في محاسن محنة "التدابير الاستثنائية" للرئيس التونسي قيس سعيّد

من الصعب أن تستقر حركة التاريخ السياسي لتونس على مرحلة "التدابير الاستثنائية"، التي ستكون فترة انتقاليّة ممهدة لمرحلة أخرى تليها، قد تفتح الباب إزاء مسار سياسي تشاركي يكون أكثر عقلانية على أسس ديمقراطية.

  • في محاسن محنة
    الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس يزداد عسراً على عُسر يوماً بعد يوم

مساء يوم الـ25 من تموز/يوليو 2021، تقاطر على مختلف شوارع محافظات البلاد التونسية آلاف التونسيين احتفاءً بالتدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيّد، حينما قرّر تعليق عمل البرلمان وإعفاء حكومة هشام المشيشي. 

كانت تلك الليلة حُبلى بالفرح والأمل اللَّذَين وُلِدا من رحم فترات عصيبة عاشها الشعب التونسي بعد الثورة. لم يكن أصل الداء في أبواب الحرية والديمقراطية التي فُتحت على مصاريعها بفضل دماء الشهداء، بل إنّ العبث، الذي طال المسار الديمقراطي من جانب الطبقة السياسية، ولاسيما الأحزاب التي حكمت منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وفي مقدمتها حزب حركة النهضة الإسلامي، كان المحرّك الرئيس لمساندة قطاعات واسعة من الشعب لتلك التدابير الاستثنائية، على الرغم من خطورة منزلقاتها، ولاسيما بشأن العلاقة بالوضع الدستوري.

في الحقيقة، فوز أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية عام 2019، لم يكن نتاجاً لفهم عميق عقلاني للمشروع السياسي للرجل الذي كان واضحاً منذ البداية في أطروحاته، التي تبدو على نقيض كل ما بُني منذ عام 2011.

كان تصويت الناخبين، في تلك اللحظة التاريخية، عقابياً لما بات يعرف بـ"السيستِم"، أي المنظومة التي حكمت على أنقاض نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. منظومة تدثّرت بعباءة ديمقراطية شكلانيةّ جوفاء، فاقدة لأي مشروعية على مستوى المنجزَين الاقتصادي والاجتماعي، علاوة عن السقوط الأخلاقي لمن حكموا حينما نقارن بين وعودهم الانتخابية وممارساتهم السياسيّة، داخل أجهزة الدولة وخارجها، والقائمة على الزبائنية والغنائمية وتغليب المصالح الضيقة على المصلحة العامة.

اليوم، بعد مرور أكثر من 8 أشهر على تلك القرارات التاريخية، التي شكّلت محطة مفصلية في التاريخ السياسي التونسي الراهن، تكاد الفرصة التي أتاحتها التدابير الاستثنائية لتصحيح المسار، بناءً على مراجعات حقيقية تراعي خصوصية التجربة التونسية، تتحوّل إلى كابوس في ظّل إمعان الرئيس سعيّد في المضي قدماً نحو تنزيل مشروعه السياسي الفرداني على أرض الواقع، مستغلاً في ذلك الصلاحيات الواسعة التي بات يتمتع بها في ظلّ حالة الاستثناء.

قد يبدو المشهد قاتماً بصورة سوداوية لدى كل من يُعلي صوت العقل في اللحظة الراهنة بسبب الأزمة المركّبة التي تمرّ فيها البلاد. وضع اقتصادي واجتماعي يزداد عسراً على عُسر يوماً بعد يوم. معارضة مشتّتة فاقدة للعمق الشعبي، كلّ رموزها باتوا في المخيال الجمعي التونسي مجرد جزء من الماضي الذي لا سبيل إلى العودة إليه، ورئيس يحظى بدعم شعبي لا يستهان به، يُمسك بزمام السلطة بقبضة حديدية، لكنّه، في المقابل، يقود البلاد نحو مغامرة سياسيّة لا أفق لها في المدى البعيد، ما دام المسار الجديد، الذي خطّه سعيّد، مرتبط بحالة نفسيّة شعبيّة تدور في فلك شخص، لا ارتباطا بكتلة تاريخية أو بمؤسسات قوّية قابلة للاستمرار بعد رحيل الرئيس الحالي عن سدّة الحكم.

إنّ المتأمّل العقلاني للمحنة الحالية، التي أضحت تكتنف التجربة الديمقراطية التونسية المتعثرة في سياق "التدابير الاستثنائية"، لا يمكن أن ينظر، من زاوية قاصرة وسطحية، إلى سيرورة الأحداث والتطورات ربطاً بما مضى، واتساقاً مع هو آتٍ. 

في المحن التي تمرّ فيها الشعوب والتجارب السياسيّة الديمقراطية، لا يمكن قطُّ الوقوف عند نصف الكأس الفارغ، ففي المعادلة التاريخية هناك أيضاً نصف آخر ملآن بالدروس والعِبَر والنتائج ذات المردودية الإيجابية لمن يروم استشراف المستقبل من منظور أرحب.

وبقطع النظر عن مآلات المسار الذي اختار الرئيس سعيّد أخذ البلاد نحوه، فإنّ للمحنة الحالية محاسن من المهم التمعن فيها.

