لماذا لم يتسع أفق قمة الجزائر لولي العهد السعودي؟
تسابقت التحليلات لكشف السبب الدقيق لاعتذار ولي العهد السعودي عن المشاركة في قمة الجامعة العربية بذريعة العارض الصحي.
هل اختار الجزائريون تاريخ انقعاد القمة العربية بعناية؟ في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، عندما ستُعقد قمة الجامعة العربية، يصادف عيد الثورة في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي. أما الثاني من الشهر نفسه، نهاية انعقاد القمة، فيصادف ذكرى "وعد بلفور" المشؤوم.
هل اختار الجزائريون هذين التاريخين بعناية، لا لأنهما يصادفان المناسبات المذكورة فحسب، بل لأنهما يتعامدان أيضاً مع خطوات قامت بها الجمهورية الجزائرية قبل القمة في لمّ الشمل الفلسطيني، وهي القمة التي عُنونت بأنها قمة فلسطين تزامناً مع تقديم لافت جاء فيه: "في ظل الظروف الدولية والإقليمية الدقيقة والأحداث الحساسة، تأتي وحدة الصف ولم الشمل ونبذ الفرقة وتغليب التوافق والائتلاف على التنافر والاختلاف عنواناً وهدفاً أسمى" للقمة؟
لم تكتفِ الجزائر بعقد جلسات للفصائل الفلسلطينية لإيجاد صيغة مناسبة للتوافق، بل ذهبت إلى المناحي الأخرى الموجعة في الجسد العربي، حين أكّدت أن "سوريا دولة عربية مهمة، وينبغي أن تستعيد مقعدها في الجامعة العربية".
وبالنَفَس القومي المسؤول نفسه، تواصلت مع المغرب، رغم الخلاف بينهما والقطيعة الدبلوماسية منذ آب/أغسطس من العام المنصرم، إذ زار وزير العدل الجزائري عبد الرشيد طبي في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي المغرب، وكان في استقباله وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة لتقديم دعوة إلى القمة العربية.
وبعد أعوام من غياب اجتماعات الجامعة العربية بسبب جائحة كورونا، يعود العرب ليلتئموا، لكن هذه المرة بنكهة مختلفة، وإن لم تختلف مخرجاتها بشكل بنيوي، إلا أنَّ النكهة الفلسطينية بانت قبل انعقاد القمة، وكان الحرص على لملمة الشتات هدفاً واضحاً أكّده أكثر من مسؤول في الجزائر.
ورغم تأكيد القمة "حلّ الدولتين" - وهو حل غير جذري في القضية الفلسطينية - فإنَّ الرجوع إلى "الريتم" العربي القديم منذ معاهدة "كامب ديفيد" هو أقل فداحة وفظاعة من التطبيع المبتذل الذي اشتغل عليه مشروع "أبراهام"، الذي يذهب إلى أبعاد عديدة تتجاوز التطبيع التقليدي.
هناك تباين واضح بين المسار الجزائري والمسار السعودي، سواء في القضية الفلسطينية أو في باقي القضايا العربية، كما أنَّ للجزائريين موقفاً صلباً من مسألة التطبيع، وهم يرفضون هذا الخيار جملةً وتفصيلاً. هذا الخيار له تداعيات كثيرة وكبيرة تلقي بإرهاصاتها على الاقتصاد والرؤية الاستراتيجية للبلدين، لكن هل هذا هو السبب الذي دفع محمد بن سلمان إلى الانكفاء وعدم المشاركة في القمة؟
تسابقت التحليلات لكشف السبب الدقيق لاعتذار ولي العهد السعودي عن المشاركة في قمة الجامعة العربية بذريعة العارض الصحي، واتفقت جملة منها على أنَّ السبب هو الانحلال السعودي في خيار دمج "إسرائيل" في العالم العربي، بمعنى الذوبان الذي ينحو إلى المبالغة الزائدة في إعطاء هذا الكيان أهمية ودوراً رغم تراجع تموضعه الاستراتيجي. إضافةً إلى ذلك، هناك موقف إيجابي قوي وصارم من الجزائر باتجاه سوريا، يفضي إلى أنَّ الأخيرة لا ينبغي أن تكون بمعزل عن المحيط العربي.
