تونس: تراجع معدلات النمو.. وتظاهرات جديدة ضد الغلاء

تذهب التقارير المحلية نحو المنحى ذاته حيث تكشف عن ارتفاع معدّل القلق لدى المستثمرين المحليين في ظل ارتفاع تكلفة الإنتاج وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين مما يتسبب في حالة من حالات الكساد.

  • تونس: تراجع معدلات النمو.. وتظاهرات جديدة ضد الغلاء
    تونس: تراجع معدلات النمو.. وتظاهرات جديدة ضد الغلاء

تعيش تونس أوضاعاً معيشية صعبة منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث يشتكي المواطنون من ارتفاع أسعار السلع الأساسية إضافة إلى اختفاء بعضها من الأسواق، وذلك بالتوازي مع تراجع سعر صرف العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، في بلدٍ يعتمد على الأسواق الخارجية لاستيراد الكثير من السلع الأساسية أو المواد التكميلية تلك التي تدخل في عمليات الإنتاج المحلي.

 على مواقع التواصل الاجتماعي، يتأمل النشطاء التونسيون أحوالهم قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، حين شاركوا في الثورة ضد رئيس دولتهم حينها زين العابدين بن علي، ثم يتساءلون هل تحسّنت الأمور أم ازدادت سوءاً؟، ومن يتحمّل كلّ التدهور الذي لحق بالبلاد؟، وما الذي يمكن أن يحمله المستقبل في ظل حالة انقسام سياسي تضاعف من حجم الأزمة الاقتصادية وتجعلها مادة للاستثمار والمتاجرة؟!.

بحسب التقارير الرسمية عن الوضع الاقتصادي التونسي، والتي ينشرها المعهد الوطني للإحصاء، فإن البلاد قد حقّقت معدل نمو منخفض في العام المنصرم، حيث سجلت 2.4 في المئة، وهو رقم ضئيل حتى إذا ما قورن بمعدل النمو عام 2021 حين سجّلت البلاد 4.3 في المئة. وقد أكّد المعهد الحكومي في تقريره تدنّي مؤشرات التنمية وغياب أفق التعافي من الأزمة الاقتصادية، إذ إن معدل النمو في الربع الأخير من عام 2022 بلغ 1.6 في المئة فقط، وهو معدل هش للغاية، حيث لا يسمح بتوفير وظائف جديدة للعاطلين عن العمل، خاصة أن نسبة البطالة قد ارتفعت بين الحاصلين على شهادات عليا بنحو 1.3% خلال عام 2022.

يدافع مؤيّدو الحكومة عن أنفسهم بالقول إن الأزمة لا تخص تونس وحدها، فهي ليست نتاج عشوائية في التخطيط أو عمليات فساد حسبما يشاع، بل هي أوضاع متردية عالمياً نتاج لتفشي جائحة كورونا، ثم ارتفاع تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والتي توشك أن تدخل عامها الثاني، وهو ما أرهق موازنة الدولة ودفع معدلات التضخم إلى الصعود إلى هذا الحد المشهود، علماً بأنها قد وصلت في الشهر الماضي إلى نحو 10.2 في المئة، وهو معدل استثنائي في تاريخ البلاد.

في الوقت ذاته لا تفوّت المعارضة التونسية الفرصة، وتشن حملة شرسة عبر وسائل الإعلام التي تتبع لها في داخل البلاد وخارجها على الرئيس قيس سعيد ورجاله، متهمة إياه بالفشل في إدارة الأمور ومضاعفة الأزمة عوضاً عن التخفيف من آثارها. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية والتي تتزعم تيار المعارضة الآن، منذ خلافتها مع سعيّد صيف العام قبل الماضي، كانت تدير البلاد لنحو عقد من الزمن بعد عام 2011، ولم تفلح في تحقيق فارق يُذكر في ميدان الاقتصاد بالأخص.

