دوافع وتداعيات العملية العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية
استراتيجية حسم الصراع تهدف إلى فرض السيادة الكاملة على الضفة الغربية المحتلة والقضاء على مجرد الأمل للفلسطينيين بشأن إنشاء دولة فلسطينية، الأمر الذي سيبقى يدفعهم إلى المقاومة ومهاجمة "إسرائيل".
بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية عدوانية على الضفة الغربية المحتلة تركزت في شمالها، ووصفت بأنها عملية واسعة، وستستمر عدة أيام، وربما أكثر، وفقاً للتطورات الميدانية. وأطلق "جيش" الاحتلال على العملية اسم "المخيمات الصيفية"، في إشارة إلى استهداف قواته المخيمات الفلسطينية.
وحتى كتابة هذه السطور، تركزت العملية على شمال الضفة المحتلة، لا سيما في منطقتي جنين وطولكرم، وتصدت مجموعات المقاومة الفلسطينية للعدوان بما لديها من أسلحة خفيفة وعبوات ناسفة مصنعة محلياً، وارتقى عدد من الشهداء، وأصيب العشرات، وقامت قوات الاحتلال بتدمير واسع للبنية التحتية وحصار لعدد من المستشفيات والمؤسسات المدنية، وانتشرت شائعات عن عزم الاحتلال على إجلاء المواطنين والسكان، على غرار التكتيك القتالي الذي اتبعه الاحتلال في حربه على قطاع غزة.
وترافقت تلك الشائعات مع تصريح لافت لوزير خارجية الاحتلال يسرائيل كاتس يدعو فيه إلى تكرار تجربة إجلاء المواطنين الفلسطينيين أثناء العمليات العسكرية في الضفة، كما حدث في غزة.
القرار الإسرائيلي بإجراء عملية بهذا الحجم له بعدان، الأول تكتيكي والآخر استراتيجي، ففي البعد التكتيكي جاء القرار بعد ارتفاع مستوى عمليات المقاومة في الضفة وزيادة عدد ونوع العمل المقاوم وخشية الاحتلال من الخطر المتزايد للتصنيع المحلي للعبوات الناسفة، كما تسارعت استعدادات الاحتلال لشن العملية العسكرية بعد محاولة تنفيذ عملية استشهادية وصل منفذها إلى "تل أبيب" المحتلة ونجح في التخطيط والوصول إلى الهدف، بيد أن العملية فشلت من حيث التنفيذ، الأمر الذي عزز مخاوف الاحتلال وقيادته السياسية والأمنية من أن تتحول الضفة المحتلة إلى جبهة هجومية تنجح فيها عناصر المقاومة في استعادة زخم العمليات الاستشهادية في الداخل المحتل.
في السنوات الأخيرة، شهدت ساحة الضفة الغربية المحتلة تطورات مهمة على صعيد العمل المقاوم، وأخذت شكل الموجات التي تتصاعد تارة وتتراجع تارة أخرى، وأفرزت الحالة خلايا عسكرية مهمتها الأساسية الدفاع عن المخيمات، بيد أنَّ المواجهات مع قوات الاحتلال لم تكتفِ بحالة الدفاع والتصدي، وما لبثت أن تحولت لتشمل التخطيط والهجوم على أهداف للاحتلال داخل الضفة وخارجها، كما لجأت تشكيلاتها المختلفة للتصنيع المحلي إلى مواجهة القوات الإسرائيلية المقتحمة، ونجحت في إيقاع خسائر في صفوف قوات الاحتلال وآلياتها المتوغلة، وقام الاحتلال بتنفيذ عمليات اقتحام عسكرية متكررة على عدد من مخيمات الضفة ومدنها، ولا سيما شمال الضفة المحتلة، بحجم أصغر من العملية الجارية باستثناء العملية ضد مخيم جنين قبل نحو عام، والتي أطلق عليها اسم "بيت وحديقة"، ولا يعرف حتى الآن مدى وحجم واتساع العملية، وهل يخطط الاحتلال لتوسيعها بشكل متدرج ومتصاعد لتشمل مختلف مدن الضفة المحتلة ومخيماتها؟
على الرغم من أن حجم القوات المشارك في العملية ونوعها قد لا يشير إلى عملية واسعة وممتدة، وأنها لا تقارن حتى الآن بالعملية العسكرية عام 2002، التي أطلق عليها الاحتلال اسم "السور الواقي"، فإنَّ الهدف التكتيكي للعملية الجارية قد يكون تمهيداً واستعداداً لعملية عسكرية أكبر حجماً أو تكون العملية الجارية نوعاً من المناورة والمحاكاة لما يخطط له الاحتلال على المستوى الاستراتيجي للضفة الغربية المحتلة في ضوء دعوات حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية.
