طوفان الأقصى تطبيق عمليّ لعقيدة تحرير الأسرى (2)

تنوّعت الدوافع لدى الفلسطينيين التي دفعت إلى تحول عمليات الأسر إلى عقيدة، وجعلتهم يصرّون على تنفيذ عمليات الأسر والتبادل مع الاحتلال، مهما كانت الأثمان كبيرة.

  • كيف شجّع إطلاق سراح الأسرى الشباب على الانخراط في المقاومة؟
    كيف شجّع إطلاق سراح الأسرى الشباب على الانخراط في المقاومة؟

حوّلت حرب طوفان الأقصى عمليات أسر الجنود من ضرورة لدى الفلسطينيين للإفراج عن الأسرى إلى عقيدة في ظل تطور المخاطر المحيطة بالأسرى في سجون الاحتلال ودعوات المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية لتنفيذ عمليات إعدام بحقهم.

لهذا، كانت المسارعة إلى الهجوم الكبير وأسر عدد أكبر ليس له مثيل في تاريخ القضية الفلسطينية، فقد جاءت هذه العملية كتطبيق عملي أدى إلى تحول عمليات الأسر الفردية إلى عقيدة قتالية لدى فصائل المقاومة.

وقد تنوّعت الدوافع لدى الفلسطينيين التي دفعت إلى تحول عمليات الأسر إلى عقيدة، وجعلتهم يصرّون على تنفيذ عمليات الأسر والتبادل مع الاحتلال، مهما كانت الأثمان كبيرة. وقد تنوعت الدوافع ما بين البعد الإنساني والأخلاقي والثوري والتنظيمي والعسكري.

ويعدّ البعد الإنساني من العوامل البارزة التي أثرت في اتجاه المقاومة الفلسطينية إلى عمليات أسر الجنود، فالنظرة إلى الأسرى بدرجتها الأولى إنسانية، فهم ليسوا مجرد أرقام في سجون الاحتلال، بل هم جزء أصيل من الإنسان الفلسطيني، ولديهم تجاربهم الإنسانية وارتباطاتهم الطبيعية من سكن وطعام وأمن وحرية حركة.

ونظراً إلى أنّ عملية الأسر تقيّد الأسرى وتجعلهم أرقاماً يقضون زهرة شبابهم لسنوات طويلة في سجون الاحتلال التي تعدّ مثل القبور، والاحتلال يتعمّد إهانة إنسانيتهم بجملة من السياسات الخطيرة أثناء الاعتقال وفي فترة التحقيق وطوال مدة الأسر، فقد بات البعد الإنساني حاضراً في قضية الأسرى، ويؤثر في الضمير الإنساني لدى جميع الفلسطينيين للعمل بكل الطرق لإعادة إنسانيتهم التي حاول العدو سلبها منهم بعملية الأسر. 

ولفهم أكبر للواقع الإنساني للأسرى الذي يدفع المقاومة إلى الذهاب نحو عملية أسر الجنود لمبادلتهم، يقول الأسير عبد الناصر فروانة: "للحرية مذاق آخر، وللأسرى المحرومين من الحرية حلم يراودهم، يعيش معهم لحظة بلحظة ويكبر في داخلهم، فهو غذاؤهم ومصدر قوتهم وسر بقائهم، سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً، قدامى أم حديثي اعتقال".

هذا حقّهم، لكن "دولة" الاحتلال تُصرّ دوماً على مصادرة هذا الحق، فتشدّد قيودها عليهم، وتُصعّد انتهاكاتها وجرائمها بحقهم، وتصدر أحكاماً خيالية ضدهم، وتتهرّب من استحقاقات "العملية السلمية"، فيبدو الحل السلمي عاجزاً عن تحريرهم، وتُصر على احتجازهم وإبقائهم رهائن في سجونها ومعتقلاتها لسنوات وعقود طويلة من دون مراعاة لحاجات الأطفال والنساء أو لمعاناة المرضى وكبار السن من الذكور والإناث من جرّاء الأمراض التي نهشت أجسادهم واستوطنتهم، وهو الأمر الذي يدفع بعض الفلسطينيين -رغماً عنهم- إلى ما يرونه بديلاً، وقد دللت التجربة على جدواه، وهو خطف وأسر الجنود والمستوطنين الإسرائيليين لمبادلتهم بالأبناء والأشقاء الفلسطينيين والعرب القابعين وراء القضبان وكسر قيدهم وتحقيق حُلمهم بالحرية.

في البعد الأخلاقي، تدرك المقاومة أنّ أهم ما يصنع الإرادة الجامعة لأيّ تنظيم أو تكتل هو ذلك الالتزام الأخلاقي والتعهّد غير المكتوب بين الأفراد وما بين الأفراد والقيادة أو ذلك الالتزام ما بين أفراد الجماعة بالدعم والحماية والالتزام بالدفاع عنهم، وتوفير المُمكنات كافة من أجل تعزيز الإرادة الجامعة، وتفعيل القيم الأخلاقية كرابط يؤسس لقوة الجماعة وقوة التزامهم معززة بالقيم والمبادئ والأفكار الوطنية، ويجعل من السهولة لأفرادها أن يتفانوا من أجلها ويضحوا ويُقدموا أغلى ما يملكون في سبيل الأهداف العامة أو الجامعة: "الفرد للجماعة، والجماعة من أجل الفرد".

