خلفيّة إجراءات الرئيس قيس سعيّد وحقيقة المواقف الدوليّة

كلّ ما وقع في تونس من مآسٍ طيلة 10 سنوات ناتج أصلاً من ادّعاء ثوري مزوّر، إذ لم ينشغل الناس باستكمال مهمّات الحركة الثورية الذاتية.

  • الفصل الثمانون هو فصل وجودي في الأصل، وفصل أمن قومي بامتياز في الحالات الاستثنائية
    الفصل الثمانون هو فصل وجودي في الأصل، وفصل أمن قومي بامتياز في الحالات الاستثنائية

يتوقَّع الرئيس قيس سعيد منذ مدة استحالة أيّ تغيير سياسي وقانوني متعلّق بالسلطات الدستورية العمومية المنتخبة وعلاقتها ببعضها البعض، وهو يعرف أنّه يفتقد إلى آلية دستورية واضحة من أجل ذلك. ولذلك تحديداً، كان يبحث على الدوام عن ظرف أو سياق مناسب لإعادة طرح ما يراه مناسباً، إذ قام في الحقيقة بالاعتماد على الفصل المفصلي في الدستور التونسي، من دون أن يبرز حقيقة ما يفكّر فيه بالشكل المطلوب.

الفصل الثمانون هو فصل وجودي في الأصل، وفصل أمن قومي بامتياز في الحالات الاستثنائية، حوّله الرئيس إلى فصل "ثوري" لتعديل المسار الثوري وتصحيحه وفق وجهة نظره؛ ففي خلفيته القانونية - الحقوقية والفكرية والسياسية، يعتبر أنَّ الشعب هو قوة وسلطة مؤسِّسة (بكسر السين) أو تأسيسية دائمة وعليا، وهي نظرة فلسفيّة نتبناها منذ زمن بعيد، إنما برؤية أخرى، وضمن توجه سياسي آخر، وهو بهذا المعنى، أي الشعب، صاحب السيادة وصاحب "الثورة" إذا شئنا. 

بهذا المعنى، هو يرى أن الوضع العام الذي يشهده الشعب التونسي وضع ثوري لا تنطبق عليه إلا حالة ثورية تأسيسية متجدّدة منذ العام 2011. وعليه، فهو يحايث تلك اللحظة ولا يفارقها، ولا يعتمد على الفصل المذكور أعلاه إلا كمدخل سياسي - دستوري - استثنائي، وليس بمقتضى دستورية هذا الفصل العادية أو الطبيعية، ويرفض توصيف ما يجري بـ"الانقلاب"، ويذهب في تبرير ذلك إلى درجة اعتبار ضرورة بقاء مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائمة مجرد عبارة سياسية أو حتى إنشائية. 

وقد توضَّح ذلك أكثر عندما أصدر بلاغاً خاصاً بتعليق عمل بعض المؤسّسات والإدارات والسلطات وإعادة تنظيمها يوم أمس مع تجميد العمل النيابي، ما يعني بشكل واضح جداً أنَّه قام بتعليق الدستور تعليقاً جزئياً ومؤقتاً، حتى تتسنّى له إعادة تنظيم السلطات العمومية. 

وقد قال ذلك حرفياً حتى يتمكّن من تنفيذ بعض ما يريد، وكأننا في العام 2011، وفي شبه دستور مصغر من باب واحد كبير وروح واحدة ممتدّة، يرفق بأوامر أو مراسيم واتخاذ إجراءات وتدابير معيّنة، وهذا تماماً ما طرحناه وطلبناه منه سابقاً عبر الصحافة المكتوبة في مقاربات منشورة، وبالاعتماد على تعليق العمل بالدستور وتفعيل ما تعطّل منه في الوقت نفسه للمرور إلى مراحل أخرى، ومن باب جزئية وحرفية الخطر الداهم – الواقع، كما يقول، وبهذه العبارة نفسها التي طرحناها هكذا سابقاً.

في هذه الحالة، لا فائدة طبعاً من إطلاق توصيف "انقلاب"، بما أنه يعتبرها حالة ثورية في عقله الباطن، ضمناً لا تصريحاً، باعتبار أن التوصيف الفعلي هو خلع ومنع أو نزع سلطة أو تجريد بعض الهيئات والمؤسَّسات الدستورية من سلطتها التي يراها غير شرعية وغير مشروعة أو فاقدة للشرعية أو للمشروعية.

