تطوّرات سوريا وتحسّن الشروط الإسرائيلية نحو صفقة في غزة
نجح الإسرائيلي، في تصوير المشهد باعتباره انتصاراً تاريخياً على حساب محور المقاومة الذي ساند غزة في محنتها وحيداً، ولكن هذا الإخراج يتجاهل عناصر القوة الرئيسة التي ما زالت المقاومة تقبض عليها من دون تردّد.
يجمع المستوى السياسي الإسرائيلي والأميركي، أنّ سيطرة المعارضة المسلحة في سوريا، ساهمت في تمدّد الفضاء الإسرائيلي نحو صفقة تبادل أسرى مع غزة أفضل إسرائيلياً، وعزّز فرص إنضاج هذه الصفقة التي تريد "إسرائيل" من خلالها إطلاق سراح عشرات الأسرى الإسرائيليين في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وهي الصفقة التي يراد منها فلسطينياً وقف المجازر الإسرائيلية في غزة والضفة ابتداء، يبدو هذا الربط غريباً وبعيداً في ظلّ النقلة الاستراتيجية التي عصفت بالإقليم بعد الرحيل السلس لنظام الرئيس السابق بشار الأسد، وسيطرة المعارضة بقيادة جبهة النصرة المصنّفة عالمياً في قوائم الإرهاب.
بدأ الطوفان في غزة ودخل لبنان في إسناد، حتى تحوّلت الحرب الإسرائيلية ضده بشكل كليّ، ونزفت فيها "إسرائيل" مع حزب الله نزفاً غزيراً، وفجأة توقّفت هذه الحرب، وقد تركت فراغاً سياسياً وميدانياً طرح جملة من التساؤلات، وماذا بعد؟
أدرك كلّ متابع أنّ ثمّة فراغاً استراتيجياً، يتوجب أن يمتلئ بعد وقف النار بين لبنان و"إسرائيل"، وهنا جاء التطوّر الدراماتيكي في سوريا من سيطرة عابرة للمدن من قبل المعارضة المسلحة، وهو ما يعني خسارة محور المقاومة، وخاصة حزب الله، طريق تسليحه الوحيد مع العراق وإيران، وهو الطريق الذي كان يوفّره النظام السابق، رغم إحجامه عن المشاركة الفعليّة مع المحور في إسناد غزة، ما جعل نتنياهو ومعه بايدن وحتى ترامب، يعلنون بفخر أن هذه الخسارة جاءت بفعل الحرب الإسرائيلية التي غيّرت الشرق الأوسط.
ظلّت "إسرائيل" تقصف سوريا بشكل شبه أسبوعي طوال عقد مضى، لمنع التموضع الإيراني وفي سبيل إعاقة تسليح حزب الله، خاصة بعد فشل الحرب على سوريا منذ عام 2011، وهي الحرب التي استثمرتها "إسرائيل" ومعها أميركا والغرب ومعظم الدول العربية، لإضعاف سوريا باعتبارها حلقة محورية في محور المقاومة، ليأتي سقوط النظام الحاكم مباشرة عقب وقف إطلاق النار في الحرب على لبنان، وضمن آلية لا يخفى أنها أعدّت بليل، ليتعمّق هذا القصف الإسرائيلي جواً وبراً حتى وصلت الدبابات الإسرائيلية مسافة 30 ـــــ 20 كم عن دمشق من دون أدنى معترض.
جاء الإعلان الإسرائيلي صريحاً تجاه استغلال حالة الفراغ في سوريا، وهو فراغ لم يتمكّن الحكّام الجدد من ملئه ليس بسبب حداثة الحكم والتطوّرات المتسارعة، ولكن بسبب برنامج أولوياتهم وقد انصبّ نحو السيطرة على حساب النظام، وهو ما تدركه "إسرائيل" ليعلن "جيشها" بغطرسة لافتة اكتمال المرحلة الرئيسية من عملية "حتس هبشان" لتدمير القدرات الاستراتيجية للجيش السوري، حيث تمّ تدمير نحو 70 ــــــ 80% من القدرات العسكرية لمنع وصولها إلى أيدي جهات معادية، وقد شارك في العملية نحو 350 طائرة مقاتلة من سلاح الجو الإسرائيلي، نفّذت غارات على نحو 320 هدفاً في أنحاء سوريا كافة، من دمشق وحتى طرطوس، دمّرت خلالها طائرات حربية ومروحيات قتالية ورادارات وبطاريات صواريخ أرض ـــــ جو وسفناً وصواريخ أرض ـــــ أرض وصواريخ كروز وصواريخ سكود وصواريخ مضادة للسفن ومواقع إنتاج أسلحة ومستودعات ذخيرة وطائرات مسيّرة.
