طوفان الأقصى وجبهات الإسناد (3-3) ما أهمية استهداف العراقيين للقواعد الأميركية؟
العراقيون يتوجّهون إلى رأس الأفعى التي جرّبوها وخبروها باحتلال واسع وقاسٍ ومدمر، ولسان حالهم يقول: "ستعرف واشنطن أن الدعم الأعمى لإسرائيل لا يمرّ من دون حساب".
كنا قد تحدثنا في الجزأين الأول والثاني عن جبهة الإسناد من جنوب لبنان، وأهميتها في العمليات الدقيقة والإصابات المحكمة لجنود الاحتلال ومستوطناته، وعن جبهة الإسناد من اليمن، التي اتخذت طابعاً راديكالياً ثورياً في البحر الأحمر أربك حسابات الأميركي والإسرائيلي.
هنا، نتحدث عن جبهة إسناد ثالثة أدت دوراً في التهديد المباشر للقواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، في سوريا والعراق بالتحديد. ما أهمية هذه الخطوة إستراتيجياً؟ وكيف تخدم الفلسطينيين في الحرب المجنونة الدائرة ضدهم في غزة؟
الوجود الأميركي في المنطقة: ضبابي أم مربَك؟
راكمت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عدداً كبيراً من القواعد العسكرية القتالية واللوجستية في العالم، واستثمرت في البنية التحتية للقواعد العسكرية بمليارات الدولارات، وأصيبت بحمى الأحلاف العسكرية وزيادة الترسانة العسكرية في مخازن الدول المنضمة إلى هذه الأحلاف. ومع بداية الألفية الثالثة، ومع ترويج شعار "الحرب ضد الإرهاب"، عزّزت وجود العناصر البشرية (الجنود) في الشرق الأوسط، تلبية لحروبها في العراق وأفغانستان.
مع تبنّي باراك أوباما سياسة التوجه شرقاً (Pivot to Asia)، بدأ الوجود الأميركي يتخذ شكلاً مختلفاً عن الحرب الباردة (حمّى الأحلاف العسكرية) أو مرحلة "الحرب ضد الإرهاب" (تكثيف حضور العناصر البشرية)، ويمكن القول إن الولايات المتحدة دخلت حينها بقوة مرحلة "عبء التوسع الإمبراطوري"، ولكنها ظلّت مصمّمة على عدم الانسحاب الكلي وعلى عدم التفكيك الكامل للبنية التحتية لقواعدها، وهو الأمر الذي جعل طبيعة الوجود الأميركي أكثر ضبابية وإرباكاً إذا ما قورن بالوجود خلال الحرب الباردة وحروب العراق وأفغانستان.
يمكن دراسة تحولات الوجود الأميركي كمّياً في المنطقة استناداً إلى عدد من المصادر، منها:
1. مركز بيانات القوى البشرية (DMDC): وكالة خاصة بدأت العمل على جمع بيانات القوى البشرية عام 1974م (الجنود، البحرية، الطيارون، موظفو الجيش...). منذ ذلك الوقت، تعتبر هذه الوكالة المرجع الأول للبيانات المتعلقة بأعداد العناصر العسكرية الأميركية الموجودة في أي مكان في العالم.
تصدر هذه الوكالة تقريراً مفصلاً كل 3 شهور. ما يمكن ملاحظته من التقارير الصادرة مؤخراً أنّ الوكالة لم تعد تدرج أعداد العناصر البرية في التقرير أو تضع في الخانة المخصصة (NA- غير متوفر). حدث ذلك للمرة الأولى في التقرير الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2022م. ومن الواضح من تقاريرها أن عديد القوات الأميركية في المنطقة في تراجع مستمر.
2. المشروع الأمني الأميركي (American Security Project): تتناول إصدارات هذا المشروع القواعد العسكرية الموجودة في المنطقة، ومساحتها، وقدراتها الاستيعابية، وتكاليف بنائها وتوسعتها، وتكاليف تشغيلها.
يدرج هذا المشروع بالتفصيل خصائص القواعد العسكرية الأميركية الموجودة مثلاً في البحرين (الأسطول الخامس) ودورها في قاعدة الشيخ عيسى والقاعدة الجوية في المحرّق، وطبيعة الوجود الأميركي في جيبوتي، ودور وحدة البحوث الطبية البحرية في مصر والضفرة وجبل علي والفجيرة في الإمارات، وتمتد الشروحات وصولاً إلى السعودية وسلطنة عُمان وقطر والكويت والأردن.
تتناول التقارير معلومات بشأن مخازن السلاح ، ودور العناصر الاستشارية والتدريبية، ودور أنظمة الدفاع الجوي في الدول المضيفة، وكلها بطبيعة الحال أدوات يمكن توظيفها لأي حرب تريد الولايات المتحدة الدخول فيها في المنطقة.
3. المواقع المتخصصة ووسائل الإعلام الغربية: قد تكون هذه المصادر أقل دقة من المصدرين السابقين، إلا أنها مهمة لغايات إضافة بيانات صحافية، ومنها مثلاً وجود عدد كبير من "المتعاقدين" الأميركيين. هم ليسوا جنوداً بالمعنى الفني، ولكنهم أيضاً ليسوا مدنيين! يدمج موقع "أكسيوس" عدد المتعاقدين مع الجنود في خانة واحدة، ليكون في العراق 2500 عنصر من القوات الأميركية والمتعاقدين، وفي الكويت 13500، والبحرين 9000، والسعودية 2700...