أما بخصوص الخطر، فهو يتلخَّص في الحالة الوبائية وخطر الموت، وفي حالة تفكّك الدولة أو انحلالها وخطر انهيارها، وتداعيات ذلك على الوطن والشعب وحقوقه وحياته. وقد برهن على ذلك وهو يستعرض وجهة نظره أمام مجموعة من المنظمات الوطنية. ولاحت ملامح نظرته قبل ذلك بيوم، عندما نزل فجراً إلى وسط العاصمة، وصرح بما يفيد مطالب الثورة ومهماتها والطريقة الدستورية والقانونية البديلة إلى ذلك. هذه هي في نهاية التحليل الخلفية الفعلية الخاصة به. أما نقاش السياق والتوقيت ومدى جدية أو نجاح ذلك من عدمه، فهو بحث آخر.

هذه الذهنية هي التي سادت إذاً طوال اليومين الماضيين كلّ ما قام وصرّح به الرئيس قيس سعيد، غير أن المناخ العام ليس مناسباً بالضرورة لتحويل أي لحظة وأي فرصة إلى مناسبة للتذكير بوجهة نظره المتعلقة بالنظام السياسي والانتخابي، وهو لم يفوت لحظة نزوله إلى الشارع لإعادة التأكيد على طريقة الحكم من القاعدة التي يكرّرها دائماً مرفقة بجدل كبير، من دون أن يقول صراحة كيفية حصول ذلك، والآلية الديمقراطية التي تضمن الآراء الأخرى المختلفة معه، وتضمن عدم احتكاره وتفرّده أو فرضه لأمر واقع ما.

نعم، هو يسمّي الإجراءات الّتي ينفذها قرارات، ولكنها ليست في الواقع تغييراً، وليست حلولاً متفقاً عليها، ويمكن وصفها بالديمقراطية أو القول إنها نابعة من الشعب، إلا إذا وصفنا كلّ تهليل شعبي أو كلّ ما يدور في ذهن فئة من الناس نتيجة الاحتقان الشّديد والسّخط الشديد على منظومة الحكم أو الطبقة السياسية الحاكمة، وهو جزء منها، والناس حقاً على حقّ ظلماً وقهراً، إلا إذا سمينا ذلك إذاً إرادة شعبية أو تأييداً أو حتى حقاً ديمقراطياً روحياً، ولكن ليس بمعنى الإجراء الديمقراطي النابع من وعي عام وإرادة عامة، وإنما كأهواء مؤيدين أو موالاة قد يتم تحويلها إلى مجرد إجراء شكلي عن طريق الانتخاب أو الاستفتاء، يطلب فيه تصديق الناس وموافقتهم على ما يريده الرئيس، كما لو أنه كل ما يريده الشعب، أو كما لو كان ما يريده الشعب هو ما يريده الرئيس، وهو بداهة غير متطابقة مع كل الواقع ومع كل الحقيقة، فضلاً عن الآراء الأخرى والأطروحات الأخرى التي لم تناقش تماماً، مثلها مثل رأي الرئيس، لا في إطار حوار، ولا في إطار اتفاق على أسس جديدة للانتخاب أو الاستفتاء.

أمّا في ما يتعلّق بالتدخّل الخارجي، ولنقل فقط المواقف الخارجية، ولن نبحث هنا موقف روسيا والجزائر وغيرهما، وإنما على وجه التحديد موقف كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ها هنا ظهر وتكثّف خطاب الرئيس في لقاءات وتصريحات جديدة متتالية يوم أمس، شدد وكرر فيها كثيراً عبارات من قبيل تشبّثه بـ"التمشي الدستوري" والعودة إلى السير الطبيعي والتأكيد على احترام الدستور وقوانين الدولة واحترام الحريات والحقوق، ومن بينها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية والحقوق الإنسانية والمدنية والمواطنية، فضلاً عن تراجعه بخصوص مسألة السلطة القضائية وقلقه الواضح في ما خصّ حرية الصحافة والإعلام، وسوى ذلك مما يتعلّق برجال الأعمال والمسؤولين الحاليين والسابقين، والتأكيد على المصالحة مع الشّعب (وهذا تأكيد آخر على خلفيته التي عرضناها)، وعلى المحاسبة في إطار القانون وغير ذلك. 

يفهم من كلّ ذلك أن ضغطاً دولياً وقع من دول ومنظمات دولية وقوى وطنية محلية أيضاً قلّصت حماسة الاندفاع، وفرملت أي انزلاق، وأراحت العمل العسكري والأمني، وحتى الحركة الطبيعية للناس، وتم إقناع الرئيس أو اقتنع بنفسه مع رئيس البرلمان ورئيس الحكومة بأنه لا فائدة من متاعب الفراغ ومتاعب الشارع والاستحالات أو الاستعصاء السياسي والقانوني والمخاطرة بالمغامرات. 