 الإجراءات الحكومية.. بين المخاوف والشكوك

كمحاولة لطمأنة الشارع التونسي أعلنت الحكومة أنها تطمح إلى تحقيق معدل نمو يصل إلى 1.8 في المئة خلال العام الحالي 2023، مشيرة إلى أن نسبة عجز الموازنة التي وصلت إلى 3 مليارات دولار، ترجع إلى أن نفقات الدولة قد تجاوزت مواردها، وأن ثمة خططاً لعلاج هذا الأمر، عبر اعتماد سياسات إصلاح اقتصادي تخفّف من الأعباء الملقاة على كاهل الدولة. وهذا مسار إصلاحي ينسجم مع الاتفاقات التي لا تزال الحكومة تسعى إلى عقدها مع صندوق النقد الدولي، رغم تعثّرها.

على صعيد مقابل تبدي التنظيمات اليسارية مخاوفها من لجوء الحكومة إلى حل الأزمة عبر الاستمرار في خفض الدعم والنفقات الحكومية على مجالات التعليم والصحة أو السير نحو مزيد من تعويم العملة الوطنية، وهي الإجراءات التي قد تُسهم في علاج عجز الموازنة لكنها قد تزيد من صعوبة حياة الموطنين الذين سيكتوون من جراء انخفاض القيمة الشرائية لعملتهم الوطنية.

أما عن مؤسسات المال الدولية، فقد شككت بدورها في قدرة الحكومة التونسية على تحقيق نسبة النمو التي أعلنت عنها في ظل الصعوبات الهيكلية والحالية التي يمر بها الاقتصاد، خاصة مع اختلال التوازنات المالية الداخلية في الموازنة من حيث حجم الفجوة المالية والتوازنات الخارجية من حيث الحجم القياسي والتاريخي للعجز التجاري.

 كما عانت 4 بنوك تونسية من تخفيض تصنيفها بواسطة وكالة موديز للتصنيف السيادي، ويرجع السبب إلى ارتفاع مستوى إقراضها للدولة بشكل كبير رغم وجود مخاطر عالية لدى الدولة من التخلّف عن سداد القروض.

وتذهب التقارير المحلية نحو المنحى ذاته حيث تكشف عن ارتفاع معدّل القلق لدى المستثمرين المحليين في ظل ارتفاع تكلفة الإنتاج وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين مما يتسبب في حالة من حالات الكساد، وهذا ما تتبين آثاره في ارتفاع معدلات لجوء الشباب التونسي إلى الهجرة المنظّمة وغير المنظّمة نحو جنوب أوروبا أملاً في الحصول على وظيفة تضمن له ولذويه في الداخل حياة أفضل.      وكان الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر قد صرح أن "نحو 35 ألف تونسي هاجروا إلى أوروبا خلال 2022 عبر طرق غير نظامية، فيما نجحت السلطات في منع 35 ألفاً آخرين من الهجرة".

تظاهرات ضد غلاء المعيشة

على وقع الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها الطبقات محدودة الدخل في تونس، دعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تنظيم سلسلة من التظاهرات بتاريخ 18 شباط/فبراير 2023، وذلك في عدد من المناطق التونسية، وجاءت الاستجابة الأكبر من محافظة صفاقس وسط شرق البلاد، ثم تلتها محافظات أخرى مثل القيروان والقصرين ونابل والمنستير وبنزرت.

وحمل المشاركون في التظاهرات قطعاً من الخبز في إشارة إلى ارتفاع الأسعار وصعوبة توفير أساسيات المعيشة، كما رفع المحتجون لافتات تعكس معاناتهم من جراء نقص بعض المنتجات، كالحليب والسكّر والأرزّ والبنّ.

 وقال القيادي في الاتحاد عثمان الجلولي في خطاب أمام المتظاهرين إن "الحكومة فشلت في وضع البلاد على سكة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ونجحت فقط في استهداف الاتحاد".

وكانت الأمينة العامة للكونفدرالية الأوروبية للنقابات، ايستر لانش، قد شاركت في مظاهرة صفاقس، وقالت إنها تشارك نيابة عن 45 مليون نقابي ونقابية من أوروبا، لكن المشاركة أثارت جدلاً في الأوساط السياسية التونسية بين مؤيد للمشاركة باعتبارها توصل الشكوى التونسية إلى العالم الخارجي، وبين رافض لها باعتبارها تسيء إلى المعارضة وتؤكد ارتباطها بدوائر عمل أوروبية. في الوقت نفسه اعتبرت السلطات التونسية مشاركة لانش في المظاهرة وتصريحاتها "تدخّلاً سافراً في الشأن المحلي"، وطالبتها بمغادرة البلاد في غضون 24 ساعة.

