العدوان الإسرائيلي على الدوحة: قراءة في الدلالات والسيناريوهات
الهجوم على الدوحة يتجاوز قطر وحدها. فهو يهدّد منظومة الوساطات الإقليمية التي شكّلت أساس أيّ تسويات سابقة، ويضع دولاً مثل مصر والأردن وعُمان أمام اختبار مشابه مستقبلاً.
-
هناك من يرى في الاستهداف الإسرائيلي تهديداً مباشراً لكلّ الدول.
قياساً بمسار الأحداث منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة قبل نحو عامين، فإنّ استهداف مقرّ حركة حماس في العاصمة القطرية لا يبدو مفاجئاً. فالتحوّلات الجارية في سلوك "إسرائيل" وحليفتها الولايات المتحدة جعلت من تجاوز "المحرّمات" أمراً طبيعياً. ويمكن تفسير ذلك عبر عاملين رئيسيّين:
1- سقوط الخطوط الحمر الإسرائيلية
منذ مطلع التسعينيات وحكومات "تل أبيب" تدير حروبها ضمن قيود داخلية وخارجية واضحة، إذ لا حرب طويلة تستنزف الاقتصاد وتؤجّج الشارع الإسرائيلي، ولا حرب تقود إلى مواجهة إقليمية واسعة. لكنّ حكومة نتنياهو نسفت هذه المحدّدات، فلم يعد هناك سقف زمني أو سياسي للعدوان، كما لم تعد هناك مخاوف من انتقال المواجهة إلى دول الجوار.
2- تحرّر الدعم الأميركي لـ "إسرائيل" من كلّ القيود
في جميع الحروب السابقة كانت واشنطن تمارس ضغوطاً لوقف النار عند لحظة معيّنة، إما استجابة للضغوط الدولية أو خشية انزلاق الأمور نحو مواجهة إقليمية، كما حدث في عدوان تموز 2006 أو حرب غزة 2014.
اليوم تبدو الصورة مختلفة، فالولايات المتحدة لم تعد فقط تدعم "تل أبيب"، بل تمنحها ضوءاً أخضر لمغامرات غير مسبوقة، حتى لو استهدفت دولاً حليفة لها مثل قطر، أو إقليمية كبرى مثل إيران، أو مناطق رخوة كالجنوب السوري ولبنان.
بهذا المعنى، لم يعد مستبعداً أن تمتد المغامرة الإسرائيلية إلى دول أخرى: ضرب أهداف في تركيا بحجّة وجود قيادات فلسطينية، التوغّل داخل الأردن لإقامة "منطقة عازلة"، أو حتى استهداف منشآت نووية في باكستان. حدود "الجنون" الإسرائيلي سيحدّدها مدى التبعات التي ستفرزها عملية الدوحة.
السيناريوهات المحتملة
استناداً إلى المواقف الأولية، يمكن تصوّر ثلاثة مسارات لردّ الدوحة:
أ- التصعيد السياسي
إذ قد تختار الدوحة تحرّكاً دبلوماسياً واسعاً لحماية هيبة الدولة ومكانتها. هذا التصعيد قد يتضمّن: حملة دبلوماسية إقليمية ودولية لإدانة "إسرائيل"، تحريك دعاوى أمام المحاكم الدولية ضدّ نتنياهو وحكومته، تجميد قنوات التواصل غير المباشر مع "تل أبيب"، بما فيها الوساطة مع القاهرة.
لكنّ الخطوة الأكثر حساسية ستكون مدى قدرة القيادة القطرية على الذهاب بعيداً إلى حد مراجعة مستوى العلاقة الأمنية مع واشنطن إذا ثبت علمها أو صمتها عن الهجوم كما جرى التداول مؤخّراً، خصوصاً أنّ قطر تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط.
ب- الاحتواء المشروط: وهو الاحتمال الأقرب على المدى القصير، استجابة لثلاثة عوامل: ضغوط أميركية للتهدئة مقابل ضمانات بعدم تكرار العدوان، رغبة قطر في الحفاظ على دورها الإقليمي المتنامي، وإمكانية إحراز تقدّم في مفاوضات غزة عبر وساطتها.
ج- الردّ العسكري وهو خيار شبه مستبعد، لاعتبارات عديدة منها: اختلال ميزان القوى مع "إسرائيل"، خشية القضاء على أيّ مسار دبلوماسي لإنهاء حرب غزة، والتداعيات الاقتصادية والأمنية الباهظة على قطر والخليج عموماً.
