خطاب في كربلاء أقرب إلى استنباط المسيحية العربية
تحدث الأب الراهب الأرثوذكسي العربي أنطونيوس حنانيا عن أهمية بعث الكنيسة العربية الأرثوذكسية المدفونة في الباطل التاريخي كسعي لترسيخ هوية عربية صادقة تلتزم بالحقيقة وتوحد مكونات العالم العربي الاجتماعية والدينية كافة.
تحدث الأب الراهب الأرثوذكسي العربي أنطونيوس حنانيا عن أهمية بعث الكنيسة العربية الأرثوذكسية المدفونة في الباطل التاريخي كسعي لترسيخ هوية عربية صادقة تلتزم بالحقيقة وتوحد مكونات العالم العربي الاجتماعية والدينية كافة.
"إننا من هؤلاء الذين يقاومون. نحن فدائيون فلسطينيون، ولنا شهداء كثر وهم أحياء عند ربهم"، هذا ما قاله الأب الراهب أنطونيوس حنانيا، الآتي من عكا في فلسطين المحتلة، خلال كلمته في مؤتمر "نداء الأقصى العالمي" الثاني، والذي عقد في كربلاء، بالعراق، في نهاية الشهر الفائت.
وبالاستناد إلى التاريخ، يوضح الأب حنانيا، نظرياً وعملياً، أن الإسلام هو امتداد للمسيحية من منظور تاريخي واجتماعي. علاوة على ذلك، أوضح أن المسيحيين والمسلمين العرب لديهم قيم مشتركة وتاريخ وروابط اجتماعية حاول الصليبيون آنذاك طمسها، كما حاول ويحاول الغرب الجماعي الذي يدعم "إسرائيل" الآن دفنها، وبالتالي تزييف التاريخ.
رسالة أمانة وكرامة واستعادة للتاريخ
بلغة يفهمها العرب أجمعون، أوضح الأب حنانيا المسار القادم: المقاومة حتى التحرير. وأضاف أنه يجب على المسيحيين العرب والمسلمين واليهود الشرفاء، مستثنياً منهم جميع الصهاينة، أن يلتزموا بحقهم في المقاومة المسلحة والسعي إلى الاستشهاد دفاعاً عن تاريخهم ووحدتهم وكرامتهم وأرضهم، مشدداً أنه يجب عليهم مواصلة الكفاح بدلاً من الخضوع للإذلال.
يعلن الأب حنانيا موقفه التالي من كربلاء أرض الشهادة:
"إننا من هؤلاء الذين يقاومون، نحن فدائيون، فلسطينيون، ولنا شهداء كثر وهم أحياء عند ربهم، هؤلاء هم الأمناء الصادقون الذين صدقوا بوعدهم.
وما لقينا نحبنا وما زلنا ننتظر هذه الشهادة المباركة.
صوتنا إلى العالم في ما حدث أننا موحَّدون وموحِّدون، وأننا لا نخاف لا من الأعداد ولا من الأعداء.
والرد على ذلك، هذه الصرخة المدوية: هيهات منا الذلة"
تردد صدى رسالة الأب حنانيا في كربلاء الأرض التي كتب فيها الإمام الحسين مع آل بيته ومجموعة مع صحبه رسالته الأخيرة بالدم لتدوّي في أنحاء العالم.
كربلاء، الإسلام الأول، المسيحية، والفريسيون
تتمتع الدعوة إلى المقاومة برمزية كبرى حين تأتي من كربلاء على لسان هذا الأب الجليل الآتي من الجليل، ليؤكد في كلمته حقائق واقعية ضاربة الجذور تعيد تظهير العلاقة الصادقة بين المسيحية والإسلام باعتبارهما ديانتين اعتنقهما الشعب العربي في فترات زمنية مختلفة. رفض الأب حنانيا الخطاب المتداول المبني على الحرب بين الديانتين، مؤكداً أن الهوية الأساسية لشعب هذه الأرض كانت الهوية العربية، وأن الهوية الثانوية كانت من اليهودية فالمسيحية فالإسلام.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الأب الراهب حنانيا أوضح في مقابلة قصيرة للميادين، عقب كلمته في كربلاء، الفرق بين اليهودية والصهيونية اليوم من خلال الرجوع إلى الكتاب المقدس، سفر الرؤيا للقديس يوحنا "هنَذَا أَجْعَلُ الَّذِينَ مِنْ مَجْمَعِ الشَّيْطَانِ، مِنَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا، بَلْ يَكْذِبُونَ..." (رؤ 3: 9)
وللتوضيح أكثر، ناقش الأب الراهب حنانيا عنوان المؤتمر لهذا العام، وهو "فلسطين والإمام الحسين: الأبعاد العالمية للشخصية الرسالية والقضية الإنسانية" أو ما تعارف عليه بإحياء نهضة الإمام الحسين (ع). وأكد الأب حنانيا الربط بين سيرة الإمام الحسين (ع) كقضية حق واستشهاده من أجلها وبين القضية الفلسطينية.