لا شكّ في أنّ من محاسن المحنة الحالية أنّ مرحلة "التدابير الاستثنائية" ستكون، بصورة أو بأخرى، لحظة فارقة بين طبقة سياسية قديمة تجاوزتها الأحداث، وطبقة سياسيّة جديدة قيد الولادة، هي مجبرة بالضرورة على استيعاب الدرس وتلافي أخطاء الماضي القريب.

ميزة المحنة الحالية أيضاً أنّها ستقود حتماً إلى تشكلّ مشهد سياسي جديد ومرحلة قادمة يمكن أن تقطع مع رداءة العشرية الماضية، بكلّ ما فيها من فساد وسوء إدارة سياسيّة للعملية الديمقراطية. 

من محاسن المحنة الحالية أيضاً اكتشاف خطورة الانزلاق مجدداً نحو حكم الفرد، حتّى إنّ كان بالنزاهة ونظافة اليد الممزوجتين بوهم الطهورية السياسيّة. فمصير الشعوب والدول لا يجب أن يكون رهين اعتقادات أو شهوات سياسيّة لفرد، مهما علا شأنه لا يمكن أن يكون أسمى وأنجع من صلابة المؤسّسات التي تصنع التاريخ، وتصون الحقوق والحريات، وتكرّس الديمقراطية القائمة على خدمة الصالح العام.

في النصف الممتلئ لمحنة حالة الاستثناء، التي تعيش على وقعها تونس منذ أشهر خلت، يمكن أن نستبطن قيمة المحكمة الدستورية كركن أساسي في أي مجتمع يروم بناء نظام ديمقراطي يقوم على المؤسسات الصلبة الدائمة، لا على التأويلات الدستورية المزاجية للأشخاص أو الحسابات الفئوية للأحزاب القصيرة الأفق.

من مزايا محنة حالة الاستثناء أيضاً كشفُ النقاب عن ضحالة مشروع الإسلام السياسي، وتبيان هشاشة العقل السياسي الشعبوي في تونس، على حدّ سواء. فالأوّل بانَ فشله بوجه سافر، كما هي الحال في عدد من دول المنطقة. أمّا الثاني فهو ما انفك يرتطم يومياً بحقيقة الواقع الذي يفيد بأنّ حبل الشعبوية قصير، طال الزمن أو قصر، تجاه تحديات الدولة وانتظارات المجتمع التي لا حدود لها.

في المضمار نفسه، لا يمكن القفز على محاسن أخرى لا تقّل أهمية. فمن مزايا حالة الاستثناء أنّها عرّت الوجه القبيح لنوازع الحنين إلى الاستبداد تحت حجج واهية لدى البعض، لا علاقة لها بفكرة الديمقراطية التي كثيراً ما كانوا يتشدقون بها.

لا نعلم حقيقة إلى أيّ حدّ زمني يمكن أن يصل الوضع الراهن. لكنّ ما نعلمه، انطلاقاً من قراءة عقلانية متأنية لتاريخ البلاد، أنّ في تونس مجتمعاً مدنياً مقاوماً لا يمكن أن يتخلى عن المكاسب التي تحقّقت على الرغم من خيبات العشرية الماضية.

في تونس أيضاً أجسام وسيطة ومؤسسات متأصّلة، في الأوساط الاجتماعية وفي أعماق الدولة، لا يمكن أن تكون بمنزلة شاهد الزور على أيّ انحراف قد يُعيد البلادَ إلى ما قبل الدولة، وقد يُعيد المجتمعَ إلى ما قبل ثورة الحرية والكرامة.

خلال الأشهر، وربما الأعوام المقبلة، قد ينجح الرئيس قيس سعيّد ظرفياً في تمرير مشروعه السياسي الفرداني بالسرعة القصوى، عبر آلية الاستفتاء، بناءً على مخرجات حوار انتقائي يُدعى إليه المقربون ويُقصى عنه الخصوم، مستغلاً في ذلك ما تبقّى له من رصيد شعبي قبل نهاية عهده الرئاسي.

في المقابل، من الصعب أن تستقر حركة التاريخ السياسي لتونس على هذه المرحلة التي ستكون بالضرورة فترة انتقاليّة ممهدة لمرحلة أخرى تليها، قد تفتح الباب إزاء مسار سياسي تشاركي يكون أكثر عقلانية على أسس ديمقراطية تنهل من محاسن "التدابير الاستثنائية"، ومن مساوئ العشرية الماضية، بما فيها من دروس وعِبَر.

في كتابه المترجَم إلى اللغة العربية، تحت عنوان "قواعد لغة الحضارات"، شدّد المؤرخ الفرنسي الألمعي، فرنان بروديل، على أنّ المعرفة التاريخية هي "العنصر الذي من دونه لا يمكن لأيّ وعي وطني أن يتشكّل"، مبيّناً في الآن ذاته أنّ "الوعي الوطني الذي ينطلق من التاريخ هو العنصر الذي من دونه لا يمكن لأيّ ثقافة طريفة أو حضارة حقيقية أن تتشكل".

من هذه الزاوية بالذات، يمكن استشراف أهمية محاسن محنة "التدابير الاستثنائية" في تونس، في المديين المتوسط والطويل، إنّ لم يكن ذلك في أفق زمني غير بعيد.