شُكراً دونالد ترامب..!
ترامب الذي وعد خلال حملته الانتخابية بأنه سوف يكون صانع سلام، أصبح منذ انتخابه يتبنّى "لغة البلطجة" وهو ما يمكن أن يدفع بالعالم مرة أخرى للبحث عن التوازن، وينتهي بأميركا إلى أن تصبح معزولة وحيدة.
-
السلوك الأرعن المتعجرف للولايات المتحدة تحت قيادة ترامب لن يطال العرب فقط.
منذ أبصرت عيناي النور وأنا أتابع بِحُزنٍ شديد رهان العرب الرسميين الخاسر، في غالبيتهم، على مواقف الولايات المتحدة بإداراتها المختلفة.
ورغم أنه رهان لم يجلب إلا مزيداً من الارتهان للغرب وأطماعه، إلا أنّ أياً من هذه الأنظمة لم يقم بجرد حساب مع الذات يوقف هذا المسار العبثي من استدعاء الخارج، تدخّلاً أو استقواءً، رغم علمها أنها قوى استعمارية معادية وعدوانية، تكره وتنهب وتستغلّ كلّ شعوب الأرض، ولا تستهدف سوى مصالحها، ووجودها وأطماعها ومشاريعها التوسّعية فى بلاد العرب.
ولا أدلّ على ذلك من حماية ودعم وتسليح "إسرائيل" منذ نشأتها وحتى حرب الإبادة التدميرية التي شنّتها في فلسطين ولبنان، ومروراً بحصار العراق وغزوه، وانتهاءً بنهب الثروات العربية وبذر القواعد العسكرية والهيمنة على الممرات الاستراتيجية... ناهيك عن النهايات الكارثية التي لحقت بالبلاد التي استدعت القوات الأميركية وحلف الناتو أو تلك التي يتمّ تدويل قضاياها.
ورغم عمق العلاقات وتعدّد واتساع المصالح بين الولايات المتحدة وبين الغالبية العظمى من الدول العربية، إلا أننا بتنا ندرك اليوم أنّ الأميركيين لا تعنيهم حرية الشعوب وحقوقها من قريب أو بعيد، إلّا في كونها ورقة ضغط وتفاوض لترويض وإخضاع أنظمة الحكم.
ربما كان أحد أهم الأسباب التي ظلّت تدفع الأنظمة العربية إلى التعلّق بحبال الولايات المتحدة سابقاً أنّ رؤساء إدراتها السابقين، الديمقراطيين والجمهوريين، ظلوا يُمنّون العرب بمواقفهم الكلامية المعسولة التي تعدهم بالإنصاف وردّ الحقوق..!
وحتى قبل وقت قصير كان جزء من العرب يراهن على أنّ ترامب هو رجل صفقات يسعى لإنهاء الحرب وإحلال السلام وربما يكبح جماح الدعم اللامتناهي من الولايات المتحدة لـ"إسرائيل"، ولا شكّ بأنّ تصريحاته ومواقفه الأخيرة "الفظّة" من القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، شكّلت صدمة للمراهنين على أن "يجنوا من ترامب العسل".
فالرجل بلَعِبِه الفظ على المكشوف أزاح باختصار ورقة التوت عن عورات العرب والغشاوة عن عيونهم وتركهم ليواجهوا أنفسهم بالحقائق القاسية الماثلة أمامهم من دون مكياج أو منتجة.
فقد أظهر أنياب السياسة الأميركية الحقيقة من دون أيّ تمويه بعد أن كانت هذه السياسة سابقاً تُغلّف إجرامها بدعوى محاربة الإرهاب أو نشر الحرية والديمقراطية وتخليص الشعوب من الأنظمة الديكتاتوية.
