حزب الله.. كيف تفوقت استراتيجية وحدة الساحات على الإرادة الأميركية الإسرائيلية؟

"إسرائيل" بعد أكثر من تسعة أشهر أمام حقيقة، مفادها أن الهجوم على غزة لم يكن نزهة، وأن تجربتها مع المقاومة الفلسطينية ستجعلها تفكر ألف مرة قبل توسيع نطاق المواجهة مع الجبهة الشمالية.

0:00
  • تعيش
    تعيش "إسرائيل" كلها أزمة، في كل المستويات، ومعضلة نتنياهو، التي لا يريد أن يعترف بها.

بمواقف واضحة راسخة وقوية تعكس نجاح حزب الله في تثبيت مفهوم استراتيجية وحدة الساحات خلال معركة طوفان الأقصى، قولاً وفعلاً، جدّد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطابه الأخير، خلال الاحتفال التأبيني للشهيد القائد محمد نعمة ناصر، موقف المقاومة الإسلامية في لبنان، والذي شكل جبهة إسناد مهمة للمقاومة الفلسطينية إلى جانب جبهات الإسناد الأخرى، وصولاً إلى نجاحها في فرض معادلة عنوانها: مفتاح الحل ووقف العمليات العسكرية، التي يقوم بها حزب الله عند الحدود الشمالية، على مدار أكثر من تسعة أشهر، ضد المستوطنات الإسرائيلية والمواقع الأمنية، هو وقف الحرب الإسرائيلية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وذهب إلى أبعد من ذلك، في إعلان الحزب التأييد الصريح لحركة حماس في تمثيلها كل فصائل المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة بأكمله، وهي تخوض جولة مفصلية من المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة. وهذا الموقف منح وزناً وتأثيراً سياسيَّين لكل محور المقاومة.

ثمة نتيجة سلّمت بها الأطراف الدولية كافةً، وعلى رأسها "إسرائيل" وإدارة الرئيس بايدن، وكشفتها خلاصة التقارير الدقيقة لزيارات هوكستين، مبعوث إدارة الرئيس بايدن إلى لبنان، مؤخراً، ومفادها أن عنوان الحل تجاه كل ما يجري ليس في لبنان، وإنما في قطاع غزة، وهو ما يُعَدّ تحولاً استراتيجياً، بل تاريخياً، في معادلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الدرجة الأولى، وتسليماً من كل الأطراف الدولية باستراتيجية وحدة الساحات، التي سخر وهزئ بها البعض في مراحل الصراع ومحطاته السابقة.

نجحت استراتيجية وحدة الساحات في فرض حال من العجز على "إسرائيل" وتكبيل يدها في فتح جبهة مواجهة شاملة أخرى بعد الفشل الذريع في حسم الحرب عسكرياً في قطاع غزة لمصلحتها، الأمر الذي جعلها تعلن، مراراً وتكراراً، أنها تفضل الحل السلمي  للأزمة في الجبهة الشمالية على الحل العسكري، و أيدتها أغلبية الأطراف الدولية، التي عبّرت عن مخاوف حقيقية من توسع دائرة الصراع في المنطقة إذا ما اشتعلت جبهة لبنان وفُتحت على مصراعيها ، وهو ما سيفرض واقعاً جديداً مؤلماً وغير مألوف لكثير من الأطراف، عنوانه الهزيمة الاستراتيجية ليس لـ"إسرائيل" فقط، بل أيضاً لكل حلفائها في المنطقة، وتحديداً بعد نجاح حزب الله في فرض ميزان رعب ومعادلة ردع، ليسا تكتيكيين آنيين، بل لهما تأثير استراتيجي في "إسرائيل"، لأعوام مقبلة. وكثير من المراقبين بات يتحدث علانية عن صورة الفشل والعجز الأمنيَّين المستمرّين على المستوى الاستراتيجي.

فرضت استراتيجية وحدة الساحات، في مختلف جبهاتها، واقعاً جديداً على "إسرائيل" في ميزان الردع، عنوانه معادلة الرعب المستمر، يصعب عليها تغييره بعد الضربات المركزة التي يوجهها حزب الله إلى المستوطنات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والنزوح الكبير للمستوطنين، والذي بات أمراً واقعاً يُضاف إلى سلسلة من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، عنوانه الصراعات والتمزق والانقسامات التي ترسّخت أكثر بعد طوفان الاستقالات المستمر لوزراء ومسؤولين أمنيين وعسكريين في "إسرائيل"، تعبيراً عن حال الفشل الإسرائيلي في أحداث السابع من أكتوبر، والذي لم يعد خافياً على أحد.

