الغنوشي ونوستالجيا "معركة المساجد": خارج اللحظة التاريخيّة

تحتفي أدبيات الحركة الإسلامية في تونس في العديد من الكتابات والسرديات التاريخية المتداولة في أوساطها بما تسميه "معركة المساجد".

  • كانت المساجد بمثابة الخيمة التي تلجأ إليها حركة النهضة، كلّما اشتد الخناق عليها في زمن الأزمات والكدمات كانت تُوجه إليها من نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي.
    كانت المساجد بمثابة الخيمة التي تلجأ إليها حركة النهضة، كلّما اشتد الخناق عليها في زمن الأزمات والكدمات كانت تُوجه إليها من نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي.

قبل أكثر من نصف قرن، ولدت الجماعة الإسلامية في تونس، حركة النهضة اليوم، من رحم النشاط الدعوي المسجدي. كان بروز قيادات دعوية من ذوي الطاقات الخطابية البليغة والمفوّهة، من أمثال القاضي عبد الفتاح مورو، والمحامي حسن الغضباني، وأستاذ الفلسفة راشد الغنوشي، والجامعي احميدة النيفر، والاقتصادي صالح كركر، بمثابة المرحلة الجنينية لميلاد الحركة الإسلاميّة التي تحولت إلى حزب سياسي غير معترف به من الدولة التونسية تحت مسمّى الاتجاه الإسلامي في العام 1981، قبل أن تصل إلى سدّة الحكم بعد انتخابات 2011، بعيد الثورة التي فتحت صفحة جديدة في تاريخ البلاد والإسلاميين على حدّ سواء.

على امتداد سنوات سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، انشق من انشق وابتعد من ابتعد عن حركة "الاتجاه الإسلامي" التي حملت اسم حركة النهضة منذ العام 1989، غير أنّ هذه الحركة حافظت على جوهر روح جهازها التنظيمي القائم على المزج بين الدعوي والسياسي، وبين عباءة الشيخ المحافظ وبدلة رجل السياسة الساعي لمواكبة روح العصر، في مجتمع تونسي قطع فيه عهدئذ الرئيس السابق الحبيب بورقيبة أشواطاً كبيرة في مسار التحديث والعلمنة واحتكار الدولة للفضاء الديني وحرية الاجتهاد في تأويل كلّ ما علاقة له بالدين والحياة.

نجحت وقتها الحركة الإسلامية في استقطاب العديد من الشباب التونسي المتديّن المتحمس لأطروحات من قبيل أنّ الإسلام دين ودولة، وأنه سيف وقرآن، وأنّ ما قام به بورقيبة في تونس هو مشروع تغريبي يقوم على ضرب مكونات الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي، وجب التصدي له على أرض جامع الزيتونة المعمور، بحسب الأدبيات الرائجة آنذاك. وبفضل النشاط الدعوي، تمكنت في وقت وجيز من خلق حاضنة شعبية متماهية مع مشروعها السياسي الذي يدور في فلك الرؤية الفكرية الإخوانية عموماً.

لقد كان ردّ فعل نظام بورقيبة (1987/1956) تجاه تلك الظاهرة التي أسماها آنذاك عالم الاجتماع التونسي عبد الباقي الهرماسي "الإسلام الاحتجاجي" متأخراً نسبيّاً، ووفقاً للمصلحة السياسيّة البراغماتية.

في البداية، تعامل معها بسياسة غضّ البصر، وربما يعزى ذلك إلى استراتيجية تهدف إلى تحجيم دور التيّار اليساري الماركسي المعارض الذي كان مكتسحاً الفضاء العام، وخصوصاً في الأوساط الجامعية والثقافية، لكنّه قرّر لاحقاً شنّ حملة ضدّ قيادات التيّار الإسلامي، لمنعها من الإمامة في المساجد وتنظيم الدروس الدينية التي لم تكن تخلو من جرعات سياسيّة.

ومع احتدام المواجهة بين الاتجاه الإسلامي والنظام الحاكم وقتها في أواخر عهد الرئيس بورقيبة (1985-1987) وبدايات حقبة الرئيس زين العابدين بن علي، ولا سيما بين 1989 و1991، كانت المساجد والجوامع مسرحاً لصراع سياسي مستعر.

تحتفي أدبيات الحركة الإسلامية في تونس في العديد من الكتابات والسرديات التاريخية المتداولة في أوساطها بما تسميه "معركة المساجد"، التي كان من رموزها القيادي في الجناح الدعوي للحركة وقتها الشيخ مبروك الزرن.

طيلة هذه العقود، كانت حركة النهضة تعتبر أنّ المساجد والجوامع هي مجالها الحيوي الطبيعي الذي لا يمكن أن يفتكّه منها أي نظام حكم كان. كان المجال الديني هو الفضاء الذي أينعت فيه. ومن خلاله، تمكنت من تعبئة الشارع لمصلحة مشروعها السياسي. 