لذلك، تحافظ المقاومة على هذا العهد والالتزام الأخلاقي غير المكتوب تجاه مقاتليها، وتعمل على الإفراج عنهم عبر عمليات أسر لجنود الاحتلال ومستوطنيه، وهو الأمر الَّذي عزّز قيم المقاومة وأهدافها، وأجّج النضالات، وعزّز وأعلى من شأن التضحية في سبيل التحرر من الاحتلال، وهو ما يعزّز الإيمان العميق بمواصلة العمل على تحرير الأسرى، وصولاً إلى اكتمال هذا التعهّد بإتمام صفقات يتمّ من خلالها تبيض سجون الاحتلال.

المعطيات من داخل الحلبة السياسية في "دولة" الاحتلال تحتّم على المقاومة انطلاقاً من واجبها الأخلاقي العمل على الإفراج عن الأسرى من سجون الاحتلال، فمع تعاقب حكومات الاحتلال بات ملف الأسرى أحد الملفات الانتخابية في "دولة" الاحتلال، وباتت مختلف الأطراف تقدم مقترحات ضمن برامجها الانتخابية لانتهاك حقوق الأسرى والضغط عليهم للفوز في الانتخابات واستمالة الناخب اليميني، وآخرها المطالبة بإقرار تعديلات قانون إعدام الأسرى وتطبيقه.

أما في البعد الثوري والتنظيمي، فيعدّ الالتزام الثوري تجاه الأسرى في سجون الاحتلال أحد المرتكزات التي دفعت، وما زالت تدفع، المقاومة لتطوير العمل للإفراج عن الأسرى من منطلق المحافظة على "الذات الثورية"، إذ إنّ أحد أهداف المقاومة هو المحافظة على ثورية العمل المقاوم وديمومته. لهذا، إن الالتزام الثوري تجاه الأسرى يحتّم على المقاومة العمل للإفراج عنهم بكل الوسائل لاستمرار العمل الثوري وصولاً إلى التحرير.

في البعد الثوري، شجّع إطلاق سراح الأسرى بالتبادل الشباب على الانخراط في المقاومة، وخلق حالة دافعية نضالية تحوّلت من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، ما هيأ الظروف الذاتية لإشعال المقاومة ضد الاحتلال وتصاعدها، فيما جاءت عمليات أسر الجنود ومبادلتهم بالأسرى عاملاً للتحفيز الثوري للمقاومين وللجماهير، إذ ينظر إليها بأنها انتصار على "دولة" الاحتلال وإخضاع لها، وهو ما يزيد حالة الإيمان بخيار المقاومة، وينعكس زيادةً في الحالة الثورية.

ويعدّ البعد العسكري من أبرز الدوافع التي تدفع الفلسطينيين إلى الذهاب نحو عمليات أسر لجنود الاحتلال، فالهدف في الغالب من العمليات هو الذهاب نحو صفقات تبادل أسرى للإفراج عن الأسرى، وخصوصاً المقاتلين العسكريين الذين أسرهم الاحتلال. هذا الأمر يعدّ من الناحية العسكرية جزءاً من العقيدة القتالية للمقاومة الفلسطينية التي تعطي أولوية للإفراج عن المقاتلين والمقاومين الفلسطينيين الذين التحقوا بركب مقاومة الاحتلال.

ترفع عمليات أسر جنود الاحتلال معنويات المقاتلين في الجبهات، وترفع من روحهم القتالية خلال المعارك والالتحام مع الاحتلال، فمشاهد جنود الاحتلال أسرى تكسر هيبة "جيش" الاحتلال وتضعف صورته أمام المقاتل، وهو ما يجعله أكثر ثقة بقدراته العسكرية البسيطة برغم فارق السلاح والتدريب بين مقاتلي المقاومة ومقاتلي جيش الاحتلال. 

في البعد العسكري، تعدّ عمليات أسر الجنود من أعقد الأعمال بالنسبة إلى المقاومة، نظراً إلى المتطلبات الكبيرة التي يراد من خلالها ضمان تنفيذ العملية بنجاح والسيطرة على الجنود والحفاظ عليهم وإيصالهم إلى وحدات أخرى مكلفة بتأمين ما بعد عملية الأسر.

وتحمل عمليات الأسر حالة تعارضية كبيرة لدى المقاتلين الذين يطلب منهم التّماس المباشر مع الجنود والقتال معهم وجهاً لوجه بصرف النظر عن الظروف الأخرى، إضافةً إلى السيطرة على الجنود والمحافظة عليهم أحياء وإرغامهم على السير مع القوة المقاتلة أو اقتياد الجندي مجبراً.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.