بوتين في الخليج... مسار موازٍ للمسار الاستراتيجي الأميركي
يفترض التقدير أن التوجّه الروسي سيتصف بشيء من التواضع المعبّر عن فهم واقعي لما يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط.
في ظلّ طوفان الأقصى وما تلاها من عملية عسكرية إسرائيلية برعاية أميركية، يصبح من غير الواقعي النظر إلى زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية على أنها ترتبط بتنسيق العلاقات الثنائية وتوطيدها فقط.
فمسار العلاقات بين الدولتين الخليجيتين وروسيا قد أثبت عمق العلاقة وثباتها، حيث لم ينجح الغرب في فصل مساراتها في ظل الأزمة الأوكرانية، إذ أصرّت المملكة السعودية والإمارات على عدم قطع علاقاتهما مع روسيا والتزمتا بالتخفيض الطوعي لإنتاج النفط، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية والغرب يضغطان لزيادته بما يسهّل عملية تحرّر الدول الأوروبية من التبعية للنفط والغاز الروسيّين.
من ناحية أخرى، يفترض الإشارة إلى الدور المزعوم الذي حاولت الدولتان الخليجيتان القيام به، حيث ادّعيتا سعيهما لتأدية دور الوسيط بين روسيا والغرب بما يعني رفضهما الانحياز إلى أي من الطرفين.
وإذا كان من الممكن التقدير أنهما قد نجحتا في ذلك خلال الأزمة الأوكرانية، حيث كانتا تبرّران ذلك في إطار سردية الحفاظ على مصالحهما وأهمية البقاء على الحياد في ظل معركة من الممكن أن تتحوّل إلى حرب عالمية، فإن موقفهما من الأحداث في غزة لم يدلل على هذا الحياد. فالقراءة المعمّقة لموقفهما من طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة تؤكد، على الرغم من الحياد الصوري الذي تدّعيانه، أنهما ملتزمتان بالمسار الأميركي.
فإدانتهما لطرفي النزاع لم تكن لتظهر موقفاً متوازناً حيث ضغطتا في جامعة الدول العربية لعدم تبنّي قرارات تؤدّي إلى وقف العدوان الإسرائيلي. كما أنهما ما زالتا ملتزمتين بعدم منع الولايات المتحدة الأميركية من استخدام قواعدها العسكرية الموجودة على أراضيهما لدعم الكيان الإسرائيلي لوجستياً، من دون أن ننسى استكمال مساعيهما لإنشاء مشروع الربط الاقتصادي الذي سيحرّر الكيان من عقدة باب المندب، والخطر اليمني الذي أثبت فعالية في تعطيل الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر.
وإضافة إلى ذلك، يظهر موقفهما الثابت على استكمال مسار التطبيع، رغم المجازر والأهداف التي يسعى إليها الكيان الإسرائيلي، مدى انحيازهما إلى هذا الأخير، حيث أسقطتا شرط حلّ الدولتين وشرط التزام الكيان الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة من قائمة الشروط التي تمسّك بها العرب منذ قمة القاهرة الاستثنائية عام 1996 وقمة بيروت 2002.
أما من ناحية روسيا، فعلى الرغم من الموقف الرسمي الداعي إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والسعي لرمي المسؤولية على الولايات المتحدة والغرب اللذين لم يبذلا جهوداً كافية لحلّ القضية الفلسطينية، فإن الواقعية تفترض موقفاً منحازاً للمقاومة في غزة، حيث أن المسار الغربي في فلسطين لا يختلف عن ذلك المعتمد في مواجهة روسيا في أوكرانيا، إذ إنه يعبّر عن سياسات تخدم مشروع الهيمنة الغربية على القرار الدولي، من دون أن ننسى أن الكيان الإسرائيلي لم يتردّد خلال الحرب في أوكرانيا في تبنّي السردية الغربية وتقديم الدعم العسكري لها.
وعليه، فإن المصلحة الروسية ستتحقّق من خلال تظهير الدعم الأميركي اللا مشروط للكيان على أنه من الأسباب الأساسية لإطالة أمد معاناة المدنيين في القطاع، إضافة إلى أنه في حال هزيمة المشروع الإسرائيلي الأميركي في غزة، فسيكون من الممكن تقديم هذه الهزيمة على أنها نتيجة طبيعية لتغيّر المزاج العالمي في غير مصلحة الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
وعليه، إضافة إلى تأكيد أهمية توطيد العلاقات الاقتصادية الثنائية وضمان عدم تأثّرها سلباً بمشروع الربط الاقتصادي، يمكن الجزم أن زيارة الرئيس الروسي إلى الدولتين الخليجيتين لن يخرج عن سعيه لتحقيق التوجّه السياسي الاستراتيجي السالف الذكر.