لقد كانت المساجد بمثابة الخيمة التي تلجأ إليها الحركة كلّما اشتد الخناق عليها في زمن الأزمات والكدمات التي كانت تُوجه إليها من نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي للحفاظ على حضورها المجتمعي.

اليوم، وبعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسور، ولا سيما في أعقاب تجربة الحكم خلال العشرية الماضية، والتي انتهت بإزاحتها من السلطة من قبل الرئيس قيس سعيّد غداة إعلان التدابير الاستثنائية ليلة 25 تموز/يوليو 2021، يعود الجدل إلى الشارع التونسي حول الحضور النهضوي في الفضاء الديني، ولكن تغيّرت الكثير من المواقع والأدوار والسياقات.

هنا، نتحدث أساساً عما اكتنف جولة زعيم الحركة راشد الغنوشي في العديد من مساجد مدن تونس الكبرى لأداء صلاة التراويح خلال شهر رمضان الحالي كمصلٍّ، وليس كإمام خطيب أو واعظ ديني.

جوبه حضور الغنوشي في صلاة التراويح في عدد من المساجد والجوامع بحملة ملاحقات شنّها عدد من المواطنين الذين رفعوا شعارات مناوئة له، تطالبه بالرحيل وعدم توظيف بيوت الله، محملين إياه مسؤولية ما يعتبرونه "العشرية السوداء". 

تقول حركة النهضة إنّ ما يحصل هو محاولة لمنع مواطن تونسي من أداء شعائر صلاة التراويح في شهر فضيل يفترض أن يسود فيه التسامح، متهمة من تعتبرهم "ميليشيات" الرئيس قيس سعيّد باستهداف رئيس الحزب ورئيس البرلمان المنحل. 

لا نعلم حقيقة إن كان ما يجري فعلاً هو عمل منظم من قبل أنصار الرئيس سعيّد، لكن في المقابل لا يمكن إنكار موجة الغضب لدى قطاعات واسعة من قبل الشعب التونسي تجاه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي كان الرجل القوي ومهندس العملية السياسية طيلة السنوات الماضية. 

مشاهد الفيديو التي تمّ تداولها بكثافة على نطاق واسع، ولا سيما في وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، والتي يسوّق أصحابها على أنّها توثق لعمليات "طرد" للغنوشي الذي بات، بحسب رأيهم، "منبوذاً في المجتمع"، لم تثن الأخير عن مواصلة جولته كل ليلة بأسلوب ينطوي على تحدٍ، ليس بمنأى عن رهانات سياسيّة ذات بعد تاريخي ماضوي. 

وبعيداً عن مبدئية عدم مناقشة حقّ أي مواطن تونس متمتع بحقوقه المدنية والسياسية في التنقل لممارسة ما يرى أنها حريّة معتقد يكفلها الدستور، فإنّ من المهم الوقوف وقفة تأمل عند رمزية هذه المعركة التي باتت تشغل الرأي العام في تونس.

تعليقاً على هذه المستجدات، كتب القيادي المؤسّس في حركة النهضة فاضل البلدي -غادر الحزب منذ 1991- في صفحته في "فايسبوك": "عادت بي الذاكرة إلى 50 سنة خلت، عندما اجتمع نفر قليل في زاوية سيدي بن عروس، وتعاهدوا على إنشاء جماعة تقوم على الدعوة وتنظم الجهود وتكوّن شباباً ينشرون الخير عبر أرجاء الوطن بالكلمة الطيبة والسلوك الحسن... طبعاً، لقد كبر الجسم، وامتدت الحركة، وشاخ الرجال، وابيضت اللحى، ومضى من مضى، ولكن لا يزال رجال ونساء ظاهرون على الحق لا تثنيهم المحن والأتعاب والأسقام... لا شك في أن الجسم يحتاج إلى تجديد وتطوير ومواكبة الزمن الجديد، ولكن ما ينبغي لملح الأرض أن يغيب، فهو الخير والبركة".

لا مراء في أنّ حركة النهضة تعيش اليوم أسوأ حالاتها منذ الثورة؛ فالحزب الذي نجح في الحصول على المرتبة الأولى في انتخابات 2011 برصيد انتخابي ناهز 1.5 مليون صوت، عرف خلال العشرية الأخيرة انحداراً غير مسبوق في شعبيته، ولم يفلح في انتخابات 2019 سوى في الحصول على قرابة نصف مليون صوت في الانتخابات التشريعية. كما أنّ مرشحه في الرئاسيات عبد الفتاح مورو انهزم منذ الدور الأول أمام الرئيس الحالي قيس سعيّد الذي حصل على أكثر من 2.7 مليون صوت في الدور الثاني.