هبَّ الجميع بسرعة إلى لغة التهدئة والعمل على استقرار الأوضاع وإقناع المتحمسين من الشّعب بالتريث والانتظار، وبدأ التبريد وإطلاق أفكار التطمينات والضمانات بعد التقييم والتقدير والتحليل من مختلف الأطراف الدولية، وانتهت حركة الرئيس إلى استعادة ما يراه مقامه الشعبي ومكانته في سبر الآراء وثقة أنصاره الذين كانوا يمارسون عليه ضغطاً لا فائدة في تفاصيله، وأيضاً الغضب الشّعبي العارم المحقّ من كل شيء، وأصبح ما قام به بعثرة للأوراق لتجاوز الانسداد. ستثمر بعض الأمور البسيطة في الوقت الحاضر من دون أن نتحدَّث عما هو أبعد وما هو ممكن.

من المعلوم أنَّ هناك نفوراً عند بعض الدول، وخصوصاً الأوروبيَّة، وسنستثني أيضاً الجانب الإقليمي، سواء المحور التركي - القطري أو المحور السعودي - الإماراتي – المصري، فسياساتهما معروفة تقريباً، وهو نفور من هلامية نظرة الرئيس، والتي تعزّزت هذه الأيام، إلا أن الاتحاد الأوروبي، وهذا مؤكّد، يريد نظاماً رئاسياً معدلاً في تونس، وهو أمر يتطلّب عدة ترتيبات إضافيّة يدركونها ويدركها الرئيس، بل ويتّفق معهم جزئياً في ذلك، ولكن هذه الأثمان والسياسات والترتيبات تتطلب وقتاً إضافياً للتوضيح بالكامل، وليس بالضرورة علناً، وهو ما يفسر النزوع إلى عدم المجاهرة الخارجية بالحكم القطعي على ما أراد الرئيس قيس سعيد فعله، وإبراز نوع من الحياد الذي نعتقد أنه مزيف وأنه نوع من عدم الانحياز الظاهر إلى الرئيس وإلى رئيس البرلمان ورئيس الحكومة، وذلك لا ينطبق على الأوروبيين فقط، إنما ينطبق أيضاً على أميركا، بقطع النظر عن الاتصالات التي جرت مع الجميع، كما هو متوقّع.

في كلِّ ذلك، عادت لغة دعم تونس وتجربتها ومساعدة الشعب التونسي وإلى ما هناك من أدبيات مزعومة، في شبه إجماع دولي على الاستفادة من كل الأطراف المتصارعة في تونس من أجل تونس المفيدة لهم بحسب تصورهم، وعدم حسم مشهد سياسي جديد، والاكتفاء بضمان مصالحهم وضمان رعاياهم، وضمان عدم خروج البلاد عن النص المدرسي أو عن مدرسة الديمقراطية الليبرالية الغربية الفاسدة المرفقة بسياسات التبعية والإرهاب والفساد والتطبيع... ريثما يكون الرئيس ورئيس البرلمان ولاعبون آخرون في جهوزية تامة لتقبّل تبديل الأثواب وفق ما هو مطلوب.

لقد اختبر جميع الأطراف في الخارج والداخل المزاج الشعبي والمزاج الدولي، وتأكَّد مرة أخرى أن منظومة الحكم المستمرّة الآن لعشر سنوات تبقى مدانة وطنياً بالكامل فشلاً وهلاكاً، والرئيس أيضاً، غير المدان بجرائم، تبين أنَّه غير منزعج من الوعي السياسي المزيف الّذي يحمل بعضه ويصدر بعضه للناس، وكذلك الوعي القانوني الزائف عموماً، والذي انكشف لكونه سرعان ما اغترّ بالهبة الدولية المحسوبة لمساعدة تونس في مواجهة وباء كورونا، وكذلك بالمستجدات الإقليمية والدولية، وهذان بحثان آخران أيضاً.

ومع كلِّ ذلك، يبقى نظام الحكم والنظام السياسي والانتخابي مشكّلاً في تونس، ولكن أهم من ذلك نظام القيادة ومنهج القيادة الوطنية السيادية وتوجهاتها وبرامجها. ربما يتوجب علينا الآن التفكير في ضرورة استكمال الهيئات الدستورية الضرورية، وعلى رأسها المحكمة الدستورية المعطّلة، وكذلك تفعيل ما جاء في الدستور من حقوق للشعب في برامج محددة للتنفيذ، وأيضاً عدم إغفال ضرورة إنجاز الانتخابات الجهوية والأقاليم والعودة إلى ملء الفراغ حتى يتسنى ذلك.

نحن نعتقد أنّه تم ويتم احتواء الموقف وتبريد الأمور من الخارج، لضرورات لاحقة سنأتي عليها في وقتها، وأهمها القمة الفرنكوفونية التي ستنعقد في تونس بعد أشهر قليلة، ومناورات "الأسد الأفريقي" التي ستحتضنها تونس في السنة المقبلة في نسختها الثامنة عشرة.

