برغم جريمة نابلس.. دوافع مشاركة السلطة في قمة العقبة

الإرادة الدولية والاقليمية والاسرائيلية التي غيبت الراحل ياسر عرفات عن قمة العقبة الأولى، بسبب دعمه لانتفاضة الأقصى، وأشركت محمود عباس فيها، بداعي استعداده لمحاربة المقاومة، لا زالت متمسكة بالأخير وسياساته، إلا أنها تبدو أكثر قبولاً لمرشحه للخلافة.

  • السلطة الفلسطينية ماضية في مسارها بالرغم من علمها القاطع بغياب أي أفق سياسي وانهيار حل الدولتين
    السلطة الفلسطينية ماضية في مسارها بالرغم من علمها القاطع بغياب أي أفق سياسي وانهيار حل الدولتين

ارتكبت قوات العدو الإسرائيلي جريمة بشعة في وضح النهار في مدينة نابلس المحتلة، أسفرت عن استشهاد 11 فلسطينياً وإصابة العشرات. ورداً على الجريمة الصهيونية، أطلقت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عدداً من الصواريخ في اتجاه مدينة عسقلان المحتلة، واندلعت مواجهات شعبية بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، وندّدت مختلف الأطراف الدولية بالجريمة الصهيونية.

سبق أحداث نابلس تطوّر سياسي لافت، فقد تراجعت السلطة الفلسطينية عن عرض مشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي عبر دولة الإمارات، يدين منح الحكومة الإسرائيلية تراخيص لتوسيع 9 بؤر استيطانية عشوائية وبناء 10 آلاف وحدة سكنية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، كما صادقت الحكومة الإسرائيلية على بناء أكثر من ألف وحدة استيطانية في تجمّع مستوطنات "غوش عتصيون"، جنوب بيت لحم المحتلة.

سعت السلطة الفلسطينية لتبرير موقفها من خلال تسريبات أشارت إلى أن سحب مشروع القرار تم في مقابل خطوات تعهدت بها "إسرائيل"، منها تأجيل القرارات الاستيطانية، وتخفيض اقتحاماتها للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وتعهد أميركي بإعادة افتتاح قنصليتها في شرقي القدس، وعقد لقاء بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس السلطة محمود عباس بداية العام المقبل، لكنّ الحكومة الإسرائيلية نفت تقديم أي تنازلات، وهو ما أكدته جريمة نابلس.

ساد الاعتقاد بأن السلطة الفلسطينية تعرضت لخديعة أميركية-إسرائيلية، سعت لتجنيب الحرج الأميركي في مجلس الأمن إذا ما عرض مشروع القرار واضطرت إلى استخدام حق النقض (الفيتو)، الأمر الذي سيفرض على السلطة اتخاذ رد فعل على الخديعة، والتي عززتها جريمة "جيش" العدو في نابلس.

لكن، ما أشارت إليه مصادر مختلفة بشأن مشاركة السلطة في قمة العقبة الأمنية الخماسية المزمع عقدها الأحد المقبل، برعاية أميركية ويشارك فيها، بالإضافة إلى السلطة والعدو، كلٌّ من مصر والأردن، يؤكد أن السلطة ماضية في مسارها، بالرغم من علمها القاطع بغياب أي أفق سياسي، وانهيار حل الدولتين بفعل الوقائع التي فرضتها وستفرضها "إسرائيل" على الأرض.

هذا الأمر يطرح تساؤلات عديدة عن دوافع السلطة للتمسك بخياراتها، على نحو أدى إلى مزيد من القضم في مكانتها وشرعيتها الوطنية والشعبية، كما أدى إلى توسع الانقسامات داخل حركة فتح عمودياً وأفقياً، واتساع الفجوة بين قواعد الحركة وقيادتها الرسمية، الأمر الذي نتج منه انخراط عناصر من الحركة وكوادرها ومنتسبي أجهزتها الأمنية، في العمل العسكري المقاوم عبر الانضمام إلى الخلايا العسكرية أو تنفيذ عمليات عسكرية ضد جنود العدو والمستوطنين بشكل منفرد.

لا ينفصل قرار السلطة المتوقع عن السياسات العامة التي تبناها الرئيس محمود عباس منذ توليه رئاسة السلطة عام 2005، والتي تتلخص في لاءات ثلاث ونعم ثلاث، وهي: لا للمقاومة المسلحة، ولا للانتفاضة الشعبية الخشنة، ولا بديل من المفاوضات، ونعم للتنسيق الأمني مع العدو، ونعم لبقاء السلطة، ونعم للالتزام بشروط الرباعية كشرط للمصالحة وإنهاء الانقسام. 

لا تنفصل مشاركة السلطة المتوقعة في قمة العقبة الأمنية عن السياق العام لسلوك السلطة السياسي والأمني، لكن مشاركتها، هذه المرة، في ضوء تولي حكومة يمين فاشية في "إسرائيل" تتضمن أجندتها ضم الضفة، وتوسّعاً غير مسبوق في الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية، كما تأتي المشاركة في ضوء تراجع شرعية حكومة العدو الفاشية عالمياً، بفعل سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والتي تتعارض مع رغبة المجتمع الدولي في خفض التصعيد في المنطقة بسبب الصراع في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية العالمية.