الأرجح أن تمزج الدوحة بين السيناريوهين الأول والثاني، أي المحافظة على دور الوساطة بشروط وضمانات جديدة، بالتوازي مع تحرّك سياسي لإحراج "إسرائيل" وكسب تضامن دولي، رغم يقينها بأنّ مجلس الأمن لن يدين الاعتداء بفعل الموقف الأميركي.
ضغوط الداخل والخارج
الموقف القطري لن يتحدّد فقط بالخيارات الرسمية، بل أيضاً هناك مجموعة ضغوط متشابكة سوف يكون لها أثر في عملية اتخاذ القرار من قبل القيادة القطرية، وهذه الضغوط هي:
- الضغط الأميركي المعتاد لحماية "إسرائيل" من تبعات جرائمها، وهنا سوف تستثمر واشنطن للدور القطري البارز في ملف الوساطة لوقف حرب غزة لإقناع الدوحة أنها قناة لا غنى عنها للتواصل مع حماس، وستضغط لاستمرار دورها مهما كان شكل الردّ.
-الموقف الخليجي الحقيقي، فإذا اكتفت العواصم الأخرى بالتنديد اللفظي أو حاول بعضها استثمار الحادثة لإضعاف الدوحة كما يعتقد البعض، فقد تميل الأخيرة للتصعيد السياسي لتعزيز مكانتها.
- ردّ حركة حماس على استهداف قادتها سيكون عاملاً حاسماً. فعملية عسكرية ما داخل الأرضي العربية المحتلة أو في مكان ما قد تحرج قطر أمام الغرب وتجعلها تراجع مستقبل استضافتها للقيادة السياسية للحركة.
- الرأي العامّ الداخلي، فالقطريون شعروا للمرة الأولى بأنّ أمنهم مهدّد رغم سياسة الوساطة. ولذلك فهناك فريق من القطريين يطالب بردّ يحفظ الهيبة، وهناك من يفضّل أولوية الاستقرار، وهو ما سيتعيّن على القيادة الموازنة بحذر بين المطلبين.
الانعكاسات الإقليمية
الهجوم على الدوحة يتجاوز قطر وحدها. فهو يهدّد منظومة الوساطات الإقليمية التي شكّلت أساس أيّ تسويات سابقة، ويضع دولاً مثل مصر والأردن وعُمان أمام اختبار مشابه مستقبلاً. كما أنه قد يعيد ترتيب أولويات تركيا وإيران اللتين تنسّقان مع الدوحة في ملفات عديدة، سواء كانت مرتبطة بـ "إسرائيل" وممارساتها أو بالأمن الإقليمي.
وعلى المستوى الخليجي، وبعيداً عن الموقف الرسمي الذي لن يخرج عن مساندة قطر وتأييدها في أيّ إجراء سياسي ودبلوماسي، فإنه عملياً قد يكون هناك تمايز غير معلن. فهناك من يرى في الاستهداف الإسرائيلي تهديداً مباشراً لكلّ الدول، وهناك من يفضّل التمايز عن الموقف القطري حفاظاً على علاقاته مع واشنطن.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإنّ صمتها أو تواطؤها يعزّز صورة التراجع الأخلاقي لسياساتها، ويفتح الباب لتساؤلات جدّية حول مستقبل قواعدها في الخليج وأمن الطاقة العالمي.
نحو مرحلة جديدة
الاعتداء الإسرائيلي في الدوحة يمثّل انتقال المواجهة من ساحات غزة ولبنان وسوريا إلى "المنافي السياسية"، حيث لم يعد القادة الفلسطينيون في مأمن حتى داخل دول صديقة لواشنطن. والأخطر أنه يقوّض الثقة بمبدأ الوساطة الإقليمية كأداة للحلّ، ويجعل أيّ دولة وسيطة هدفاً محتملاً.
وعليه فإنّ السيناريو الأقرب الآن هو الاحتواء المشروط، مع تحرّك سياسي قطري لتثبيت الهيبة ومنع تكرار الاعتداء. لكنّ احتمالات الانزلاق نحو تصعيد تبقى قائمة إذا ردّت حماس بعملية نوعية أو كرّرت "إسرائيل" مغامراتها في دول أخرى. عندها لن يكون المشهد صراعاً حول غزة فقط، بل حول قواعد النظام الإقليمي برمّته.