ليبيا: هل باتت حكومة الوحدة بوابة لتصاعد الخلافات؟

بقاء المشهد السياسي الليبي رهينة المناورات السياسية الموجودة بين المجلسين سيُفضي إلى تأكّل حضورهما، سياسياً واجتماعياً.

  • لا تزال بوابة الخلافات مفتوحة على مصراعيها في ليبيا.
    لا تزال بوابة الخلافات مفتوحة على مصراعيها في ليبيا.

على كثرة المياه التي جرت في وادي اللقاءات من أجل التوافق على الوحدة في المشهد السياسي الليبي، لا تزال بوابة الخلافات مفتوحة على مصراعيها تعصف بفرص الاتفاق بين الفرقاء، الذين يبدو أنهم اتفقوا على ألا يتفقوا. وكانت آخر الفرص الذهاب إلى تشكيل حكومة واحدة موحدة متفَق عليها. 

لم يمضِ أكثر من يوم واحد على إعلان رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، بدءَ قبول ملفات الراغبين في الترشح لرئاسة الحكومة الموحدة الجديدة المزمع إنشاؤها، حتى اتهم المجلس الأعلى للدولة، في بيان، مجلس النواب بعرقلة المسار السياسي في البلاد، عبر اتخاذ إجراءات وصفها بأحادية الجانب.

وكان عقيلة صالح أعلن، في 28 تموز/يوليو 2024، فتح باب الترشيحات لمنصب رئيس حكومة موحدة، بدءاً من 29 تموز/يوليو 2024 حتى 11 آب/أغسطس الجاري. ودعا صالح الرئاسة والأعضاء في المجلس الأعلى للدولة إلى تزكية من يرونه كفؤاً لشغل منصب رئيس الحكومة.

دعوة عقيلة صالح إلى الذهاب إلى حكومة وطنية أُسست على مخرجات اجتماع القاهرة، الذي رعته جامعة الدول العربية في 10 آذار/مارس الماضي، من أجل حل الخلافات التي تُعرقل إجراء الانتخابات العامة التي طال انتظارها. وضم الاجتماع مجلس النواب والمجلس الرئاسي الليبي، والمجلس الأعلى للدولة. وصدر، عقب اللقاء، بيان عن جامعة الدول العربية، جاء فيه: "اتفق رؤساء المجالس الثلاثة على عملية تتضمن تشكيل حكومة موحدة، مهمتها الإشراف على العملية الانتخابية، وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين، وتوحيد المواقف السيادية".

اعتراض المجلس الأعلى للدولة الليبي على قرار مجلس النواب فَتْحَ باب الترشح لرئاسة حكومة جديدة، أعاد الخلافات بين المجلسين إلى واجهة المشهد السياسي في ليبيا، الأمر الذي يُنذر بنسف الأمل بشأن استمرار لقاءات التقارب بين رئاستَي المجلسين، والتي بدأت في آذار/مارس الماضي.

يدفع المجلس الأعلى للدولة، في روايته الرافضة قرارَ مجلس النواب الليبي، إلى أن القرار "خطوة منفردة"، ودعا مجلس النواب إلى عدم الاستمرار في اتخاذ خطوات أحادية تؤدي إلى "تكرار الفشل وترسيخ حالة الانقسام"، موضحاً أن ما تم الاتفاق عليه في القاهرة "إطار عام" للحل السياسي، وأنه "لم يَجرِ الاتفاق فيه على آليات تنفيذ بنوده، بما في ذلك آلية تشكيل الحكومة". وأكد المجلس الأعلى للدولة تمسكه بالإطار العام للحل السياسي الذي تم الاتفاق عليه في القاهرة، مشدداً على ضرورة التوافق على آليات تنفيذه. 

وحذر المجلس الأعلى من خطوات مجلس النواب المنفردة، والتي قد تؤدي إلى تكريس حالة الانقسام في البلاد، لافتاً إلى عدم اعترافه بأي إجراء يتم اتخاذه بصورة منفردة. وقال المجلس - في بيان له - إن "التوافق وعدم التفرد بالقرار هما الأمر الذي سعينا لتحقيقه ووضع نقاطه الرئيسة في الاجتماع الثلاثي برعاية الجامعة العربية، في إطاره العام"، مشيراً إلى أن العملية كان من المقرر أن تُستكمل عبر وضع الآليات المتعلقة بجميع النقاط التي تضمنها بيان الجامعة.

عاصفة التراشق بين المجلسين - الأعلى والنواب - لم تقتصر على الحدود والمحددات لرفض دعوة مجلس النواب إلى حكومة جديدة. فالموازنة الموحدة، التي أقرها واعتمدها مجلس النواب، كانت هي الأخرى بوابة للخلاف. وكان مجلس النواب اعتمد، في 10 تموز/يوليو 2024، ميزانية موحدة للبلاد بقيمة 179 مليار دينار (نحو 25 مليار دولار)، وهو ما رفضه المجلس الاعلى للدولة، مشيراً إلى أن ذلك يخالف الاتفاقات التي تم التوصل إليها في اللقاء الثلاثي الذي رعته جامعة الدول العربية في القاهرة، معلناً تعليق مشاركته في الحوارات التي ترعاها الجامعة العربية من أجل حل الأزمة الليبية. وهو ما يعيد المشهد السياسي الليبي إلى مربع الصفر من جديد.

يُذكَر أن هناك حكومتين في ليبيا حالياً، إحداهما معترف بها من الأمم المتحدة، وهي حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ومقرها العاصمة طرابلس، وتدير من خلالها غربي البلاد بالكامل.

