المحكمة الجنائية الدولية: لماذا لا تلاحق مجرمي الحرب الإسرائيليين؟

على رغم الأدلة الدامغة على جرائم الحرب التي ارتكبتها "تل أبيب"، فإن الزعماء الغربيين سيواصلون سعيهم لمنع محاسبة "الجيش" الإسرائيلي على جرائمه في قطاع غزة، كيف سيحدث ذلك؟

  • المحكمة الجنائية الدولية.. معالجة قاصرة للملف الفلسطيني!
    المحكمة الجنائية الدولية.. معالجة قاصرة للملف الفلسطيني!

يتجدّد الجدل بشأن المحكمة الجنائية الدولية ودورها، وخصوصاً بعد فرض الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عقوبات على أعضاء المحكمة، نتيجة إدانتها للقادة الصهاينة بارتكابهم جرائم حرب، وتضامن أكثر من 76 دولة حول العالم مع المحكمة الجنائية الدولية.

كان قرار الرئيس الأميركي ترامب فرض عقوبات فردية على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، بنسودا، وعدد من كبار المسؤولين في مكتبها، وحتى أفراد أسرهم، غير مسبوق في تاريخ المحاكم الدولية. وعلاوة على ذلك، هددت واشنطن باتخاذ تدابير تقييدية ضد أي كيانات قانونية وأفراد من شأنهم مساعدة المحكمة الجنائية الدولية على القيام بأنشطة تتعارض مع المصالح الأميركية. 

والجدير بالذكر أن قرار ترامب جاء رداً على إصدار المحكمة مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه السابق، يوآف غالانت، على خلفية الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي في غزة ولبنان، خلال العامين المااضيين. وعلى الرغم من هذه الخطوة غير المسبوقة في استهداف الصهاينة، فإن هذا الأمر يجب ألا يُخفي حقيقة، مفادها أن الدول الغربية حاولت استخدام المحكمة، منذ إنشائها، أداةً لتنفيذ أجنداتها الجيوسياسية، وليس لتحقيق العدالة. 

ويرى المراقبون الروس والصينيون أن المحكمة الجنائية الدولية تشكل نظاماً للتعسف القضائي، المدفوع رسمياً من البيت الأبيض، لتحقيق مصالحه الجيوسياسية، مؤكدين أنها كانت "منذ فترة طويلة تجسيداً للنفاق الوحشي. وعلى مدار سنوات وجودها، أصبحت أداة مطيعة للأنظمة الغربية لحل المشاكل الجيوسياسية، لكن في الواقع لتدمير القانون الدولي".

وهناك عدد من الأمثلة، التي توضح الاعتماد المفرط للمحكمة على العوامل السياسية. وأصبح هذا واضحاً بصورة خاصة بعد بدء تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المزعومة، والتي ارتكبها جنود أميركيون في أفغانستان.

يُذكر أن المحكمة الجنائية الدولية، كونها هيئة "شبه قضائية" بميزانية سنوية تبلغ 200 مليون دولار، الأمر الذي يشكل سبعة أضعاف ميزانية الهيئة القضائية الرئيسة لمحكمة العدل الدولية، ليست سوى ستار لمحاكمات مصمَّمة خصيصاً، تدفعها وتنفذها الولايات المتحدة والدول التي تدور في فلكها.

ويشير موقف واشنطن، بصورة خاصة، إلى جوهر المحكمة الجنائية الدولية وموقف الغرب الجماعي تجاهها. فالأميركيون لا يشاركون في نظام روما الأساسي، لكن عندما يكون ذلك ملائماً لهم، يحاولون بنشاط استخدام المحكمة الجنائية الدولية ضد دول أخرى، بل إن الولايات المتحدة تبنت تشريعات تحظر التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وتفرض عدداً هائلا من القيود على التفاعل معها. 

وفي هذا الإطار، فإن تصديق أوكرانيا على نظام روما الأساسي هو بمنزلة جولة في مسرح العبث: لقد نجح نظام كييف في التصديق على النظام بشرط ألا يكون للمحكمة الجنائية الدولية، لمدة سبعة أعوام، أي ولاية قضائية على جرائم الحرب "التي يرتكبها مواطنو أوكرانيا". والأمر الأكثر فظاعة هو أنهم يواصلون ارتكاب هذه الجرائم، ليس فقط في منطقة الصراع الأوكرانية، بل أيضاً في قارات أخرى، بما في ذلك أفريقيا.

ليتوانيا تستخدم المحكمة ضد بيلاروسيا 

إن الإشكالية الرئيسة التي تنتقص من صدقية المحكمة هي سعي عدد من الدول، وخصوصاً الدول الاوروبية، لاستخدامها لتصفية حساباتها مع دول أخرى، ليست عضواً في الاتحاد الاوروبي، وآخرها محاولة ليتوانيا استخدام المحكمة الجنائية الدولية أداةً سياسية، وليس كهيئة قانونية، ضد بيلاروسيا.