 ونظراً إلى التغييرات القضائية التي تمس القيم الديمقراطية التي يدّعي الغرب أنه يتشاركها مع "إسرائيل"، الأمر الذي يعني أن قرار المشاركة في القمة سيؤدي إلى تسويق حكومة نتنياهو وتعزيز شرعيتها، كما سيؤدي إلى رفع الغطاء عن الحراك الثوري في مواجهة الاحتلال في الضفة، وإدانته ووصفه بالإرهاب، كون السلطة تشارك في قمة أمنية أحد أبرز أهدافها السيطرة على الحالة الثورية في الضفة ومنع توسعها وتفكيك الخلايا العسكرية فيها، والعمل على نزع فتيل المواجهة لا سيما قبل شهر رمضان المبارك، في ضوء التخوفات الأمنية التي باتت مشتركة للأطراف المشاركة في القمة، والتحذير من انعكاس تصاعد المواجهة على الجبهة الفلسطينية على المنطقة برمتها. 

أشارت مصادر إعلامية أميركية وإسرائيلية متطابقة، ومصادر خاصة بنا قريبة من صناعة القرار داخل السلطة الفلسطينية، أن الأخيرة وافقت على الخطة الأمنية الأميركية التي يترأسها الجنرال الأميركي مايك فنزل، والتي ستشمل تدريب آلاف من عناصر أجهزة السلطة في قواعد تدريبية على الأراضي الأردنية، وسيخضعون لبرنامج تدريبي خاص بإشراف أميركي، بهدف تفكيك التشكيلات العسكرية في نابلس وجنين.

إن المشاركة المرتقبة للسلطة الفلسطينية في قمة العقبة، تأتي كذلك في سياق التخوفات المشتركة لدول التطبيع والسلطة و"إسرائيل" والولايات المتحدة من المرحلة التي ستلي غياب الرئيس محمود عباس، في ضوء الخشية من اندلاع فوضى عارمة في الضفة في أعقاب غياب الرئيس، نظراً إلى الانتشار المكثف للسلاح الذي قد تستخدمه التيارات المتصارعة على خلافة الرئيس داخل حركة فتح، وستستخدمه خلايا المقاومة في مواجهة "إسرائيل".

 وبالتالي، فإن المصلحة المشتركة لكليهما، تقتضي العمل على الحد من انتشار السلاح والمظاهر العسكرية سواء التي تستعد لمعركة الخلافة أو للمقاومة، الأمر الذي يرجح مضي السلطة في الانخراط في الخطة الأميركية الأمنية برعاية ودعم دوليين وإقليميين واسعين.

من جانب آخر، تسعى السلطة الفلسطينية لتحقيق عدد من المكاسب من مشاركتها في قمة العقبة، منها، تعزيز مكانتها لدى الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، على اعتبار أنها عامل مهم في الحفاظ على الاستقرار وخفض التصعيد في المنطقة، ودورها المهم في التنسيق الأمني ومواجهة قوى المقاومة، الأمر الذي يستوجب دعمها مالياً، وعدم فرض عقوبات اقتصادية عليها من حكومة نتنياهو، وتقديم دعم رمزي معنوي لها، مثل إعادة فتح القنصلية الأميركية شرقي القدس، وعدم ممارسة الضغوط الدولية عليها لإجراء انتخابات عامة، وقضايا الحريات، والحد من تفشي الفساد في مؤسساتها، وغيرها.

ترتبط إرهاصات صراع خلافة الرئيس عباس باتخاذ قرار المشاركة في قمة العقبة، إذ يسعى من خلالها حسين الشيخ، رئيس وفد السلطة إلى القمة وأحد أبرز المنافسين على كرسي الرئاسة، ليحظى بالدعم الأميركي والإقليمي والإسرائيلي لخلافة أبو مازن، الأمر الذي يحتاج منه إلى إثبات قدراته على استعادة السيطرة الأمنية والتعاطي مع الخطة الأمنية الأميركية.

من المفارقات التاريخية، أنه تم عقد قمة في العقبة قبل نحو 20 عاماً، وتحديداً في عام 2004، برعاية أميركية ومشاركة مصر والأردن، والسلطة الفلسطينية ممثلة برئيس الوزراء في حينه محمود عباس، ولم يدعَ الراحل ياسر عرفات إليها، وبحثت القمة خارطة الطريق الأميركية، أعقبها وفاة عرفات، وتولي عباس رئاسة السلطة عام 2005، وبرغم التقارب في أجندة القمتين والأطراف المشاركة فيهما، ومكان انعقادهما، فإن الإرادة الدولية والإقليمية والإسرائيلية التي غيّبت عرفات عن القمة الأولى في حينه، بسبب دعمه لانتفاضة الأقصى، وأشركت عباس فيها، بداعي استعداده لمحاربة المقاومة، ما زالت متمسكة بالأخير وسياساته، لكنها تبدو أكثر قبولاً لمرشحه للخلافة، ومندوبه لرئاسة قمة العقبة القادمة.