ورغم أن هذا التفسير، في رأيي، صحيح في الجملة، فإنّ موضوع التباين بين محمد بن سلمان شخصياً والجزائر أعمق من ذلك، وهو أنَّ ثمة تضاداً في المشروع السياسي لكلّ منهما؛ المشروع السياسي الذي يضع تلك القضايا العربية في حزمة مع قضايا أخرى تتعلق بإيران والغرب، ويفضي إلى مفاهيم مختلفة جذرياً مع السعودية، كمفهوم السيادة والمصلحة الوطنية والأمن القومي. هذه الحزمة تقف بالضد تماماً مع التوجه السعودي، فالمسألة لا تقف عند خلاف في بعض التفاصيل أو تباين على بعض أجزاء السياسة عند الطرفين.
الأمن القومي العربي
يرى الجزائريون أنَّ الأمن القومي العربي عموماً، والوطني خصوصاً، يبدأ من سيادة الصناعة الأمنية، والصناعة الأمنية تتفرع إلى عدة معانٍ، منها الصناعة الاستراتيجية والصناعة التقنية وتكوين المناعة الذاتية في العسكر والاستخبارات، وهذا ما جعل الجيش الجزائري من أقوى الجيوش العربية، وهو لا يعتمد على منظومة تسليحية لدول تبتزه في البُعد الاستراتيجي.
كذلك، إن الجزائر، بما تمتلك من ثروة طاقة وازنة، تتبع السياسة ذاتها التي تتبعها في الجانب السيادي والأمني من الاستقلالية، وهذا ما يجعل الغرب غاضباً عليها، ويفتعل المشكلات الداخلية فيها، كالمشكلة الأمازيغية، إذ استثيرت القبائل الأمازيغية في الجزائر عامي 1963 و1980 بما عرف حينها بـ"الربيع الأمازيغي"، مروراً بــ"الربيع الأسود" عام 2001، وحتى حراك 2019، أو افتعال المشكلة الحدودية بين الجزائر والمغرب، المتمثلة بمشكلة قبائل الصحراء الغربية، وليس انتهاءً بالإرهاب الذي ضرب الجزائر في فترات متقطعة.
كل تلك المشاكل، وإن كان بعضها يحمل بذوراً ذاتية، إلا أنّ منمّيها ومستثمرها خارجي، كبقية الدول التي غضب عليها الغرب، فاستثمر التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فيها لينهكها. وفي العودة إلى عدم مشاركة محمد بن سلمان في القمة، وإلى السبب المذكور باختلاف حزمة المسارات بين البلدين، ينبثق سؤال مهم: هل هذا يعني أن ولي العهد السعودي لن يلتقي أيّ مسؤول في الجزائر أو لن يزورها مستقبلاً؟
بالطبع، ذلك لا يمكن الجزم به، وليس من المتوقع هذا التصلّب إزاء كل ما هو جزائري. إذاً، ثمة سؤال آخر مكمل لهذه المشهدية: إذا كان التلاقي ممكناً مستقبلاً مع اختلاف المسارات، فما السر في هذه القمة؟ في اعتقادي، القمة تمثل وجهاً بارزاً للتباين بين الطرفين. هذا التباين هو الذي منع المشاركة. أما لو أتيحت الفرصة للتلاقي من دون وجود مناسبة لبروز ذلك التباين، فهو ممكن ومتوقع.
على العموم، فإنَّ السعودي ينغمس في الالتصاق بالإسرائيلي، ليس على مستوى العلاقات فحسب، بل على مستوى التوجه أيضاً، وهذا أخطر وأوسع من مشكلة إقامة علاقة مع الكيان الغاصب. السعودي في عهد محمد بن سلمان مضى بسكّة طويلة تبتعد عن الخيار العربي. وكلَّما مر الوقت ابتعد أكثر وصار أكثر غربة، وربما ستكتمل تلك الغربة بإكمال مشروع "نيوم" الذي سيرمي الرياض فعلاً في حضن "تل أبيب".