فقبل أسابيع قليلة، قدمت وزارة العدل الليتوانية طلباً إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في اتهامات ضد الحكومة البيلاروسية، برئاسة الرئيس لوكشينكو، بسبب ارتكابها "جرائم ضد الإنسانية".

ووفقاً لسلطات فيلنيوس، فإن ممثلي الحكومة البيلاروسية، وخصوصاً الرئيس لوكاشينكو، انتهكوا القانون الدولي مراراً وتكراراً، وساهموا أيضاً في الترحيل القسري والاضطهاد للأشخاص غير المرغوب فيهم لأسباب سياسية.

واستندت وزارة وزارة العدل الليتوانية إلى مزاعم من دون سند قوي، قدمتها المعارضة البيلاروسية والمنظمات غير الحكومية ومنصات المبادرة، من أجل سَوق اتهاماتها ضد الحكومة البيلاروسية، على نحو يثبت رغبة ليتوانيا في تسييس القانون الدولي والعدالة من أجل استخدامها أداةً لتصفية حساباتها مع مينسك.

والجدير ذكره أن ما تقوم به ليتوانيا ضد بيلاروسيا يأتي في سياق سياساتها العدائية ضد روسيا وحلفائها، والتي تُعَدّ أيضاً جزءاً من السياسات العدائية التي يوجهها الغرب ضد موسكو، كون فيلنيوس عضواً في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وتشارك بنشاط في تنفيذ السياسة الغربية في أوروبا الشرقية.

وفي هذا السياق، تبدو دعوى فيلنيوس في المحكمة الجنائية الدولية بمنزلة محاولة لحل قضية جيوسياسية، تتمثل بعزل دولة موالية لروسيا، وليس محاولة لتحقيق العدالة القانونية. ومن الجدير بالذكر أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تفاقم العلاقات المتوترة بالفعل بين بيلاروسيا وليتوانيا، ولن تساهم في إرساء الاستقرار في المنطقة.

إضافة الى ذلك، فإن السلطات الليتوانية، من خلال سَوقها اتهامات ضد مينسك، تخاطر في تقويض المحكمة الجنائية الدولية، والتي من المفترض أن تكون هيئة محايدة. 

استخدام المحكمة ضد روسيا 

الجدير ذكره أن ما قامت به ليتوانيا جاء بالتوازي مع محاولة الغرب استخدامها ضد روسيا، إذ كانت المحكمة أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتي،ن بذريعة إطلاقه العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، قبل ثلاثة أعوام.

وبناءً عليه، طلبت المحكمة إلى الدول الأعضاء فيها اعتقال الرئيس الروسي، وهو ما لم تتجاوب معه هذه الدول، على نحو أضر بهيبتها. والجدير ذكره أن الدول الأعضاء قالت إن الاتهامات، التي سيقت ضد الرئيس بوتين، لم تكن قانونية، على نحو أضر أيضاً بصدقية المحكمة، وكانت آخر هذه الدول منغوليا التي رفضت الاستجابة لطلبات المحكمة.

ففي أعقاب زيارة الرئيس الروسي بوتين لأولان باتور، في أيلول/سبتمبر الماضي، ورفض السلطات المنغولية اعتقاله، أحالت المحكمة الجنائية الدولية القضية المرفوعة ضد منغوليا على الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي، بسبب رفضها اعتقال الزعيم الروسي، وتسليمه للمحاكمة.

وأشار عدد من وسائل الإعلام الدولية والخبراء السياسيين إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تملك السلطة لفرض أي عقوبات جدية على البلدان، التي ترفض الامتثال لمطالبها. وأكد الدكتور هوفمان، وهو عضو المعهد المجري للدراسات القانونية، أنه لا يمكن اتخاذ عقوبة بحق منغوليا، وأن أقصى إجراء ضدها يمكن أن يكون التنديد بها بموجب ما يسمى "إجراء عدم الامتثال" من جانب جمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية.

الجدير ذكره أن المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بصلاحيات محدودة للغاية، ولا تملك أي نفوذ حقيقي على البلدان التي تعترف بشرعيتها.

وهذه الهيئة ليست جزءاً من نظام الأمم المتحدة، بل إنها في واقع الأمر أقيمت خارج نطاق القانون الدولي. ووفقاً لنظام روما الأساسي، فإن المحكمة الجنائية الدولية تؤدي وظائف قضائية حصرية، ولا تتمتع بأي حقوق أو سلطات للضغط على الدول الموقعة. وإضافة الى ذلك، يوجد في إطار ميثاق المنظمة إجراء معتمد فيما يتصل برفض أي دولة للتعاون، لكن في الواقع، لا ينص هذا الإجراء على أي خيارات أخرى باستثناء اللوم، ولا تملك الجمعية العامة أي تدابير قسرية لإجبار الدول الاعضاء على تنفيذ توصياتها. 