هذا الأهوج يكشف اليوم حقيقة هذا الإجرام من دون أيّ تغليف؛ يضرب هنا ويبطش هناك ويتبلطج كرجل عصابات يُدير مافيا إجرام لا دولة عظمى تسمّي نفسها أمّ الديمقراطية! حيث هدّد الدنمارك لأنه يريد جزيرة غرينلاند، وبنما لأنه يريد قناتها، وكندا لأنه يريد ضمّها إلى الولايات المتحدة باعتبارها الولاية رقم 51، وكولومبيا لأنها رفضت لفترة وجيزة استقبال بضع طائرات محمّلة بالمهاجرين، وجنوب أفريقيا لأنه أصبح مقتنعاً بأنّ حكومتها عنصرية، أي معادية للبيض.
وهدّد بشكل مباشر شريكين أميركيين آخرين، مصر والأردن، لأنه يريد "السيطرة" على قطاع غزة، الأمر الذي يتطلّب تهجير وإعادة توطين مليوني فلسطيني قسراً في بلدان أخرى في المنطقة. كما هدّد ترامب بفرض تعريفات تجارية على شركاء أميركا التجاريين، بما في ذلك كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي.
ورغم أنني كنت وما زلت شخصياً من الذين يؤمنون أنّ عدواً وقحاً فظاً أفضل بكثير من عدوٍ خبيث مستتر بالدبلوماسية والأدب، إلا أننا لم نكن بحاجة إلى كثير عناء وهدر كثير من المقدّرات لنفهم حقيقة مواقف الولايات المتحدة ومعها الغرب المستعمر.
فعلاقة أميركا مع "إسرائيل" لا تستند إلى البعد الاستراتيجي والمصالح المشتركة فقط، ودعمها لمكوّنات "الدولة" الصهيونية العميقة لا ينفكّ، بغضّ النظر عن طبيعة الحزب الأميركي الحاكم.
لكنّ الأمر مع الرئيس ترامب يتجاوز ذلك بكثير؛ وهو الذي يمثّل اليمين الشعبوي ذا النزعة العنصرية التوسّعية التي أكّدتها شعاراتة المناوئة للمهاجرين وتركيزه على شعار "أميركا أولاً، وللأميركيين فقط". وهو ما يتقاطع مع شعارات وأطماع اليمين الفاشي في "إسرائيل" مما يسهّل دعم ترامب لتنفيذ عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وضمّ الضفة وتهجير الغزيين خارج أرضهم، وربما دعمه لاعتداءات "إسرائيل" العسكرية تجاه لبنان وسوريا تعزيزاً لطموح "دولة" الاحتلال وأطماعها التوسّعية.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى مواجهة الحقيقة وليس الاختباء تحت غطاء الشعارات والإدانات التي لا تسمن ولا تغني من جوع أمام الفوقيّة والغطرسة الإمبريالية الأميركية التي تتجلّى بكلّ وضوح بفضل هذا "البلدوزر المعتوه"، الذي فضح المستور وأزال الغشاوة عن أعين الذين كانوا يكابرون ويمنّون أنفسهم بدعوى الصداقة مع أميركا وإذا بهم مكشوفي الظهور "لولّيهم العزيز" ترامب أمام أنياب سياسته السافرة.
لا بدّ أن يكون هذا السفور سبباً في وحدة الأمّة العربية ونهوضها وإدراكها أنّ السياسة لا تعتمد على "حُسن النوايا" بل تعتمد على المصالح التي تحكمها موازين القوى، وهذا يتطلّب تفعيل مكامن القوة التي بيد الأمة العربية وتوثيق العلاقة مع روسيا والصين وائتلاف بريكس واستخدام لغة المقايضة فيما يتعلّق بمصالح أميركا في العالم العربي والإسلامي. ولا شكّ بأننا أيضاً بحاجة إلى الوحدة وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني لتمكين شعبنا من الصمود في هذه المرحلة الحرجة وصولاً لإفشال مخططات ترامب ونتنياهو عبر استخدام كلّ أدوات الكفاح المتاحة القادرة على تحقيق هدف قطع الطريق على أطماع التهجير والضمّ والتهويد والتجزئة الاحتلالية.
