قيمة الليرة اللبنانيّة: بين الأزمة السياسيّة وحقائق الاقتصاد

بيعَ الدولار الأميركي في سوق بيروت بسعر وسطيّ هو 1500 ليرة تقريباً منذ العام 1997 حتى العام 2019، ولكنّه ارتفع بعد الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019

  • بِيعَ الدولار الأميركي في سوق بيروت بسعر وسطيّ هو 1500 ليرة تقريباً منذ العام 1997 حتى العام 2019
    بِيعَ الدولار الأميركي في سوق بيروت بسعر وسطيّ هو 1500 ليرة تقريباً منذ العام 1997 حتى العام 2019

وصل سعر صرف الدولار الأميركي في سوق بيروت المالي إلى حافة الثلاثة والثلاثين ألفاً في الأسبوع الثاني من شهر كانون الثاني/يناير الجاري، أي بزيادة بضعة آلاف عمّا أقفل عليه في نهاية العام 2021. هذا الصّعود كان جزءاً من سلسلة باتت متسارعة في الأشهر الأخيرة، سببها سياسي في الدرجة الأولى، بعدما استنفدت العوامل الاقتصادية تأثيراتها. 

مسيرة الليرة من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى اليوم

بِيعَ الدولار الأميركي في سوق بيروت بسعر وسطيّ هو 1500 ليرة تقريباً منذ العام 1997 حتى العام 2019، ولكنّه ارتفع بعد الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، ليقفل على 2000 ليرة في نهاية العام 2019، وكادت الأمور تتحسّن لو سارت موجة الإصلاحات المالية والاقتصادية التي أطلقتها حكومة حسان دياب.

 ولكنَّ الطبقة السياسيّة عرقلت هذه الإصلاحات، وتدخّلت عوامل خارجية، أهمها تداعيات وباء كورونا على الاقتصاد وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، ما أدّى إلى ارتفاع الدولار نحو 8000 ليرة في نهاية 2020. وإذ راوحت العوامل الاقتصادية وقعها السلبي في العام 2021، استمرَّ صعود الدولار إلى ذروة جديدة في حزيران/يونيو 2021 هي 15 ألفاً. وبعد هذا التاريخ، استمرّت قيمة الدولار صعوداً، وإن بشكل متعرج، حتى أُقفلت في نهاية العام 2021 على 27500 ليرة.

أيّ ارتفاع فوق 15 ألفاً سببه سياسي!

يشكّل سعر 15 ألف ليرة، في نظرنا، ذروة سعر الدولار في لبنان، لأسباب اقتصادية بحتة، وما الارتفاعات فوق هذا السعر بعد ذلك، إلا لأسباب سياسية. لقد دخل لبنان مرحلة لااستقرار طويلة منذ استقالة حكومة دياب في 10 آب/أغسطس 2020، وتعثّر تشكيل حكومة جديدة، إضافةً إلى سياسة حاكم مصرف لبنان المسنود من الطبقة السياسية، والذي واصل سياسة "لحس المبرد"، إذ كان واجبه، كأي مصرف مركزي في العالم، محاربة التضخّم الرهيب، ولكنّه ضخَّ الأوراق النقدية بكثافة، فزاد تضخّم الأسعار. 

أولاً، في 17 تموز/يوليو 2021، ترسّخ الفراغ الحكومي باعتذار رئيس الحكومة المكلّف آنذاك سعد الحريري عن تشكيل الحكومة، ما أثّر في سعر صرف الدولار في بيروت، إذ ارتفع في قفزات جنونية إلى حافة 23 ألف ليرة.

ثانياً، في 26 تموز/يوليو، أي بعد أيام، تم تكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، فتراجع سعر صرف الدولار إلى 17 ألف ليرة. 

ثالثاً، في 20 كانون الثاني/يناير 2022، عشية الإعلان عن عودة حكومة ميقاتي إلى الانعقاد يوم الإثنين 24 كانون الثاني/يناير 2022، تراجع الدولار من قمّة 33 ألف ليرة إلى 23 ألفاً وما دون. 

إذاً، ارتفع سعر الدولار في بيروت من 1500 ليرة في تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى 15 ألف ليرة في حزيران/يونيو 2020. أما الارتفاعات بعد ذلك، فهي ضجيج "white noise". 