قال الأب حنانيا "نحن كفلسطينيين معنيون بالإسلام الأول. دعونا لا ننسى أن العشائر التي هربت من اليونانيين والرومانيين في الجزيرة العربية، تودّدت إلى عائلة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وإلى كل هذه العائلة المباركة. فنحن منذ إذاعة الإسلام ونحن نعمل على هذا الذي أبعدنا عن الجدل العقيم". ويقصد الراهب بـ «الجدل العقيم» ذلك الذي يروّج له الغرب الجماعي والصهاينة اليوم، والذي بدأ منذ عهد الصليبيين، الذين زعموا أن الإسلام يهدد الشعب المسيحي.
ثم أضاف: "أنا أقول لك إن يهود الفريسيين كانوا وراء هذا الخطاب، النقاش العقيم، لأنهم كانوا صهاينة ذلك الوقت". وفي هذا السياق، أطلق هذا الأب الراهب الفلسطيني على الصهاينة لقب "مجمع الشيطان" معتبراً أن سفر الرؤيا كان يتحدث عن الفريسيين وهم فريسيون اليوم.
تاريخ من الاحترام المتبادل: ديانتان وشعب واحد
افتتح الأب الراهب حنانيا كلمته مذكّراً بالإسلام الأول الذي يهتم به العرب ويتماهون معه، كما تحدث عن دير القديسة كاترينا في سيناء، بمصر، إذ يضم مسجداً لا يزال مفتوحاً حتى يومنا هذا أمام جميع المسلمين لأداء صلواتهم.
كما ذكّر بوجود نسخة من "بشيطة محمد (ص)" داخل الدير في سيناء، وهي مخطوطة كتبها الإمام علي بن أبي طالب (ع) وكلّفها النبي محمد (ص) بأهل الكتاب (المسيحيين، اليهود، الصابئة)، حيث منح أموالهم ومعتقداتهم المقدسة الحماية والأمن في جميع أنحاء العالم الإسلامي (البشيطة، ashtiname، هي رسالة سلام).
لقد أثبت الأب الأرثوذكسي الفلسطيني من خلال ذكره للحقائق التاريخية طبيعة العلاقة الودية التي جمعت بين شعوب هذه الأرض العربية.
معاً حاربنا الغزوات الصليبية
وأصرّ الأب الراهب حنانيا أن "حقيقة، هناك مسيحية أرثوذكسية فلسطينية عربية" وأعلنها بكل جرأة "مطمورة تحت التراب وعلينا أن نكتشفها." وأضاف أنه أثناء دراسته لعلم مقارنة الأديان في معهد مودي للكتاب المقدس، تم توجيهه نحو كتاب يؤكد أنه "إذا كنت تريد التعرف على النبي إبراهيم (عليه السلام)، فعليك أن تذهب إلى الصحراء وإلى العرب" لتفهم عادات ذلك الشعب وثقافته، وأكد الأب أن أستاذه حينها "لم يقل يجب عليك أن تذهب إلى إسرائيل"، رغم أن هذا المرجع كتب بعد سنوات قليلة من احتلال فلسطين.
وهذا صحيح، وكما ورد في القرآن: «ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِـۧمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلْأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِىَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍۢ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ» (القرآن، سورة البقرة 136). تظهر هذه الآية مرة أخرى الإسلام كامتداد للمسيحية في سياقه الاجتماعي والتاريخي، وتؤكد من جديد أن أتباع الأنبياء من نوح فصاعداً، الذين عاشوا في جميع أنحاء العالم العربي، ليسوا سوى شعب واحد وهم ما يعرف اليوم بأهل الكتاب المقدس.
سورة البقرة تختصر تاريخ هذه المنطقة على مر الزمن انطلاقاً من النبي آدم إلى النبي محمد (ص) بالاعتماد على فهم تراكمي للتطورات الاجتماعية والتاريخية والدينية في جميع أنحاء المنطقة. وفي سياق أكثر تاريخية، أبرز الأب الراهب حنانيا الأحداث التاريخية التي لعب فيها المسيحيون العرب دوراً في تسهيل طريق المسلمين خلال الفتح الإسلامي ضد الحروب الصليبية، داحضاً الباطل المبني على مفهوم "الجدل العقيم". كما أكد أن كرامة الشعب العربي، مسيحيين ومسلمين، مرتبطة بالمسار والمصير نفسيهما، فهم جميعاً ينتمون إلى الهوية العربية الجامعة. ثم قال مذكراً: "إننا نحن من دعمنا القائد صلاح الدين في مواجهة الصليبيين".