من المؤكّد أن هذه الموجة ستؤدي إلى نتف بعض الريش البسيط في جسد "النهضة" وآخرين معها، حتى لا تكون حركة الرئيس عملية بيضاء، ولكنَّ التغيير، وليس مجرد الضغط لمحاسبة البعض، بعيد حتى الآن، ولن يتم إلا بواسطة الانتفاض لاحقاً، حالما يتم رفع حالة الحظر العام السياسي الذي ينفذه الرئيس بإجراءات جديدة خاصة بالطوارئ وحظر التجول وتعليق العمل في بعض المؤسَّسات.

إننا نرى أنَّ الجميع بصدد النزول من الشجرة. وقد تعقدت الأمور أكثر، بما فيها على الرئيس، وقد تحمل انفراجاً. صحيح أنه قادر بمقتضى طبعه على المزيد من التصعيد، ولكن لا جدوى من فرض ما يراه على الجميع. صحيح أن التنفيس سيقع، وأنَّ رفع نجاعة العمل الصحي سيقع، ولكن للعودة إلى السير الطبيعي كلفة، ولعدم العودة أكلاف.

 إنّ كلّ ما يهمنا منذ البداية هو الدفع نحو ضرورات الإنقاذ الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وهذا ليس ممكناً الآن عند الرئيس. أما الأفق السياسي السيادي، فلا يجب أن ينفرد به أبداً. سيستمرّ الرئيس بمحاولات إقناع الناس بوجهة نظره حول النظام السياسي، وهذا كلّ ما يهمه في الدرجة الأولى، إلى جانب وقف بعض الهدر والنزف.

ما عدا ذلك، لن يتّضح إلا خلال أشهر. وهنا، على القوى المؤمنة بالعمل الثوري منذ عقود أن تجهز رؤيتها واستراتيجياتها لمجابهة أي محاولة لتمرير أي شيء مجدداً بالقوة، ومن دون إرادة فعلية من غالبية من لهم رأي آخر بآلية انتخابية أو استفتائية أو بالفرض الفوقي. لا نتحدث هنا عن العواطف "الانتفاضيّة" المحقة الراغبة في التخلص من "النهضة" ومن معها بأيّ حال، الذين آن أوان وضع حدّ لتخريبهم المتواصل للبلد ودورهم في أذية وطننا وشعبنا وأمّتنا.

الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي هو الضمانة الوحيدة التي يمكن أن توحّدنا، ومجلس الأمن القومي هو الحلّ في الوقت الحاضر. هذا ما نعتقده فعلاً، غير أننا نريد أن نعاود التوضيح لإخوتنا في كل مكان في وطننا العربي وأمتنا العربية والإسلامية، بما في ذلك شعبنا هنا في تونس، وأحرار العالم أيضاً في الإنسانية جمعاء، أنّنا في مأزق حقيقيّ وكبير في تونس، ويجب التفكير فيه بجدية وعقلانية، لا على طريقة جماهير ترامب الفاشية، ولا على طريقة جماهير "داعش" الإرهابية، بل على طريقة تقاليد وقيم وروح الجماهير الثائر الوطنية والوحدوية.

 لسنا أمام ثورة مدنيّة أو عسكرية. ومع ذلك، نستطيع التدارك، ونستطيع أن نتصرّف بشكل ثوري ونكفّ عن منطق القطيع الانتحاري بلا أيّ هدف مؤسّس على استراتيجية كفاح. وقتها، يعرف الكلّ طريقه وطريقته وغايته، ويتم تحويل الخطر الكبير الذي وضعنا فيه بإرادتنا ومن دون إرادتنا إلى فرصة حقيقية للإنقاذ. إنَّ من يتدخّل في الداخل أو الخارج لنزع سلطة ويدّعي تفجير ثورة، يستطيع أن يتدخّل لإجهاض ثورة ويدّعي نزع السلطة، وهو ما وقع في 2011 ويقع الآن.

هذا الالتباس والانحراف سيدمّران تونس مستقبلاً ما لم يتمّ تداركه شعبياً، وبشكل سياسي منظّم. ولهذا، على الجميع أن يشغّل عقله وساعده بوضع خارطة طريق الأيام الثلاثين المقبلة وما بعدها، ويكفّ عن أداء دور جمهور الأبطال أو جمهور الضّحايا.

ختاماً، كلّ ما وقع في تونس من مآسٍ طيلة 10 سنوات ناتج أصلاً من ادّعاء ثوري مزوّر، إذ لم ينشغل الناس باستكمال مهمّات الحركة الثورية الذاتية الجزئية قبل أن يتمّ تجميدها وحرف مسارها والسّطو عليها وتوجيهها من الخارج والداخل في غير مصلحة الوطن والشعب والأمة.