لبنان ليس الأول... في اعتماد الجيوش الرديفة؟

سبق للبنان بأن اتخذ قراراً بإنشاء ما يشبه الجيوش الرديفة، كـ "أنصار الجيش" في اوائل السبعينات ولم تعمّر هذه التجربة طويلاً بسبب دخول البلد في أتون الحرب عام 1975.

  •  ثمة إجماع لدى بيئة المقاومة على رفض تسليم السلاح.
    ثمة إجماع لدى بيئة المقاومة على رفض تسليم السلاح.

لم تنشأ الجيوش الرديفة في العالم صدفة، إذ لم يلجأ أي شعب أو أي جماعة من شعب ما، إلى اعتماد جيش رديف من دون أن يكون لذلك أسباب اضطرارية، وعادة ما تكون وجودية، وذلك على قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".

وينتفي وجود تلك الجيوش عند إزالة تلك الأسباب، لكون غالبية دساتير دول العالم تنص على اعتماد جيش أصيل للدفاع عنها والذود عن أرضها وشعبها وحفظ كرامتها وسيادتها واستقلالها. باستثناء بعض الدول التي يتضمن دستورها في الأصل جيوشاً رديفة على شاكلة إيران (الحرس الثوري وقوات الباسيج) وسويسرا (جيش الشعب) و"إسرائيل" (جيش الاحتياط). إذ يشكل الاحتياط فيها جيشاً رديفاً، حيث تحشد عدداً كبيراً من جنود الاحتياط وضباطه ما يفوق ضعفي جيشها النظامي. ويتبوأ هؤلاء مراكز قيادية رفيعة كأقرانهم في الجيش النظامي، ويصادف اليوم أن رئيس الأركان من ضباط الاحتياط إيال زامير.

هذا، عدا عن اعتماد الدول الكبرى نظام الشركات العسكرية أو الأمنية في حروبها الخارجية، كما هي حال شركة "بلاك ووتر" الأميركية التي التي انتهكت حقوق الإنسان في العراق بنحو فظيع، "وفاغنر" الروسية التي لعبت دوراً كبيراً في الحرب الأوكرانية، والتي ما زالت حتى تاريخه تضطلع في ذلك الدور تحت اسم "الفيلق الثامن" بعد تمرد قائدها يفغيني بريغوجين الذي لاقى حتفه في ظروف غامضة في آب/ أغسطس 2023، في تمدد النفوذ الروسي في القارة الأفريقية.

بمعنى آخر، لم يعرف العالم جيشاً رديفاً سوى في لحظات التهديد، والحرج الأمني الشديد يوم تحتاج الأمة إلى قوات (شعبية) تمدّها بما يعزز صمودها ويعوّض نقص حماية الثغور بإمساك الأرض وسد الاختراقات المحتملة، ويقاتل غزاة مارقين، وهذا ما يؤشر، بطبيعة الحال، إلى أن الجيش الحكومي لا يكفي، والاعتماد على الجيش الرديف لمدة معلومة، لأشهر أو لبضع سنوات، يكون دوره كقوة تعويضية يسهم فيها المدنيون الذين سيعودون إلى مواقعهم في العمل والإنتاج أو الإدارة أخيراً، ليمارسوا حياتهم الاعتيادية. والرديف هو الجيش الاحتياطي الذي يُستخدم عند الحاجة لحماية الدولة، أو الدفاع عن وجودها، وهذه ليست تجربة تتعلق بشعب أو تجربة بعينها، وإنما هي نتاج تجارب عدة في العالم، أفرزت فصائل وألوية وقيادات انبثقت من رحم الحاجة والنقص والولادات الصعبة للأمم، وهي حالة وقتية تنتفي بعد زوال المسبب.

وتأتي مناسبة هذا الكلام في خضم النقاش الدائر اليوم حول مصير سلاح المقاومة، وماهية الجدوى من بقائه في الوقت الذي ينظر إليه البعض في لبنان بأنه حجر عثرة في تقدم البلد، ومانعاً لتحرير الأرض وإعادة الإعمار، تماهياً، بشكل أو بآخر، مع ما يطمح لتحقيقه العدو الإسرائيلي، الذي يرى أن الفرصة باتت سانحة بعد الضربات القاسية التي تلقاها "حزب الله" في الحرب الأخيرة.

وفي المقابل، ثمة إجماع وإصرار لدى بيئة المقاومة على رفض تسليم السلاح للدولة اللبنانية، أو النقاش به إلا من طريق وضع "استراتيجية أمن وطني" التي أشار إليها رئيس الجمهورية اللبنانية، العماد جوزاف عون، في خطاب القسم. وأكدها الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، في خطابه الأخير.

وإذا ما عدنا إلى مقدمة هذا المقال، التي تناولت تعريفاً وشرحاً للجيوش الرديفة وماهية أسباب الحاجة إليها، نراها تنطبق جميعها على الحالة اللبنانية، ولبنان ليس في حالة تهديد أمني وحسب، إنما منذ نشوء الكيان العبري على أرض فلسطين المحاذية لجنوبه، وهو يرزح تحت تهديد وجودي، وهو الذي لم يُنظر إليه يوماً من الجانب الإسرائيلي وراعيه الأميركي على أنه دولة مستقلة وذات سيادة. أوليس المنظّر للسياسة الأميركية ووزير خارجيتها الراحل هنري كيسنجر، من قال فيه، بأنه "خطأ تاريخي" و"فائض جغرافي"، ودعا كلاً من سوريا و"إسرائيل" إلى تصحيح ذلك الخطأ، وتقاسمه بينهما في السبعينات من القرن الماضي.