وكشف آخر استطلاعات الرأي الإسرائيلية، بشأن مسألة فتح جبهة مواجهة شاملة مع لبنان، عدمَ توافر إجماع كافٍ على هذا الخيار على مستويَي المستوطنين و"المجتمع" في "إسرائيل". وهذا أعطى مؤشراً على أن هذا الإجماع ينطلق من مفهوم، مفاده أن هذه الحرب، إذا اندلعت، ستكون حرباً مصيرية بالنسبة إلى وجود" إسرائيل" في المنطقة، وربما تتطور إلى حرب إقليمية مع إيران، وخصوصاً أن "إسرائيل" فقدت عنصرَي المباغتة والمفاجأة، يومي السابع والثامن من أكتوبر، وانهار على إثرها مفهوم الردع إلى الأبد. والمقصود هنا إطلاق حركة حماس شرارة طوفان الأقصى فجأةً، وإطلاق حزب الله جبهة الإسناد والمشاركة، وهي الجبهة التي شكّلت صدمة لكل الأوساط السياسية والأمنية والعسكرية في "إسرائيل"، ولم تكن تتوقعها؛ أي بمعنى أدقّ أن الهزيمة وقعت على "إسرائيل"، ولم يعد في مقدورها إخفاؤها أو حتى استعادة أي من المعادلات التي فقدتها.

حاولت "إسرائيل"، مراراً وتكراراً، الخروج من هذا المأزق عبر تهديداتها المتكررة وضرباتها العسكرية التي وجهتها من أجل تفكيك محور المقاومة وإفشال استراتيجية وحدة الساحات، نظراً إلى المخاطر الكبيرة التي باتت تواجهها، والتي باتت أشبه بحبل المشنقة الذي يلتف حول رقبتها ويشتد أكثر مع كل جولة صراع أو مواجهة.

الحقوق الفلسطينية هي مفتاح استقرار الأوضاع في المنطقة. وما قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده. واستراتيجية وحدة الساحات أصبحت واقعاً عملياً جديداً، فُرض على "إسرائيل"، سواءٌ مع لبنان، أو في اليمن وسائر الساحات الأخرى، التي فرضت نفسها في معادلة الحرب الدائرة يصعب تفكيكها أو بعثرتها. وإذا كانت بداية طوفان الأقصى بدأت من قطاع غزة، فإن قراءة المشهد تشير إلى أن احتمال تدحرج الأوضاع في المنطقة لا يزال قائماً، في ظل مراوغة "إسرائيل" وخداع الإدارة الأميركية وألاعيبها، التي تطلقها بين الحين والآخر، مع استمرارها في فتح الجسر الجوي وإمداد "إسرائيل" بالسلاح لقتل الشعب الفلسطيني.

تعيش "إسرائيل" كلها أزمة، في كل المستويات، ومعضلة نتنياهو، التي لا يريد أن يعترف بها، أن الوقائع كلياً متباينة عما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، وأن آلة القتل والإبادة والتدمير لن تجلب له نصراً مطلقاً، كما وعد وفشل، وأن الرهان بعد أكثر من تسعة أشهر من الحرب على تحقيق هذا النصر هو رهان خاسر، في وقت باتت دباباته تتحطم في رفح والشجاعية، وهذا واقع كشفته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، والتي عنونت صفحتها الرئيسة بعنوان يعكس مدى الأزمة والمأزق الإسرائيليَّين في غزة، فقالت إنه "بعد مضي تسعة أشهر على الحرب، إسرائيل في جحيم، ولا تزال عالقة عميقاً في مستنقع غزة".

وتطرقت الصحيفة إلى الواقع التي تعيشه في ظل استمرار وجود 120 أسيراً في غزة في حوزة حركة حماس، بينما يعاني أكثر من 100 ألف مستوطن النزوح عن مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة، في حين قُتل 1592 جندياً ومستوطناً، خلال الحرب على غزة.

"إسرائيل" بعد أكثر من تسعة أشهر أمام حقيقة، مفادها أن الهجوم على غزة لم يكن نزهة، وأن تجربتها مع المقاومة الفلسطينية ستجعلها تفكر ألف مرة قبل توسيع نطاق المواجهة مع الجبهة الشمالية، في ظل نجاح استراتيجية وحدة الساحات. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.