إنّ انحسار شعبية النهضة وتراجع سطوتها السياسية يُعزى في جزء منه على مستوى المسؤولية القيادية إلى الخيارات التي انتهجها زعيمها راشد الغنوشي، الذي تشير عمليات سبر الآراء في تونس إلى أنّه من الشخصيات الأقل ثقة لدى عموم التونسيين. ولا يختلف اثنان على أنّ وجود الغنوشي على رأس البرلمان المنحل ساهم في التعجيل في الإجهاز عليه من قبل الرئيس سعيّد.

اليوم، يسعى الغنوشي من خلال جولته الليلية الرمضانية في المساجد، تحت ذريعة أداء صلاة التراويح، إلى إحياء نوستالجيا العودة إلى الينابيع، إذ يجد الرجل جمهوراً قريباً منه ومن أفكار حزبه. هذه الجولة ليست بمنأى عن رغبة في تسجيل نقاط سياسية يستفيد منها الرجل الذي يسوّق مجدداً لخطاب المظلومية، محاولاً حشد صفوف أنصاره من الإسلاميين الذين يعتبرون أنّ ما يحصل هو انقلاب على المسار الديمقراطي الذي كانت النهضة أكبر مستفيد منه خلال السنوات الماضية.

إنّ عودة الغنوشي إلى الواجهة السياسية، ولكن هذه المرّة من بوابة حضوره في عدد من المساجد والجوامع، هي خيار غير اعتباطي؛ فالرجل الذي شبّه نفسه ذات يوم بـ"جلد التمساح الخشن"، في تعبير مجازي يقول من خلاله ضمنياً إنه قد يمرض، ولكنه لا يموت سياسياً، أي أنّه قادر على الصمود في وجه العواصف، بحسب تقديره، يبدو أنّه ما زال يمني النفس بمواصلة المسيرة رغم كلّ ما حصل، ورغم الدعوات التي توجه إليه بهدف إقناعه بضرورة التنحي عن رئاسة النهضة واعتزال العمل السياسي، كجزء من الحلّ لإنقاذ الحزب من مصير مجهول خلال الفترة القادمة، ولتجنيب البلاد مزيداً من الأزمات التي كان جزءاً منها.

من الواضح من خلال حنين الغنوشي إلى سنوات الصدام مع نظامي بورقيبة وبن علي عبر بوابة "معركة المساجد"، أنّ الرجل لم يستوعب الدرس بعد. من المعلوم أنّه معروف بقدرته الرهيبة على المناورة والتكيف مع مختلف السياقات والظروف السياسية، بما في ذلك تلك التي كان جزءاً من الأزمة فيها. لقد كان من الممكن أن يجنب الغنوشي البلاد عموماً، والبرلمان بشكل خاص، ما آلت إليه الأوضاع، لو التزم بما تعهد به في كانون الثاني/يناير 2011، حين عاد من منفاه اللندني.

صرّح الزعيم التاريخي للحركة الإسلامية في تونس وقتها بأنّه لن يترشح إلى أي منصب في الدولة، لكن ما لبث أن تراجع عن هذا الخيار الذي كان بمثابة "وعد عرقوب"، إذ قرّر في العام 2019 دخول معترك الانتخابات التشريعية من أجل ضمان رئاسة البرلمان، تمهيداً ربما للترشح للانتخابات الرئاسية في العام 2024. 

ولكن الغنوشي، الشيخ الثمانيني، يجد نفسه اليوم في مواجهة خصم عنيد حديث العهد بالسياسة اسمه قيس سعيّد. هذا الرئيس، رغم كلّ الجدل الذي يثار حوله، ولا سيما في ما يتعلق بمشروعه السياسي الذي قد ينحرف بالبلاد نحو حكم سلطوي، لا يزال يتمتع بشعبية جارفة في أوساط المجتمع التونسي. جزء من هذه المشروعية يستمدها في الحقيقة سعيّد من نجاحه في تقليم أظافر راشد الغنوشي في المشهد السياسي الذي أصبح محوره قصر قرطاج. 

إنّ نوستالجيا "معركة المساجد" التي يسعى الغنوشي لإحيائها من أجل محاولة ترميم صورته في الشارع التونسي وتعبئة أنصار حزبه ضد الرئيس سعيّد، قد تبدو خارج السياق التاريخي والجغرافيا السياسيّة الآنية في تونس بمختلف إحداثياتها ومفاتيحها المستقبليّة.

 قد ينجح الغنوشي من خلال هذه المناورة في كسب تعاطف في صفوف أنصاره، بمن في ذلك الغاضبون، لكنّها حتماً لن تكون جزءاً من الحلّ، لا لأزمة البلاد ولا لحزبه حركة النهضة، التي باتت مهدّدة بمزيد الانهيار والضمور، وربّما الأفول من الساحة السياسيّة التونسيّة.