استناداً إلى المصادر أعلاه، يمكن استنتاج التالي فيما يتعلق بالوجود الأميركي في المنطقة:
1. بحسب تقارير بيانات القوى البشرية (المصدر الأول)، فإن عديد القوات الأميركية في المنطقة في تراجع. والسبب في عدم توفر بيانات عن القوى البرية منذ تقرير كانون الأول/ديسمبر 2022 يعود إلى حالة الإرباك (واتخاذ قرارات متضاربة) أكثر من كونها محاولات خلق الضبابية الأميركية.
2. بحسب تقارير المشروع الأمني، فإن العدد الأكبر من القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة ما زال مهيأ لجهة البنية التحتية واستقبال الآليات والجنود في لحظة الحروب، لكنه غير مأهول حالياً بعدد كبير من الجنود.
3. بحسب المواقع المتخصصة ووسائل الإعلام، تطغى ظاهرة المتعاقدين وحسابهم على كوتة "القوات الأميركية الموجودة في الخارج"، الأمر الذي يثير شبهة كبيرة حول طبيعة مهمات هؤلاء المتعاقدين وأدوارهم، والتي قد تتعلق بجوانب أمنية واستخباراتية.
ما أهمية استهداف العراقيين للقواعد العسكرية الأميركية؟
1. تبديد صورة القوة: لماذا لم يجرؤ أحد على ضرب القواعد العسكرية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا إيران بعد استشهاد الجنرال قاسم سليماني؟ وإذا كانت المسألة ممكنة من الناحية الفنية، لماذا لم يجربها أحد؟
هكذا عمل الأميركي على بناء الصورة الذهنية لدى الآخر، على اعتبار أن هذه القواعد محصنة وقوية، ورد الفعل على استهدافها سيكون كارثياً وقاتلاً، لا لشيء إلا لأن ملكيتها تعود لأكبر قوة عسكرية في العالم. تقول "فوكس نيوز" إن القواعد الأميركية تم استهدافها 98 مرة منذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر وحتى السادس عشر من كانون الأول/ديسمبر.
إن اعتياد استهداف القواعد العسكرية الأميركية ينزع عنها "تابو" الاستهداف، لتصبح عملية المشاكسة والمواجهة ضد هذه القواعد مسألة طبيعية، وليست ممكنة فحسب. لا يقتصر تبديد هذه الصورة على القواعد العسكرية في المنطقة، إنما يتمدد جغرافياً ليطال صورة الوجود الأميركي في أي مكان في العالم. بذلك، يكون العراقيون قد أسهموا في تبديد صورة القوة المعمّمة عالمياً للقواعد الأميركية وقواتها.
2. التكلفة المالية: مع القيمة المالية للقواعد العسكرية الأميركية (Asset)، تصبح عملية استهدافها (قبل تفكيكها بشكل كامل ونقلها أو حتى بيعها للدول المضيفة) خسارة اقتصادية للجانب الأميركي. واشنطن مربكة بآلية التصرف بهذه القواعد وتفكيكها أو بيعها... لكن العراقيين غير مترددين أبداً في تعميق حالة الإرباك الأميركي هذه والاستمرار في استهداف القواعد. لا تقتصر التكلفة على الجانب المالي، إنما تطال أيضاً الجانب البشري، ولا سيما مع وجود عدد كبير من المتعاقدين في هذه القواعد.
3. ضريبة دعم "إسرائيل": مع استهداف قواعد الولايات المتحدة الأميركية، تدرك واشنطن أكثر أن تكلفة الدعم الأعمى لـ"إسرائيل" عالية، فإذا تكرّست هذه التكلفة اقتصادياً عبر حملات المقاطعة، وإعلامياً عبر كشف زيف منظومة "الحرية وحقوق الإنسان"، فقد تكرست التكلفة عسكرياً باستهداف القواعد الأميركية.
تنطوي الضريبة والتّكلفة أيضاً على نتائج مؤجلة أو ضمنية، ومن ذلك تهديد الاتفاقيات الأمنية مع عدد من الدول، بما في ذلك الخليج، التي سيتضاعف شعورها (ما بعد أعاصير اليمن السابقة) بأن هذه الاتفاقيات لا تتناسب بنودها مع الميزانيات المخصصة لها.
4. داخل أميركي أكثر اضطراباً: كل ذلك سيدفع باتجاه واقع أميركي داخلي أكثر اضطراباً، ربما يتجاوز مستويات الاضطراب التي هزّت واشنطن من الداخل مطالبة بإنهاء الحرب على فيتنام.
العراقيون يتوجّهون إلى رأس الأفعى التي جرّبوها وخبروها باحتلال واسع وقاسٍ ومدمر، ولسان حالهم يقول: "ستعرف واشنطن أن الدعم الأعمى لإسرائيل لا يمرّ من دون حساب".