وفي ما يلي، نحدّد العوامل الاقتصادية لتحرّك الليرة:

 الأساسيات الاقتصاديّة لقيمة العملة

الأساسيات الاقتصادية لتحديد قيمة الليرة اللبنانية (economic fundamentals) خمسة:

أولاً، (P) مؤشر تضخّم الأسعار (inflation rate): هذا المؤشّر يسبّب تحرّكاً معاكساً في قيمة العملة الوطنية، فكلّما ارتفع مؤشر الغلاء هبطت العملة الوطنية. يعاني لبنان من ارتفاع مؤشر الأسعار، وهو العامل الأهم في انخفاض عملته وفقدان قيمتها تدريجياً. والسبب الرئيسي للتضخّم هو الطلب المرتفع على السّلع والخدمات مقابل تراجع عرضها ونمو الكتلة النقدية؛ ففي غياب نمو النشاط الاقتصادي الحقيقي، يتحوّل أي نمو في الكتلة النقدية إلى ارتفاع في مؤشر التضخم. 

لقد زادت الكتلة النقدية (M1 البنكنوت الذي يطبعه البنك المركزي في أيدي الجمهور) من 7 تريليون ليرة في تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى 41 تريليوناً في نهاية العام 2021، ما ساهم في زيادة الكتلة النقدية سلباً في مؤشر التضخّم P. وإذا رسمنا منحنى نموّ الكتلة النقدية تجاه قيمة الدولار، سنجد أنّ العلاقة شديدة التلازم، فيكون نمو الكتلة النقدية في بعض الشهور السبب الرئيسي في تدهور العملة.

ثانياً، (i) أسعار الفائدة: لقد زاد الطلب من الخارج على أسهم وسندات خزينة وودائع مصرفية في لبنان، بحثاً عن ربحية الفوائد منذ العام 1997، ما جلب استقراراً وهمياً للعملة اللبنانية تجاه الدولار. إنّ الرفع الاعتباطيّ لأسعار الفائدة في لبنان رفع قيمتها تجاه الدولار الأميركي بشكل اصطناعي؛ فأسعار العملات وأسعار الفائدة ومؤشرات الغلاء كلّها مترابطة.

نعم، رفعوا أسعار الفائدة، فتم تثبيت الليرة بشكل مزيَّف طيلة عقدين، ولكنَّ الأزمة التي ضربت القطاع المصرفي منذ 5 سنوات، أدّت إلى تراجع إقبال الزبائن من خارج لبنان، وبالتالي ضعف الطلب على الليرة، فانخفضت قيمتها.

ثالثاً، (CA) الحساب الجاري في ميزان المدفوعات (current account): هذا الميزان يعكس تجارة لبنان الخارجية وتحويلات الأموال منه وإليه، وحساب لبنان الجاري، كجزء من ميزان المدفوعات الخارجية، يعكس توازن التجارة الخارجية، من واردات وصادرات، ويمكن تغطيته في حال العجز بالتحويلات التي تزيد قيمة الأموال الموجودة بالعملات الأجنبية أو بأموال مودعة في لبنان أصلاً. ويتضمَّن الحساب الجاري الصادرات والواردات والديون الخارجية... 

يحصل العجز في الحساب الجاري عندما يُنفق لبنان الدولارات على استيراد السلع والخدمات أكثر مما يدخله من دولارات جراء تصدير سلعه وخدماته، ما يُضعف العملة الوطنية نسبةً إلى العملات الأجنبية التي يحتاجها البلد لشراء حاجياته من الخارج. وفي لبنان، ولسنوات عديدة سبقت الأزمة، زادت الواردات على الصادرات بمعدّل 3 أضعاف.

لقد تراجعت الواردات من 20 مليار دولار في العام 2018 إلى أقلّ من 9 مليارات، وتراجعت صادرات لبنان إلى الدول العربية منذ العام 2011 بسبب الحرب في سوريا. يعني كلّ هذا أنّ الحساب الجاري لم يعد يشكّل عاملاً أساسياً في ضعف الليرة.