 دعوات إلى الاهتمام بالقطاعات المتعثّرة وتشجيع الاستثمار

ويدعو خبراء المال التونسيون إلى ضرورة العمل على تنمية قطاع الاستثمار العمومي، وأن تمتلك الدولة زمام المبادرة، وتتخذ خطوات أوسع لتعبيد الطريق في عدد من المشاريع التي يتردد القطاع الخاص من الاستثمار فيها، وذلك جنباً إلى جنب مع تشجيع صغار المستثمرين على التوجّه نحو النشاطات الإنتاجية، إضافة إلى سن إجراءات جديدة في قطاع المقاولات لعلاج حالة التراجع التي لحقت به، حيث كان يوفّر هذا القطاع أكثر من نصف مليون وظيفة إضافة إلى مساهمته بنحو 9% من الناتج المحلي للبلاد بحسب إحصائيات العام قبل الماضي.

 كما طالبوا بضرورة العمل على تطوير القطاعات التي تنمو بنسب ضعيفة، ولكنها تحقق قيمة مضافة مرتفعة، مثل قطاع الزراعة الذي حقق معدل نمو 2%، وكذلك قطاع التجارة بعد أن حقق معدل نمو 1.9 %، إضافة إلى قطاع الخدمات الإدارية الذي حقق معدل نمو 0.6 في المئة فحسب العام الماضي.

انشقاق سياسي يفاقم الأزمة الاقتصادية

 في 25 تموز/يوليو 2021، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد سلسلة قرارات وصفت بأنها "ثورة تصحيح"، وتضمنت حلّ الحكومة برئاسة هشام المشيشي، وتعليق عمل البرلمان الذي تم وصفه بأنه خاضع لنفوذ حركة الإخوان، وتبعتها إصلاحات في القضاء. واستند سعيد في قراراته إلى الفصل 80 من دستور عام 2014 الذي يخوّل رئيس الجمهورية اتخاذ "تدابير استثنائية" إذا ما كان هناك "خطر داهم" يهدد البلاد..  وقد تمّ اعتبار هذا التاريخ بداية أزمة سياسية في تونس.

خلال شهر شباط/فبراير الجاري، صعّدت السلطات من إجراءاتها، حيث شنّت القوات الأمنية حملة اعتقالات شملت قيادات حزبية وقضاة وإعلاميين ورجال أعمال، هم القيادي السابق في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، والقيادي في الحركة نور الدين البحيري، والمدير العام للمحطة الإذاعية الخاصة "موزييك أف أم" نور الدين بوطار، ورجل الأعمال كمال لطيف، والناشط السياسي خيام التركي، والناشط السياسي والمحامي لزهر العكرمي.

وتُوجّه السطات إلى المقبوض عليهم تهماً تتعلّق بالتآمر على الدولة وتخريب الحياة العامة، بينما يرى أنصارهم أن ما يجري هو بمثابة استهداف للأصوات المعارضة وتخريب للمسار الديمقراطي وخنق للحريات.

وقد أعرب مفوّض حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فولكر تورك عن "قلقه من تفاقم القمع ضد أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم معارضون سياسيون ومنتمون إلى المجتمع المدني في تونس"، كما أعربت وزارة الخارجية الأميركية عن احترامها لتطلعات الشعب التونسي إلى سلطة قضائية مستقلة وشفافة قادرة على حماية الحريات الأساسية.

ويصف مستقلّون أن هذه الأجواء المضطربة تلقي بظلالٍ كئيبة على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ويمكنها أن تتسبب في حالة من عدم الاستقرار مما يؤثر بالسلب على مخططات جذب المستثمرين، كما أنها تحوّل الملف الاقتصادي إلى ميدان تناحر ومزايدات من الطرفين المؤيد والمعارض بعيداً عن البحث بجدية عن حلول للأزمة.