أمّا الحكومة الثانية فهي حكومة أسامة حماد، المكلفة من مجلس النواب منذ 3 أعوام، ومقرها في بنغازي، وتدير كامل الجزء الشرقي من البلاد ومدن الجنوب. وأفضى هذا الوضع إلى خلق أزمة سياسية يأمل الليبيون حلها من خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تحول دونها الخلافات القائمة بين الفرقاء.

هكذا غدت الدعوة إلى حكومة الوحدة والتوافق بوابة لتصاعد الخلافات في المشهد السياسي الليبي، إذ لم يكن لقاء القاهرة، في آذار/مارس الماضي، هو اللقاء الوحيد الذي يتفق فيه الفرقاء على التوافق على الذهاب إلى حكومة وطنية موحدة. ففي شباط/فبراير الماضي، التقى المجلسان في تونس، وتوافقا على ضرورة الوحدة. وفي حزيران/يونيو الماضي التقى الفرقاء في مصراتة، واتفقوا على تشكيل حكومة جديدة من أجل الوصول إلى الانتخابات، بعد التوافق على التعديل الدستوري الـ13 وإقرار قوانين الانتخابات، وإيصال البلاد إلى بر الأمان والوحدة بدلاً من الانقسام والافتراق.

كل خرائط الطريق، التي شقها فرقاء المشهد الليبي، فشلت في الوصول إلى محطة الوحدة والتوافق للتوصل إلى الحل الشامل، والسبب سوء تفسير كل طرف مخرجات لقاءات الاتفاقات السياسية. فكانت النتيجة تعثر محاولات تشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحَّدة متفَق عليها، لتدير البلاد، نتيجة غياب الدعم الدولي والأممي الجاد والضاغط على الفرقاء من أجل التوافق والوحدة وإنهاء الخلافات، والاتفاق على خريطة طريق وفق جدول زمني محدد، للدفع نحو إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

حدود الأزمة في ليبيا لا تقف عند غياب الدعم الدولي والأممي، أو عند غياب الإرادة السياسية للفرقاء، لكنّ هناك جزءاً مسكوتاً عنه تمثّله تلك الأطراف الإقليمية الفعّالة والمنخرطة في المشهد الليبي، والتي لديها تحفظات تحول دون التوصل إلى أي توافق من أجل وحدة ليبيا.  

إن بقاء المشهد الليبي عرضة للتراشق بين الفرقاء، واكتفاء المجتمع الدولي بالمشاهدة عن بعد، وترك الباحة الخلفية لتدخلات الأطراف الإقليمية، واستقواء الفرقاء بتلك الأطراف، قد تُفضي إلى ذهاب ليبيا إلى مزيد من الانقسام، بما في ذلك خلق حكومة جديدة ثالثة. 

وبالتالي، يصبح سيناريو الفوضى في السلطات التشريعية والتنفيذية والسياسية هو السيناريو الممكن والمتاح والمحدِّد لمسارات المشهد السياسي الليبي.  

تدفع لغة الخطاب الإعلامي والممارسات السياسية القائمة بين فرقاء المشهد الليبي إلى نتيجة، مفادها أن الاقتراب من الاتفاق والتوافق ما زال بعيداً، وأن المحدِّد الضابط لمسار المشهد هو العناد المسنود بالاستقواء بالخارج، بينما يتوق الداخل الليبي إلى الوحدة وإنهاء الانقسام.

إن حقيقة الخلافات والتباينات القائمة بين المجلسين - الأعلى والنواب - هي خلافات مرجعها الحسابات الشخصية الضيقة، والتي تغلّب الفردي على الجماعي، والشخصي على الوطني، وترفض استكمال اللقاءات والحوارات، وتضع المشهد الليبي على حافة الانزلاق نحو هاوية الخلافات والانقسامات، بدلا من التوافق والوحدة.

إن بقاء المشهد السياسي الليبي رهينة المناورات السياسية الموجودة بين المجلسين سيُفضي إلى تأكّل حضورهما، سياسياً واجتماعياً. ونتائج ذلك ستكون كبيرة وخطيرة على كل مكونات المشهد الليبي. والتراشق بين المجلسين، بشأن بيانات التفسير والتعليل واختلاف الروايات والقراءات للاتفاقات، لا علاقة له بالموازنة أو باستحقاق تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإنما هو استعراض قوة وفرض رؤية واحدة.

 إن تحديد مجلس النواب موعد الـ 11 من آب/أغسطس الجاري موعداً للنظر في ملفات المترشحين، يضع العربة أمام الحصان، ذلك بأن هذا الموعد يتزامن مع انتخابات مجلس الدولة الرئاسية، والتي ستُعقَد في الأسبوع الأول من آب/أغسطس الجاري لاختيار مكتب الرئاسة.

بناءً عليه، فإن الرأي القائل إن هناك تشويشاً متعمَّداً من مجلس النواب على مجلس الدولة هو قول يجانبه الصواب، عطفاً على النتائج التي أفضت إليها الدعوة إلى الترشح لرئاسة حكومة وطنية. وبدلاً من أن تكون تلك الحكومة مدخلاً للوحدة والتوافق، باتت بوابة لتصاعد الخلافات بين المجلسين، اللذين يتجاهلان الإرادة الشعبية الليبية واستحقاق الشرعية المتأكِّلة لهما، بعد أن باتا عنواناً للانقسام والأزمة.