صناعة "وعي الهزيمة"... هل نستمر في المقاومة أكثر؟
ماذا لو أعدنا الوقوف عند الحقائق الاستراتيجية وليس عند شعور اللحظة الراهنة؟ ماذا لو عقدنا المقارنة بين اللحظتين؛ اللحظة السوفياتية واللحظة السورية؟
في مثل هذه الأيام، في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر عام 1991م، أُنزِل العلم الأحمر عن مبنى الكرملين. بعد ذلك اليوم، لم تعد روسيا قلب المشروع الكبير (الاتحاد السوفياتي) وعقله، وإنما دولة مستقلة تلملم جراحها، وتبحث تائهة عن صيغة جديدة لنفسها، ومع جيرانها المستقلين الجدد، ومع العالم.
مع أن حدث الانهيار كان سعيداً في ذاته بالنسبة إلى فرانسيس فوكويوما (صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، إلا أن المصادفة التاريخية لجهة التوقيت كانت أكثر بهجة بالنسبة له؛ عامان فقط فصلا بين مقالته المنشورة عام 1989 ولحظة الانهيار عام 1991م.
في مقالته، يقول فوكويوما إن الليبرالية هي نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، وليس هنالك من داع للبحث في أي نظرية أخرى، وليس أمام التطور البشري أصلاً أي مكان يصل إليه بعدها.
استغلّت واشنطن لحظة الانهيار لتعلن الانتصار السياسي النهائي في العالم؛ وإذا كانت الليبرالية هي نهاية رحلة البحث عن أيديولوجيا عالمية حاكمة (حسب فوكويوما)، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي هو نهاية محاولات التحدي للمشروع الأميركي؛ فكما عليكم التوقف عن البحث في نظريات أخرى، غير الليبرالية، لإدارة النظام الدولي، فعليكم أيضاً أن تتوقفوا عن تحدّي واشنطن سياسياً... عليكم باختصار، أن تتوقفوا عن المقاومة!
لم يفصل وقت طويل بين لحظة إنزال العلم الأحمر عن الكرملين، و تحوّل "الاشتراكية" إلى فكرة مثيرة للسخرية، غير قابلة للتطبيق، طوباوية، مثالية، حالمة، غريبة عن بلداننا، تعارض الفطرة الإنسانية، إلخ.... حدث ذلك من خلال مؤيدين سابقين موغلين في الحماسة للمشروع الكوني السابق، بدّلوا العباءة سريعاً والتحقوا بفكرة فوكويوما، وكثيراً ما كانت عناوين "اليسار الاجتماعي" و "اليسار الديمقراطي" أسماء مستعارة بديلة من عنوان الانسحاب من المشروع الأصلي، ومن هؤلاء من ذهب أبعد من ذلك: "لقد اقتنعتُ الآن فعلاً بالليبرالية ومنظومتها"، ونشأ تيار عارم من المنظمات غير الحكومية، أغدق قيادات يسارية قديمة بالمال الجديد.
لك أن تنتقد التجربة السوفياتية بكل تفاصيلها، ولك أن تحبها أو تكرهها، أن تعدّها تمثيلاً للاستبداد ومصادرة الحرية الفردية أو محاولة جدية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر من قيود الرأسمالية والاستعباد. ولكن، خارج كل هذا النقاش، أسوأ ما عصف بالعقد الأخير من القرن المنصرم هو صناعة وعي الهزيمة، واعتبار النموذج الأميركي قدراً دائماً، لا يهتزّ ولا يُهزم.
بعد أن كانت روسيا تقدم للعالم نموذجاً مناقضاً ومتحدياً للنموذج الأميركي ( الاقتصاد، المسرح، الموسيقى، العلاقات الاجتماعية والأسرة، إلخ...)، تجد نفسها تابعة لمنظومته الثقافية والاقتصادية، ويقف رئيسها الضعيف، بوريس يلتسين، يشرح للروس معنى الاكتتاب وخصخصة المؤسسات ومعنى أن يتحوّلوا إلى حملة أسهم!