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الحروب الصليبية لم تكن ضد المسلمين فحسب، بل أيضاً ضد المسيحيين المشرقيين الذين تحالفوا مع نظرائهم المسلمين للبقاء صامدين في مواجهة الليتنة بهدف الحفاظ على هويتهم المسيحية الغرب الآسيوية، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هوية المنطقة. وبعبارة أخرى، كانت الحروب الصليبية حملة استعمارية في وجه كل الطوائف غير الغربية.
تحت الروايات المضللة تقبع كنيسة عربية
هذه المعرفة، كما يقول الأب الراهب حنانيا، دفعته إلى البحث عن هوية عربية مسيحية، إلى أن أدرك أن للمسيحية الأرثوذكسية في فلسطين جذوراً حقيقية لكنها مدفونة تحت التراب، وأعلن أنه اكتشفها ويعرفها جيداً ودعا الجميع إلى اكتشافها.
وأكد أن هذه الكنيسة العربية لها فلسفتها ورؤيتها وفقهها ولها فهم كامل للعالم والمنطقة، لكنها دُفنت. وتابع مؤكداً بجرأة أنه على أكتاف هذه الكنيسة العربية صعدت الكنيسة الإيطالية اللاتينية للكاثوليك الفاتيكانيين. وكذلك فعل البريطانيون ومن يسمّون أنفسهم بالإنجيليين، "الإخوان البروتستانت"، إذ لعبوا دوراً أكبر في دفن الكنيسة العربية بشكل أعمق في التاريخ. وقال الراهب العربي في حديث لـلميادين: "ليس لدينا تاريخ مستقل! ليس لدينا تاريخ مكتوب بالتفصيل!"
ومع ذلك، نحن لسنا دعاة ندب بل أهل دعوة إلى العمل. إنها دعوة ذات جذور تاريخية، وإن كانت في الماضي بقيت خجولة ومعزولة. أعلن اليوم الأب الراهب حنانيا أنه يعكف مع مجموعة آخرين على وضع خطة لدراسة وفهم أفضل لتاريخ هذه الكنيسة، وروابطها التاريخية الأرثوذكسية العربية التي يجب أن ترفض البقاء مدفونة كما أبى الإمام الحسين أن ينساه التاريخ، وكما لم يسمح المسيح بالباطل ورفض أن ينكر أباه ويخضع لبيلاطس البنطي. إن التماثل مع هؤلاء الشهداء العظماء والتمسك بهم -فالمسيح هو أول شهيد قام بإرادة الله لإنقاذ البشرية، والإمام الحسين الذي استشهد مع صحبه ليرسم طريق الحق بالدم -تقع على عاتقنا مسؤوليات كبيرة كمسيحيين ومسلمين وبني إسرائيل القدماء للدفاع عن الحقيقة، مؤكداً أنه وثلّة من رفاقه "استنبطنا الكثير من المواضيع وفي يومها المحدد وفي زمنها المحدد تكشف، وتكون سنداً وقوة للمقاومة في كل مكان، وخصوصاً المقاومة الفلسطينية."
وعندما نتكلم عن الشهادة نعود إلى إنجيل يوحنا حيث قال يسوع المسيح:
"هذه هي وصيتي: أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم.
ولا يمكن لأحد أن يكون له حب أعظم من أن يبذل نفسه من أجل أحبائه.
أنتم أصدقائي إذا فعلتم ما أوصيكم به.
لا أدعوكم عبيداً في ما بعد، لأن العبد لا يعرف عمل سيده. إني أسمّيكم أصدقاء لأني أعلمتكم بكل ما تعلمته من أبي». (يوحنا 13: 15)
إنها الحقيقة التي لا يمكن ترسيخها إلا من خلال المحادثات والمقاومة المسلحة والتحرير في وقت لم تسرق فيه الإمبريالية مواردنا لإبقائنا في القتال من أجل خبزنا اليومي فحسب، بل سرقت منا أيضاً تاريخنا ودفنته في عمق الأرض.
وتحدث الأب الراهب حنانيا باسم جميع المسيحيين الشرفاء عندما كرر "هيهات منا الذلة".
إن أهمية استنباط المسيحية الأرثوذكسية العربية لا تكمن في مضمونها الديني وحده، بل أيضاً في مضمونها الاجتماعي كرافعة في توحيد الشعب العربي كما فعل الإمام الحسين. فالعرب المسيحيون ينتمون إلى هويتهم العربية، ولهم دور في ثقافة المنطقة وتاريخها. لذا، عليهم مرة أخرى، أن يؤكدوا هذا الدور، وإلا فسوف يهلكون مع هلاك من يستمد منهم سلطاتهم الحالية، أي المستعمرين.