إلى استنزاف الموارد والقدرات، وتزيد الانقسام الداخلي، وتزيد من تأكّل الشرعية الدولية.
وما يجعل من الحالة الإسرائيلية أصعب، هو أنّ "إسرائيل" ليست قوة عالمية ضخمة لتتحمّل انخراطاً مفرطاً لوقت طويل، بل هي "دولة" صغيرة تملك قدرات متقدّمة وتحظى بدعم خارجي واسع، لكنها محدودة الموارد والسكان. بالتالي، فإنّ الانخراط المفرط لا يُنذر فقط بالتراجع الاستراتيجي، بل قد يشكّل تهديداً لبنية "الدولة" ومجتمعها الذي سينقسم على نفسه كلما زادت الأعباء.