روّج أصدقاء فوكويوما حينها فكرة "السلام الروماني"، (المرحلة التي عاشت فيها الإمبراطورية الرومانية استقراراً نسبياً "بسبب غياب المنافسين")، وعندما يغيب المنافسون الدوليون، تستبدّ قوة واحدة في العالم، ولا يجرؤ طرف على مقاومتها، فـ"يستقر العالم"!
وحدهم المشاكسون العنيدون الذين استمروا في فكرة مقاومة الهيمنة الأميركية في العالم؛ كوبا نجمة الكاريبي، وإيران وسوريا وكوريا الشمالية، وفصائل المقاومة في فلسطين وحزب الله في لبنان، ولحق بكل ذلك في نهايات التسعينيات، المشروع الثوري الطموح للراحل تشافيز في فنزويلا.
اعتبر الكثيرون أن مقاومة واشنطن حينها ضرب من "الجنون"، ماذا يمكن أن تفعل في مواجهة وحش هائج، مع غياب القوى المنافسة الأكبر في العالم؛ روسيا ( المحطمة حديثاً)، الصين التي لم تكن القوة الاقتصادية التي نعرفها اليوم، ويكفي أن ندلل على ذلك أنها بدأت تستورد الطاقة لتلبية حاجاتها الصناعية في التسعينيات، الهند لا تمتلك آفاقاً ولا نوايا أصلاً للمواجهة مع الغرب...
شهد العالم بعدها تحوّلات جدية وعميقة، روسيا أعادت تموضعها في النظام الدولي بسرعة، وتحدّت واشنطن في أكثر من ملف حسّاس ( جورجيا/ أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية، البحر الأسود، آسيا الوسطى، سوريا، أوكرانيا)، والصين نمت اقتصادياً بتسارع مفاجئ، وتحدّت واشنطن في تايوان، وباتت نبرتها في الخطاب السياسي تنطوي على تحد عالمي، ومن ذلك ما صرّح به الرئيس الصيني سابقاً "انتهى عصر التنمر على الصين". نشأت تكتلات أمنية واقتصادية ذات وجهة معاكسة للغرب، بريكس وشنغهاي. كل ذلك فتح مجالاً جديداً لفكرة مقاومة المشروع الأميركي في العالم، وإمكانية إنهاء الوضعية الإمبراطورية الأميركية في النظام الدولي.
الآن، وبعد التحوّلات التي حدثت في سوريا، يراهن البعض أن نعود إلى لحظة العقد الجاف ( عقد التسعينيات)، ولو ذهنياً ومعنوياً وإدراكياً، أن نعود إلى ذهنية "نهاية التاريخ"، والشعور العاجز بمواجهة واشنطن، واللا جدوى من مقاومتها، وأن الأسوأ لم يأت بعد، وكما تحوّلت فكرة "الاشتراكية" في التسعينيات إلى نكتة، أن تتحوّل فكرة المقاومة إلى نكتة أخرى، وأن ينعكس ذلك كله على الموقف من "إسرائيل"، وترويج فكرة ضرورة التطبيع معها، وعدم إمكانية المنطقة على مواجهتها.
يراد من اللحظة السورية أن يقال إن روسيا خسرت في سوريا، وبالتالي الاعتماد عليها في مواجهة واشنطن هو وهم، ومحور المقاومة خسر هو الآخر في سوريا، وبالتالي المراهنة عليه في معركة ضد كيان الاحتلال هو وهم آخر.. هذا هو "وعي الهزيمة"، الذي تريد دوائر محددة في المنطقة ترويجه وجعل منطقه سائداً.
ليس من الضروري إنكار حقائق الواقع، وليس من الضروري إنكار أنّ التحوّلات في سوريا سببت خسارة لروسيا، وكذلك لمحور المقاومة، ولكن محاولة إعادة المناخات العامة إلى عقد التسعينيات ( النظام أحادي القطب) فهو الأمر غير الواقعي.