رابعاً، حجم الدين العام G: إذا زاد الدين العام عن حدود معيّنة، فإنه يؤثّر سلباً في العملة الوطنية، لأنّه يمثّل تراكم العجز في موازنة الدولة السنوية (حاجة الدولة إلى تأمين تمويل نفقاتها التي تزيد على دخل الضرائب). وقد تفاقم الدّين اللبناني باستمرار منذ 20 عاماً، من دون أن يؤذي الليرة، إلا أنّ تراجع الرساميل الوافدة ووقف سداد حكومة دياب "اليوروبوند" في آذار/مارس 2020 جعل لبنان أقل جذباً لدخول الرساميل الأجنبية، وبالتالي هبط سعر صرف عملته.

 ولحسن الحظ، إنّ النسبة الكبرى من الدين اللبناني محرّرة بالعملة اللبنانية، والحكومة قادرة بتشريع على أن تقلب قيمة الدين بالدولار من 90 مليار دولار (135 تريليون ليرة بسعر 1500 ل. ل. للدولار إلى أقلّ من 10 مليارات دولار بتسعير الدولار على 20 ألف ليرة)، ولكن هذا يحتاج إلى احتساب خسائر القطاع المصرفي ومصرف لبنان أولاً. ومهما كان الأمر، فلم يعد الدين العام يشكّل عاملاً ضاغطاً على الليرة.

خامساً، (Y) الركود الاقتصادي: قبل عقود، كانت الدول تحدّد قيمة عملتها بما لديها من سبائك ذهب، إلى أن تخلّت الولايات المتحدة في العام 1973 عن مقياس الذهب، فبات الناتج الفعلي مؤشّراً على قوّة العملة الوطنية، فكلّما تحسّن الإنتاج القومي ونما الاقتصاد، زادت قيمة العملة.

 وعندما يدخل أيّ بلد في مرحلة ركود اقتصادي، فإنّ أسعار الفائدة فيه تنخفض، ما يؤذي قدرته على جذب الرساميل الأجنبية ويضعف عملته، وهذا ما حصل في لبنان منذ العام 2011، فانهار ناتجه القومي من 55 مليار دولار في العام 2018 إلى أقلّ من 19 ملياراً في العام 2021.

كان تدهور الليرة معتدلاً نسبياً في الأشهر الأولى من العام 2020، وسببه الركود الاقتصادي الذي دخله لبنان (وباء كورونا والإقفالات وفقدان موسم الاصطياف والتراجع العميق في حجم التجارة وانفجار مرفأ بيروت)، ولكن بعد ذلك، استهلكت العوامل الاقتصادية المؤثّرة في قيمة العملة نفسها، ليسيطر عدم اليقين (uncertainty): 

(1)  اللااستقرار السياسي (عدم تأليف الحكومة وصراع القوى السياسية وتعطيل الحكومة والبرلمان واضطراب الشارع والعلاقات مع الخليج).

(2)  نمو الكتلة النقدية المفرط من 7 تريليون ليرة إلى 41 تريليوناً، لتصبح معادلة قيمة الليرة كما يلي فقط: 
LP = (a1) P +( a2)U+ e.

يتضمّن مؤشر التضخّم (P) أعلاه عامل المضاربة (FX)، إذ تتوقّع السوق الموازية (السوداء) تحرّك العملة اللبنانية نتيجة معلومات معظمها سياسي حالياً، فيشتري المضاربون الدولار توقّعاً لارتفاعه، ويستفيدون من الأرباح المستقبلية.

هذه المضاربة المدعومة سياسياً، فثمّة مؤشرات على أنّ المصارف نفسها ومصرف لبنان تشارك جميعاً في لعبة الدولار. ولذلك، تصبح المضاربة عاملاً يضغط على العملة هبوطاً. وما دام اللااستقرار السياسي مستمراً، فالمضاربة ستستمر من دون سقف يلجمها، وستؤدي إلى جنون أسعار الصرف. 

 (U) عدم الاستقرار السياسيّ: لا يجب التقليل من أهمية الاستقامة في الإدارة العامة ومكافحة الفساد واستقرار البلاد في الانتخابات والمؤسَّسات العامة في تحسين الأداء الاقتصادي، ما يمنح تأثيراً إيجابياً في قيمة العملة المحلية، ولكن في حال لبنان اليوم، الفساد السياسي مسيطر ومتشابك مع الضغوطات الإقليمية التي تريد تطويع سياسة لبنان هنا وهناك لمصالح خارجية. كما أنّ عدم الاستقرار السياسي جعل لبنان أقلّ جاذبية لوفود الرساميل وأضعف عملته.