فالمحاولات الغربية التي تكثّفت منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط/فبراير 2023 من أجل إفشال مشروعها لبناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، ومحاولة عزلها عبر فرض العقوبات عليها والدفع للاستفراد بها من خلال إدانة توجّه أي دولة لتطوير العلاقات معها لم يُقابل من الجانب الروسي بدفاع سلبي يستهدف التقليل من آثار هذه المحاولات.
فقد أظهرت السياسة الخارجية الروسية ميلاً لتبنّي سياسات ترتكز على المبادرة والدفع لتسريع انهيار أسس الأحادية الغربية. فسلوك مسار تطوير منظمة البريكس واتفاقية شنغهاي بالتوازي مع تطوير علاقاتها الثنائية مع دول تتبنّى التوجّه نفسه أو تظهر استعداداً لتنويع مساراتها، يؤكد أن الهدف الروسي في مرحلة ما بعد العملية العسكرية في أوكرانيا قد تخطّى حدود المصلحة القومية ليطال محاولة تكريس رؤيتها للنظام العالمي.
وإذا كان من الممكن القول إن الفعالية في التوجّه الروسي قد تتظهّر في العلاقة مع دول كالجمهورية الإسلامية أو الصين أو من خلال البريكس وشنغهاي، فإنها لن تستطيع التعويل تماماً على توجّه الدولتين الخليجيتين حيث أنهما تقاربان علاقاتهما مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب في إطار من الحاجة الحيوية لبقائهما.
وبالتالي يفترض التقدير أن التوجّه الروسي سيتصف بشيء من التواضع المعبّر عن فهم واقعي لما يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط، في ظل عدم واقعية سيناريو تخلي الولايات المتحدة عن موقعها وأدوات قوتها في المنطقة بسهولة.
من ناحية أخرى، لا يعبّر الموقف الروسي تجاه الكيان الإسرائيلي عن إطار مبدئي رافض لوجوده أو لانحياز تامّ لمحور المقاومة، وإنما يحمل في طياته بذوراً براغماتية تستهدف ضرورة الركون إلى حل أممي عادل للقضية الفلسطينية، بما يمكن أن يظهر فعالية الأطر الأممية في مقابل الحلول الأحادية التي يحاول الغرب فرضها على المنطقة.
وبالتالي فإن ذلك يتطلّب ضرورة إفشال المخطط الإسرائيلي في غزة والحؤول دون تحقيقه للأهداف التي أعلنها، حيث إن نجاح هذا المخطط سيشكّل مدخلاً لتهميش الخيارات الأممية والتعددية وإعادة ترتيب الواقع السياسي في المنطقة بما يتوافق مع الرؤية الاستراتيجية الأحادية الأميركية.
وعليه، فالانطلاق من الرؤية الروسية لما يمكن تحقيقه على المستوى الاستراتيجي في المملكة العربية السعودية والإمارات، بالتوازي مع البراغماتية الروسية التي تفترض أن الحلول الأممية ستشكّل انتكاسة للمشروع الأميركي في المنطقة، فإن أقصى ما يمكن أن يكون الرئيس الروسي قد عرضه مع قيادة الدولتين الخليجيتين هو ضرورة الدفع خليجياً وعربياً لوقف إطلاق النار في غزة، ومحاولة البحث عن أسس لوقف إطلاق نار طويل المدى بين جنبات الحلول الأممية، المعتبرة عادلة لدى القيادة الروسية، التي تأسست على خيار التقسيم وحل الدولتين.
هذا بعيداً عمّا فشل الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة في التمهيد له، حيث إن مسار التطبيع الذي انطلق في المرحلة الأخيرة بقوة مع اتفاقات أبراهام وما زال مستمراً مع الجهود الأميركية المبذولة لصياغة اتفاق سعودي إسرائيلي لم ينعكس إيجاباً على القضية الفلسطينية، إضافة إلى أن ما حدث بعد طوفان الأقصى سيؤسس حتماً لوعي فلسطيني معادٍ للسياسات الأحادية الأميركية ومن يدعمها دولياً وإقليمياً.
ولذلك، فإذا كان من الممكن الدفع لتبنّي الدولتين الخليجيتين لهذا التوجّه، انطلاقاً من يقين بفشل المسار الأميركي والإسرائيلي في إدارة الأزمة، فإن ذلك سيدعم الادعاء الروسي بفشل المنظومة الأميركية والغربية في إيجاد حلول لأكثر القضايا تعقيداً في الشرق الأوسط.
ومن خلال ربط هذا الفشل مع الفشل الأميركي الذي تسوّق له الدولة الروسية في أوكرانيا، حيث إنها تحمّل السلوك الأميركي في أوروبا مسؤولية ما آلت إليه الأمور في شرق القارة من انعدام للأمن الذي يمكن في أي لحظة أن يتحوّل إلى حرب، يمكن التقدير أن الزيارة الحالية للرئيس الروسي إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية قد تندرج ضمن الجهود الرامية لتأسيس مسارات موازية وأكثر فعالية في مواجهة المسارات الأميركية والغربية.