بعد السابع من أكتوبر، تعززت نظرية حسم الصراع التي يتبناها اليمين الصهيوني بدلاً من إدارة الصراع. وعندما تولى بتسلئيل سموتريش موقع وزير داخل وزارة الأمن الاسرائيلية وأصبح المسؤول الفعلي عن الضفة الغربية المحتلة، بدأ الترويج لرؤيته في حسم الصراع، بيد أن أحداث السابع من أكتوبر عززت مخاوف قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، كما استقطب سموتريش لرؤيته أقطاب اليمين الصهيوني.
إن استراتيجية حسم الصراع تهدف إلى فرض السيادة الكاملة على الضفة الغربية المحتلة والقضاء على مجرد الأمل للفلسطينيين بشأن إنشاء دولة فلسطينية، الأمر الذي سيبقى يدفعهم إلى المقاومة ومهاجمة "إسرائيل" عسكرياً وسياسياً، فيما يهدف اليمين الصهيوني إلى قتل الأمل الفلسطيني عبر الضم والتهجير والإبادة.
وتجدر الإشارة والتذكير بأنَّ الاتفاقيات الائتلافية مع حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو نصَّت على أن "لليهود دون غيرهم الحق غير القابل للتصرف في كل أراضي فلسطين من البحر إلى النهر، وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية من دون تحديد جدول زمني".
وقد بدأت مساعي الضم في الفترة التي تولى فيها نتنياهو الحكم عام 2020 في إبان رئاسة دونالد ترامب الولايات المتحدة، عندما أعلن ما سُمّي "صفقة القرن" التي نصت على ضم أكثر من 30% من الضفة الغربية إلى الكيان، والتي تشمل جميع المستوطنات، وتشمل أراضي في محيطها وغور الأردن ومدناً فلسطينية في عمق الضفة، وتنص على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على قطاع غزة وأجزاء متناثرة في الضفة الغربية، فيما يسعى سموتريتش، في إطار خطته لحسم الصراع، لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتكثيف الاستيطان اليهودي فيها، وحلّ السلطة الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين إلى الخارج. وجاء في خطته التي نُشرت عام 2017 "أن الفلسطيني المستعد للتسليم بوجودنا هنا فليُسلّم، ومن يُرِد المغادرة فليُغادر، ومن يَختَر القتال فعليه انتظار الحرب".
على الرغم من أن توجهات حكومة الائتلاف اليميني وحكومة اليمين الفاشية تجاه حسم الصراع وضم الضفة الغربية المحتلة بدأت بهدوء باتفاق بين نتنياهو/سموتريتش منذ تقلدها قبل نحو عامين، فإنَّ أحداث السابع من أكتوبر ستدفع باتجاه اتخاذ خطوات أسرع، الأمر الذي لن يؤدي إلى حسم الصراع لمصلحة الاحتلال أو تصفية القضية الفلسطينية، بل سيؤدي إلى تفجير الصراع، وسيختار الشعب الفلسطيني تصعيد المواجهة مع الاحتلال وقطعان المستوطنين.
وبدلاً من تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم وإجبارهم على الهجرة ومغادرة فلسطين، ستتحول حياة الاحتلال والمستوطنين إلى عذاب لن يصمدوا أمامه، لأن الجَلَد الفلسطيني والقدرة على الصمود والتحدي أمام أدوات البطش والقتل، يقابلهما عدمُ قدرة المستوطنين وجيش العدو الذي يحميهم على تحمل الاستنزاف وعمليات المقاومة التي ستتصاعد وتأخذ أشكالاً متعددة.