سوريا ليست الاتحاد السوفياتي، ولا اليوم هو بداية عقد التسعينيات؛ ولكن ثمة ما هو مشترك بين اللحظتين في صناعة "وعي الهزيمة":
1. الحماسة السريعة في الانقلاب على المواقف، ولا أتحدث هنا عن المواقف من النظام السابق بمكوناته وأفراده، فهذا آخر ما يهمّ، وإنما المواقف والمعادلات التي كان النظام السابق جزءاً منها، بشكل أو بآخر.
2. الاستنتاجات المتعجّلة بانهيار قوى المقاومة بعد اقتطاع حلقة الوصل الجغرافية السورية، والمطلوب من ذلك تيئيس جمهور المقاومة وإحباطه.
3. بث الفكرة القائلة بأبدية الهيمنة الأميركية والتفوّق الإسرائيلي.
4. الترويج لمبدأ أن الاستقرار في المنطقة يأتي على ظهر التفاهم مع "إسرائيل" والتطبيع معها، ما يعني عودة "محور الاعتدال" إلى صدارة المشهد، سواء في أي حل سياسي في فلسطين أو تنسيق الترتيبات الأمنية في المنطقة.
إن ما حدث في سوريا لا يلغي مسار الانحدار الذي تعيشه الإمبراطورية الأميركية، وما يمكن لذلك أن يؤثر في كيان الاحتلال الإسرائيلي. قد يقول قائل، إن ادعاء الهبوط الأميركي- الإسرائيلي هو شكل من أشكال الإنكار لدى الطرف الآخر. ولكن، ماذا لو أعدنا الوقوف عند الحقائق الاستراتيجية وليس عند شعور اللحظة الراهنة؟ ماذا لو عقدنا المقارنة بين اللحظتين؛ اللحظة السوفياتية واللحظة السورية:
1. في عقد التسعينيات كانت القوة الاقتصادية الأميركية تسيطر على العالم، وكانت تدير مسارات السلع، الصادرات والواردات، وحدثت الموجة الأعلى لبرامج البنك الدولي وصندوق النقد في "التكيف الهيكلي".
لقد كان باختصار عقد إعادة الهيكلة الشاملة لاقتصادات العالم. اليوم، الولايات المتحدة تتعرض لعجز ضخم في الميزان التجاري يكافئ الفائض لدى الصين في المؤشر نفسه ( يصل العجز التجاري في الولايات المتحدة إلى 900 مليار دولار، ويصل الفائض في الصين إلى حدود الرقم نفسه تقريباً). استخدمت الولايات المتحدة العقوبات في التسعينيات في محاولة لتغيير الأنظمة السياسية التي لا تعجبها، ولكنها تستخدمها اليوم، جنباً إلى جنب، مع إجراءات الحماية الجمركية الاقتصادية، لتحاول ضبط مسارات الاستيراد والتصدير وشبكات التوريد، التي تفلت من يدها لصالح الصين، ووصلت بها الأحوال لتهدد بفرض حمايات جمركية مع الجارة كندا، وكذلك المكسيك.
2. عندما انتهت الحرب الباردة، كان للاتحاد السوفياتي قواعد عسكرية تفككت، وللولايات المتحدة قواعد عسكرية وجدت فرصتها في التوسع أكثر، حدث احتلال العراق وأفغانستان، توسّعت القواعد الأميركية في آسيا الوسطى ( قرغيزيا وأوزبكستان)، وتوسّعت في أميركا اللاتينية في ظل خسارة أغلب تيارات اليسار موقع السلطة في بداية التسعينيات، وتوسّع النشاط العسكري الأميركي في القطب الشمالي ودعم شمال أوروبا.
