جرح الحسين.. نداءٌ هزّ أحرار العالم
إنّها قضيّة الإنسان على مدى التاريخ؛ القضية التي لا تنطفئ شعلتها، ليس بسبب الدماء التي سالت ظلماً فحسب، بل لأنّها شكّلت أيضاً منعطفاً تاريخيّاً ونقطةً مفصليّةً، أصبح الحق بعدها شاخصاً للعيان في وجه الباطل.
جميع الناس معنيّون اليوم بذكرى عاشوراء السنويّة. كلّ الناس معنيّون بما ألمّ بالحسين وأهله وصحبه، لأنّ الألم شعورٌ في الإنسان يولّد حسّ التعاطف لدى أخيه الإنسان. وإذا كان الألم والتعاطف شعوراً إنسانياً، فكيف إذا كان المتألّم رجلاً خرج لإصلاح الفساد في أمّته، ولنصرة الحقّ والتصدّي لكلمة الباطل والطغيان؟
إنّها قضيّة الإنسان على مدى التاريخ؛ القضية التي لا تنطفئ شعلتها، ليس بسبب الدماء التي سالت ظلماً فحسب، بل لأنّها شكّلت أيضاً منعطفاً تاريخيّاً ونقطةً مفصليّةً، أصبح الحق بعدها شاخصاً للعيان في وجه الباطل.
إنّ بشاعة ما ارتُكب بحقّ الحسين وأولاده وأنصاره، الذين كانوا عدةً قليلةً تحمل الحقّ قضيةً في وجه الظالم الفاسد، سجّلها التاريخ، لتكون نموذجاً للأحرار الذين يرفضون الذلّ والهوان، ويرفضون موت الإنسانية في داخلهم.
كلّ الناس اليوم معنيّون بهذا الجرح، مسلمين ومسيحيين، وكل أبناء الديانات السماوية التي تلتقي عند الأصول والتعاليم ذاتها، فلا فرق بين ظلمٍ وقع بمسلمٍ وظلمٍ وقع بمسيحيّ، ولا فرق بين جراح الحسين بن عليٍّ وآلام المسيح عيسى (ع).
هؤلاء الرسل والأولياء والأئمَّة بُعثوا ليتحمّلوا الآلام العظيمة من أجل أن يبقى كتاب الله حياً فينا، قرآناً وإنجيلاً وتوراةً. لقد بُعثوا لكي نتذكّرهم كلَّما تألمنا وجارت علينا الحياة، فندرك أنّ أوجاعنا لا تساوي شيئاً أمام ما يحمله هؤلاء الصفوة والقديسون والأولياء.
مثقّفو العالم أدركوا هذه الحقيقة، فكان الحسين بالنسبة إليهم معلّماً وإنساناً نموذجياً صارت قصته عبرةً ودرساً تاريخياً، تماماً مثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي، فلا يزال هذا الصوت متجدّداً يهزّ الضمائر الحرة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم.
لن أستحضر المثقّفين والمفكرين من الشرق والغرب في ما قالوه في الحسين، ومن العالم العربي، من مصر وصورة الحسين في الخيال العربي المعاصر من منظور عبد الرحمن الشرقاوي والعقاد وطه حسين وآخرين، إلى الشام ونزار قباني، والعراق وبدر شاكر السياب، وكثيرين بعد، لكننني أقف اليوم لأتذكّر أبرز قامات الفكر اللبناني ممّن كتبوا وقالوا وأنشدوا ونظموا في الحسين وواقعة عاشوراء، فكان عشقهم جلياً واضحاً، وكانت كلماتهم ناضحةً بالحبّ والإنسانية والتعاطف، وكان فكرهم زاخراً بمعاني الحرية والشرف والإباء، فما أكثرهم إنصافاً وحكمةً! وما أعظمهم نصرةً لكلمة الحقّ في كل زمان!
إلى جانب الأسماء الكبيرة التي عرفناها، مثل عبد المسيح أنطاكي وريمون قسيس وسعيد عقل وأمين نخلة ونصري سلهب وخليل فرحات وجوزيف الهاشم وسليمان كتّاني وبولس سلامة وجورج جرداق وجورج شكور وفيكتور الكك وإدوار مرقص وآخرين، هناك نخبةٌ من هؤلاء الأحرار العرب واللبنانيين، مثل أنطوان بارا الذي كتب عن الحسين في الفكر المسيحي ما لا تفيه حقّه الكلمات، وميشال كعدي الذي قال الكثير في العالميّة الحسينيّة، وجان قسيس الذي قال إنّ جرح الحسين جرح الكون الذي لا يندمل، والمطران جورج صليبا الذي قال إنّ الحسين جوهرة أرسلها الله من السماء لتنير الطريق، وميشال جحا الذي قال إنه يعبد ويعشق الإمام الحسين مذ كان طفلاً، والمطران عصام درويش الَّذي قال: "أنا مسيحي حسيني، وإن كربلاء ليست مدينة، بل هي العالم بأكمله، وإنهم لن يستطيعوا بقطع رأس الحسين أن يقطعوا رأس الحقّ"، وإلياس زغيب الذي ينحت حبّه في الحسين كلماتٍ وأدباً.
هذه هي كلمات الأحرار في الإمام الحسين (ع)، وهناك الكثير بعد مما قيل ويقال في سيد الأحرار والشهداء.
عظّم الله أجورنا وأجور الجميع بمصاب الحسين في هذه المناسبة. أختم ببيتٍ للشاعر إدوار مرقص:
أيهابهم سبط النبــــــــــيّ وعنده *** جيشٌ من الإيمــــــان ليس بنافد؟
حسب الفتى من قوةٍ إيمــــــــانه *** ولكربلاء عليه أصدق شاهد