وعليه، لا يمكن أن نتخفى خلف إصبعنا، أو نضع رأسنا في الرمال كالنعامة، حسناً فعل الرئيس عون في حصر النقاش بسلاح المقاومة بينه وبين الحزب، لأن ثمة قوى في لبنان لا تفقه معنى وكيفية الدفاع عن السيادة والقرار الحر، ومتسلحة بالتمسك بالجيش وقوات "اليونيفيل" وقرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي، كأداة فاعلة في الدفاع عن لبنان. وكأنها لم تشهد حرب الإبادة على غزة، والحرب الضروس التي شنتها الحكومة الإسرائيلية الفاشية على لبنان واحتلالها للجنوب السوري. وذلك على مرأى من المجتمع الدولي الذي ينادون به لحماية السيادة اللبنانية.

لا شك في أن موقف رئيس الجمهورية حرج جداً، إذ يُواجه ضغطاً دولياً وعربياً ومحلياً يدفع نحو وجوب نزع سلاح المقاومة وحصريته بالجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية من جهة. ومن جهة ثانية، يواجه ضغوطاً من المقاومة وحلفائها على أن تكون الأولوية لفرض الانسحاب "الإسرائيلي" من لبنان وتحرير الأسرى والبدء بورشة الإعمار قبل الحديث عن أي أمر يخص السلاح، بحسب ما ورد في الخطاب الأخير للشيخ قاسم.

ليس كفراً، إذا ما ابتدع اللبنانيون حلاً ما في مواجهة العدو، في ظل جيش صغير، بعتاد وأسلحة وذخائر متواضعة على كل المستويات. فإذا ما أخذنا سويسرا على سبيل المثال لا الحصر، وعلى الرغم من أنها دولة اتخذت طريق الحياد والسلام في علاقتها مع جيرانها ودول العالم، أقرّت قانوناً يتعلق بجيش رديف في القوات المسلحة بعيد الحرب العالمية الثانية، حيث أدرجت تنظيم هذا الجيش الرديف في إطار الخطة الشمولية التي أمر بها نظام الكانتونات السويسرية، والمتمثلة في إعادة تنظيم الخدمة العسكرية الإجبارية، وخلق الإطار القانوني الذي يُمكّن من تجديد  الجيش الرديف وصيانته، وجعله قادراً على دعم الجيش العامل كلما دعت الضرورة لذلك، ومضاعفة عدده وجاهزيته، حتى يكون على استعداد دائم لتلبية نداء الواجب في مؤازرة الجيش في الدفاع عن حوزة الوطن ووحدته الترابية.

سبق للبنان أن اتخذ قراراً بإنشاء ما يشبه الجيوش الرديفة، كـ "أنصار الجيش" في أوائل السبعينات ولم تعمّر هذه التجربة طويلاً بسبب دخول البلد في أتون الحرب عام 1975، وكان عبارة عن شبّانٍ من القرى الحدودية، مستترين وتابعين للجيش ويتقاضون مخصصات مالية، ويحضرون في مراكز متقدمة، ويبلّغون الجيش عند حدوث أي أمر على الحدود من خرق وخلافه من  العدو. وصيغة المقاومة مع بداية التسعينات لم تكن بعيدة عن قرار الدولة اللبنانية، لكون "اتفاق الطائف" ألمح بشكل او بآخر إلى حق لبنان في استخدام الطرق التي يراها مناسبة في الدفاع عن لبنان وتحرير أراضيه المحتلة.

وفي المناسبة، وإثر اعتداءات الجماعات التكفيرية على لبنان عام 2015، وفي تحوّل لافت، دعا رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع آنذاك، إلى "إنشاء لواء من أنصار الجيش اللبنانيّ، يتألّف من أبناء القرى الحدوديّة في البقاع، من الرّاغبين في حراسة قراهم وبلداتهم، ويعمل تحت إشراف قيادة الجيش مباشرة".

خلاصة القول، أثبت خيار المقاومة نجاعته، ولا سيما بعد تحرير عام 2000، حيث استطاع أن يخلق حالة توازن ردع مع الكيان العبري قرابة عقدين ونصف العقد، وتمكن أيضاً من إبعاد شبح التكفيريين عن لبنان، ولا سيما في حرب الجرود عام 2017، حيث قاتل "حزب الله" جنباً إلى جنب مع الجيش اللبناني.

صحيح أن الحزب لم يوفق في الحرب الأخيرة، وتلقّى خسائر كبيرة، لكنّه استطاع أن يوقف تقدم العدو براً، ومَنَعَ استقرار جنوده بأي من البلدات الجنوبية التي دخلها. وبالتالي، أي مقاربة لسلاح المقاومة يجب أن تأخذ في الاعتبار إنجازات المقاومة ما قبل الحرب الأخيرة وخلالها.

كما تدرس الإخفاقات ومعالجتها من خبراء عسكريين بعيداً من كل أنواع التسيي، وأن لا يكون الهدف من الحوار المرتقب نزع سلاح المقاومة، بل الاتفاق على صيغة ما تحفظ قوة المقاومة خلف المؤسسة العسكرية، بالتوازي مع وضع خطة لتسليح الجيش ليكون بحوزته أسلحة ومعدات الحد الأدنى على الأقل، وقرار سياسي داعم، يُمكّنه من منع أو مواجهة الخروقات الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ عام 1948 حتى اليوم.