إذا كانت سمة التسعينيات هي التوسع والانتشار، فإن سمة اليوم هي أعباء التوسع والتفكير في الانكفاء، وليس أدلّ على ذلك من التقارير الإحصائية لحركة القوات الأميركية في العالم، وليس أدل على ذلك من الطلب المستمر من أوروبا في مشاركة أعلى من أعباء "الناتو" المالية واللوجستية؛ ومن الجدير بالذكر هنا أن الاتحاد الأوروبي في عقد التسعينيات نسي تماماً فكرة القوة الأوروبية العسكرية المستقلة المطروحة في مؤتمر ماستريخت عام 1992، وقد أعماه وهج القوة الأميركية المرتاحة آنذاك، والقادرة على تلبية المتطلبات العسكرية للقارة الأوروبية، وتفرغها بالكامل للمسائل الاقتصادية والسياسية، والمهمات الأمنية الفرعية التي يطلبها "الناتو".
إذاً، نحن بين لحظتين أميركيتين مختلفتين، بين فائض القوة وعبء توسعها!
3. في بداية التسعينيات ظهرت الليبرالية، كفكرة متوهجة، وزادت جاذبية الاقتصاد الحر والعولمة. انتعشت الأسواق، زادت المداخيل نسبياً مع زيادة ساعات العمل، تم تيسر القروض لبناء المشاريع، نجحت مجموعة من المشاريع الخاصة في ظل حاجة الأسواق الناشئة والمستجدة.
اليوم، أشبعت تلك الأسواق، وخَفَت وهج الفكرة الليبرالية، واتسّعت البطالة بين صفوف الشباب، واكتشفت شريحة واسعة منهم أن مناهج بناء المشروع الخاص التي تلقوها في المدارس لا تعمل في الواقع. وجدت المجتمعات نفسها مكسورة الهوية الاقتصادية والثقافية، وباتت تشعر اليوم بالحنين لمبدأ الرعاية الاقتصادية وحضور الدولة، تشعر بالحاجة إلى منطق آخر في إدارة الاقتصاد.
4. تقاس قوة العملة إجمالاً من خلال مؤشرين: الأول هو نسبة تداولها في التبادل التجاري العابر للحدود (cross border payment)، وكذلك نسبة استخدامها كاحتياطي في البنوك المركزية. ومن الواضح أن حصة الدولار عالمياً في المؤشرين دخلت مرحلة التراجع.
5. في منطقتنا، كانت التسعينيات حافلة بتوقيعين قاسيين، أوسلو ووادي عربة. وبرّرت الأصوات المتحمسة للتطبيع تلك الخطوات آنذاك، أن المنطقة تعيش لحظة قاتمة، بعد تغير النظام الدولي بسقوط الاتحاد السوفياتي، واشتداد العنف الإسرائيلي والقمع للانتفاضة الأولى، وأنه لم تكن حركات المقاومة آنذاك كافية للمواجهة، فمنظمة التحرير كانت في مرحلة الهبوط الحاد، والقوى المقاومة الناشئة لم تكن قد اكتسبت الخبرة الكافية بعد.
إذاً؛ تختلف اللحظة اليوم عن واقع التسعينيات، فالنظام الدولي لا يشهد انتكاسة، حتى وإن تعرّضت القوى الصاعدة فيه لخسارات، ولحظة "طوفان الأقصى" لا تشبه لحظة الانتفاضة بأدواتها، وإن كانت ضحّت بما هو أكثر كمّاً من تضحيات الانتفاضة الأولى. في التسعينيات، لم يكن من السهل ترميم منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً، نظراً لأن أغلب خبرتها كانت في إطار حرب مواقع ضد أهداف لـ"إسرائيل" في الداخل والخارج، أما إمكانية ترميم قدرات حركات المقاومة في المنطقة اليوم فممكنة.
لا يمكن إنكار الخسارات التي تعرّضت لها حركات المقاومة، ولكن ما لا يمكن السكوت عنه، هو محاولة تحويل هذه الخسارات إلى هزيمة مطلقة، والتسليم لبداية العصر الإسرائيلي في المنطقة واستمرار العصر الأميركي في العالم!
قدّمت المقاومة في المنطقة تضحيات جسام، والتفكير الآن في خطوات العمل المقبلة للمراكمة على هذه التضحيات وليس محوها والرجوع عنها.
لا يعمل التاريخ بالتلكؤ والتردد، ولكن بدفعه بقوة إلى نقاط التحوّل والانعطاف الكبرى!