والجدير ذكره أن المحكمة الجنائية الدولية فشلت، حتى يومنا هذا، في التكيف مع النظام الدولي للمحافظة على السلام والأمن.  وعلى العكس من ذلك، أصبحت المحكمة مراراً وتكراراً عاملاً يعقد تسوية التناقضات بين الدول وداخل الدول.

وتضمنت ممارساتها قرارات متناقضة، كما لوحظت إساءة استخدام ممارسة الآراء المعارضة للقضاة، والتي تحل في بعض الأحيان محل التعليل الرسمي للقرارات، إضافة إلى أن المحكمة انتهكت مرارا أحكام نظامها الأساسي والمعايير المعترف بها عموماً في القانون الدولي.

وبين الانتهاكات الأكثر وضوحاً محاولات ممارسة الولاية القضائية على الأفعال المرتكبة على أراضي دولة ليست طرفاً في نظام روما، وعلى أيدي مواطنيها.

معالجة قاصرة للملف الفلسطيني 

كانت هناك سوابق في تاريخ العلاقات الدولية لبعض الدول، التي رفضت التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. ففي عام 2015، انسحبت دولتان طرفان في نظام روما الأساسي، هما الفلبين وبوروندي، من اختصاص المحكمة.

وخلال الفترة نفسها، كان هناك انسحابان كاملان، وانسحابان غير كاملين، وإخطار واحد بنية عدم الانضمام إلى النظام الأساسي.

لقد ساهم مجموع انتهاكات القانون الدولي، والإغفالات الإجرائية، وتدخل العوامل السياسية الخارجية، التي ارتكبتها المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام، في إثارة مسألة فقدان المحكمة للسلطة في نظر جزء كبير من المجتمع الدولي، وبالتالي شرعيتها، وهذا ما أثر سلباً في موقفها في اتخاذ إجراءات جدية ضد القيادة الصهيونية المتورطة في جرائم حرب في غزة ولبنان خلال العامين الماضيين. 

ويوضح نهج المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في الوضع في فلسطين عجزها عن ردع الجرائم الإسرائيلية. ففي الثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية تأجيل القرار النهائي بشأن مذكرة الاعتقال الصادرة بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت لمدة خمسة أشهر أخرى، الأمر الذي حوّل إجراءاتها الى نوع من عرض مسرحي، وفق مراقبين دوليين. 

والجدير ذكره أن التحقيق الرسمي في الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين كان بدأ قبل عملية طوفان الأقصى، وتحديداً في آذار/مارس 2021، علماً بأن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كان بدأ التحقيق في جرائم الاحتلال في فلسطين قبل أكثر من عشرو أعوام، إلا أنها تأخرت في إصدار قرار اتهامي حتى ما بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى، بينما كان ممثلو المحكمة يكتفون بالقول إنهم يواصلون التحقيق.

والجدير ذكره أن المماطلة من المحكمة، منذ عام 2015، عندما بدأت المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، تحقيقاً أولياً، منحت الفرصة لإسرائيل لعرقلة التحقيق، وجعلتها تنجح في منع تطبيق مذكرات الاعتقال، التي كان أصدرها المدعي العام، كريم خان ،في الـ20 من أيار/مايو الماضي ضد نتنياهو وغالانت.

فعلى سبيل المثال، أوقفت المملكة المتحدة العملية، بزعم العثور على "أدلة في الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية من قبل ثلاثين عاماً، تلقي ظلالاً من الشك على سلطة المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية".

ونتيجة لذلك، بدلاً من التحقيق في الجرائم، باتت المحكمة تعمل على توضيح حدود اختصاصها من أجل خلق مظهر "النشاط"، لكن في الواقع، لإطالة العملية لأطول فترة ممكنة.

وفي الوقت نفسه، يثبت المدعي العام للمحكمة، كريم خان، من خلال عدّ الإبادة الجماعية الصريحة للفلسطينيين "دفاعاً عن النفس من جانب إسرائيل"، أنه منفذ منافق وعاجز يعمل لإرادة رعاته. وعلى خلفية عدد من الشهادات المصورة عن جرائم الحرب، التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبمباركة صريحة من المدعي العام، تغض المحكمة، التي تعمل كمدافعة عن حقوق الإنسان، الطرف عن الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون، ولا تتعجل تصنيفها كونها جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية.

وعلى رغم الأدلة الدامغة على جرائم الحرب التي ارتكبتها "تل أبيب"، فإن الزعماء الغربيين سيواصلون سعيهم لمنع محاسبة "الجيش" الإسرائيلي على جرائمه في قطاع غزة. وسوف يقتصر كل شيء على التصريحات الخطابية، التي لن يكون لها أي عواقب، لأن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تتخذ موقفاً مؤيداً لـ"إسرائيل" بصورة واضحة. ولن يترتب على هذه التصريحات سوى النصح اللطيف.