وسواء نجحت خطط ترامب، لا قدّر الله، أم لم تنجح، فما قبل تدخّله الفجّ في منطقتنا غير ما بعده، ونرجسيّته وغروره وكِبَره أمام "أصدقائه" من الحكّام العرب ستجعل معركة العرب مع أميركا مباشرة، فلم يعد يجدي الاختباء خلف البيانات والشعارات الفارغة، فقد وضع ترامب الجميع أمام ساعة الحقيقة، حكّاماً ومحكومين.
نعم، لعلّ الفارق بين ترامب والإدارات الأميركية السابقة أنه أكثر وقاحة في التعبير عن توجّهات أميركا تجاه العرب وزعمائهم وقضاياهم، ولعلّ هذا بالضبط ما يعزّز القناعة أنّ أيّ دولة عربية لن تستطيع التصدّي لأيّ مشروع عدائي أو استعماري منفردة، بل تحتاج إلى موقف عربي موحّد قادر على الصمود في وجه انفلات القوة الاستعمارية الغاشمة العمياء.
وبالتأكيد فإنّ هذا السلوك الأرعن المتعجرف للولايات المتحدة تحت قيادة ترامب لن يطال العرب فقط بل يهدّد بسحق تراتبية المنظومة الدولية ومؤسّساتها وقد يحوّل الولايات المتحدة من قوة "خيريّة" كما تروّج لنفسها، إلى قوة مُهدِّدَة.
فترامب الذي وعد خلال حملته الانتخابية بأنه سوف يكون صانع سلام، أصبح منذ انتخابه يتبنّى "لغة البلطجة" وهو ما يمكن أن يدفع بالعالم مرة أخرى للبحث عن التوازن، وينتهي بأميركا إلى أن تصبح معزولة وحيدة.
وهذا ما حذّر منه تحليل نشرته وكالة "بلومبرغ" للأنباء، إذ أكد أنّ سياسات الرئيس الأميركي ترامب من شأنها أن تدفع المزيد من الدول إلى تشكيل شبكات وتحالفات ضدّها. وأضاف التحليل الذي كتبه أندرياس كلوث، الذي يغطي الشؤون الدبلوماسية الأميركية وقضايا الأمن القومي، أنّ الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب تتحوّل من قوة خيرية إلى قوة مُهدِّدة، وتابع أنه بسياسة "أميركا أولاً"، التي يمارسها في ولايته الثانية، سوف تتحوّل، وربما عاجلاً وليس آجلاً، إلى أميركا المعزولة أو حتى المكروهة.
وأشار الكاتب إلى أنّ السبب، وفق تقديره، يرجع لوقوف أميركا إلى جانب الهيمنة الخيرية وليس العدائية، حيث ضبطت طواعيّة قوتها ونشرتها لحماية نظام تجاري مفتوح، ومعايير القانون الدولي، فيما أصبح يُعرف باسم النظام الدولي القائم على القواعد التي أشعرت دولاً أخرى، وخاصة الصغيرة منها، بأمان أكبر تحت القيادة الأميركية، وأرادت الانتماء إلى هذه الشبكات التي تقودها الولايات المتحدة.
وافترض كلوث أنّ الدول لا تُشكّل تحالفات جديدة ضدّ دولة مثل الولايات المتحدة إلا عندما تصبح تلك القوة عظيمة وخطيرة، مبيّناً أنّ أفضل تسمية لتفسير العلاقات الدولية ليست توازن القوى، بل توازن التهديد، وأميركا في عهد ترامب أصبحت تشكّل تهديداً، ولا ينبغي لأحد أن يُفاجأ عندما يبحث العالم مرة أخرى عن التوازن، وتنتهي أميركا إلى أن تصبح وحيدة منبوذة.