كان الإسرائيلي يقصف في سوريا وعينه على غزة، كيف حصل ذلك؟
لم تكن حماس، وهي الجهة الحاكمة في غزة، على علاقة وردية مع سوريا، فالعلاقة مرّت بمطبات عديدة، ولم تشارك سوريا في إسناد غزة عملياً، ولكن الإسرائيلي والأميركي كما حماس ومحور المقاومة، ينظرون إلى التطوّر في سوريا من منظار المعايير الاستراتيجية الناظمة للقوة والضعف، فسوريا كانت تمثّل حلقة من الاستعصاء ضد الماكينة الأميركية والإسرائيلية الأمنية والسياسية، وهي دولة الطوق الرئيسة التي لم تعترف بشرعية "إسرائيل" فضلاً عن إقامة علاقات معها أسوة بالأردن ومصر وتركيا، وأن يسقط نظامها في هذا التوقيت نحو المجهول الذي سمح للإسرائيلي أن يحتلّ مساحة واسعة من أرضها من دون معترض، يجعل عناد حماس وكأنه عكس السير، في واقع يظهر أنه يمضي لصالح المشروع الأميركي والإسرائيلي في الإقليم، خاصة في ظلّ الضخّ الإعلامي الواسع.
نجح الإسرائيلي ومعه الأميركي، في تصوير المشهد باعتباره انتصاراً تاريخياً غير مسبوق على حساب محور المقاومة الذي ساند غزة في محنتها وحيداً، ولكن هذا الإخراج يتجاهل عناصر القوة الرئيسة التي ما زالت المقاومة تقبض عليها من دون تردّد، وهي التي تمنع الإسرائيلي أصلاً من تحقيق أهداف الحرب المباشرة، فإن نجح في خلط الأوراق في سوريا، فهو ما زال يعجز عن الوصول العسكري لأسراه، كما يعجز عن مجرد القدرة عن إدارة توزيع المساعدات الإنسانية عبر عصاباته في غزة، ليفقد حكومة حماس شرعيّتها، وهو يعجز عن تفكيك بنية المقاومة في القسام والسرايا رغم الضغط العسكري الهائل الذي تسبّب بخسائر جسيمة للمقاومة بلا شك، وأغرق حاضنتها بالدماء والمجازر والدمار والمجاعات.
والأهم في نقاط ضعف التخريج الإسرائيلي للانتصار في سوريا، ومحاولة عكسه على حربه ضد غزة، أن الإسرائيلي ما زال ينزف في غزة بغزارة على كلّ المستويات، سواء على صعيد الخسائر البشرية، فهي الأعلى منذ بدء الحرب في الشهرين الماضيين على مستوى كل الجبهات، وهناك كمائن نوعية تنفّذها المقاومة في غزة بشكل يومي، إضافة إلى أنّ الإسرائيلي ينزف سياسياً في وقت أصبح فيه نتنياهو مطلوباً دولياً كمجرم حرب، والعزلة العالمية تتصاعد، مع النزف الاقتصادي والصراعات الداخلية المتفاقمة، وإن نجح بتجاوزها وهو يمضي بـ "دولة" الكيان على حدّ السكين من دون أن تتدهور بشكل كليّ، ولكن أيضاً من دون تحقيق أهداف الحرب.
ويتجاهل الإسرائيلي أيضاً أنّ التحوّلات في سوريا، وإن جاءت ابتداء في غير صالح المحور ومعه غزة، إلا أن أصداء وتردّدات هذه التحوّلات، تنفتح على عدة احتمالات خاصة أن هدير طوفان الأقصى ما زال يقذف أمواجه، ومهما ظهر حكّام سوريا الجدد بمظهر الحريص على القبول الأميركي والأوروبي، وربما الإسرائيلي، ومهما كانت أولوياتهم بالسيطرة الأمنية على حساب النظام السابق حصراً، إلا أن خلفيّتهم الفكرية والنفسية مع تنوّعهم الحزبي، إضافة إلى تأثيرات الإقليم من حولهم وفيما بينهم، واحتمال انفتاح بعضهم على حماس، حيث التقارب في المشرب الفكري، ربما هذا يعجّل في تغييرات جذرية في المشهد السوري في غير صالح "إسرائيل".
كما أنّ التناقضات الداخلية في واقع سوريا مع الكرد وهم يسيطرون على ثلث سوريا، وأيضاً الدروز في الجنوب وعلاقتهم مع "إسرائيل" وقد خرجت أصوات عندهم ترفض حكم جبهة النصرة، خاصة مع تحرّكات غريبة للزعيم الدرزي موفق طريف في دبي و"تل أبيب"، وأخبار في الفضاء الإعلامي عن مخطّط لدولة درزية وممر داوود عبر السويداء حتى كردستان سوريا والعراق، ما يساهم في سرعة تحرّك كلّ الأطراف الإقليمية، وليس فقط "إسرائيل"، بهدف ملء شواغر في الخواصر السورية، بل إن التحدّي الإسرائيلي وقد تحوّل إلى أطماع مباشرة وصريحة في سوريا، مؤهّل قبل غيره لإغراق "إسرائيل" في الوحل السوري، ما يعني أنها قد تؤتى من حيث ظنت أنها تنتصر.