الصراع الصيني-الأميركي من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية

الصين، التي تتصدر السباق اقتصادياً وتكنولوجياً مع الولايات المتحدة، تقود أيضاً مشروعاً كبيراً لإعادة صياغة المنظومة الدولية، بهدف تحقيق عدد من الأهداف. ما هي ؟

  • الصين والولايات المتحدة.. صياغة المنظومة الدولية.
    الصين والولايات المتحدة.. صياغة المنظومة الدولية.

كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغوّل الأميركي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأميركية حول العالم.

فالصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمياً بالقيمة الاسمية (أي بالدولار الأميركي)، وأول أكبر اقتصاد من حيث تعادل القوة الشرائية (أي بالقوة الشرائية لليوان في الصين)، لم يعد مبرراً لها تجنب الصدام، مباشرةً أو عبر وكلاء، مع الولايات المتحدة الأميركية، بحسب من يريد منها قيادة التصدي للهيمنة الأميركية عالمياً بصورة أكثر حيويةً ووضوحاً.  

كما أن الصين هي أكبر مصدِّر للمنتجات التي راكمت لها فائضاً تجارياً مقداره نحو ترليون دولار سنة 2024.  وهي المصنع الكبير لـ 35% من كل ما يجري إنتاجه عالمياً.  وهي منافس الغرب الجماعي في الابتكارات، والتي برز من بينها مؤخراً إطلاق الصين تطبيق DeepSeek، وهو منصة دردشة روبوتية مفتوحة المصدر تعمل بالذكاء الاصطناعي دخلت على خط منافسة التطبيق الأميركي ChatGPT بقوة.

وعلى الرغم من أن 7.8% من الصينيين فقط يحملون شهادة تعليمٍ عالٍ، فإن الصين هي البلد الذي تنتج جامعاته 65% من خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات عالمياً، على أساس سنوي.  وهذا النوع من الخريجين مقياسٌ شائع لجودة مخرجات التعليم العالي (STEM)، إذ إن النقص في نسبة خريجي تلك العلوم الصلبة يؤثر سلباً في نوعية القوة العاملة، خصوصاً في حقلي التصنيع المتقدم والتكنولوجيا المتطورة، وبالتالي في الأمن القومي.   

والصين، بحسب منظمة WIPO العالمية، التي توثق براءات الاختراع، قدمت أكثر من 70 ألف طلب تسجيل براءة اختراع سنة 2024، في حين قدمت الولايات المتحدة الأميركية نحو 54 ألف طلب، لتأتي ثانياً، تليها اليابان بأكثر من 48 ألف طلب، ثم كوريا الجنوبية بنحو 24 ألف طلب، ثم ألمانيا التي قدمت أقل من 17 ألف طلب.

وقدمت الصين سنة 2024، بحسب منظمة WIPO ذاتها، أكثر من 4800 طلب تسجيل تصميم صناعي جديد، تليها ألمانيا بأكثر من 4200 طلب، تليها الولايات المتحدة بأكثر قليلاً من 3000 طلب تسجيل، لتحل ثالثاً.  والمقصود بـ"التصميم الصناعي" ابتكار طريقة جديدة لتصنيع منتج ما تجارياً، سواء كان منتجاً قديماً أو جديداً.

كما أن الصين التي تتصدر السباق، اقتصادياً وتكنولوجياً، مع الولايات المتحدة، تقود أيضاً مشروعاً كبيراً من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية باتجاه تحقيق هدفين:

أ - إحلال التعددية القطبية محل الهيمنة الأميركية عالمياً، الأمر الذي يخلخل موازين القوى، دولياً وإقليمياً.  

ب – إحلال تعددية المنظومات، سياسياً وثقافياً، محل النموذج الذي حاول القطب الأميركي فرضه، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية عامي 1990-1991، وهو نموذجٌ يقوم على حرية السوق المطلقة، وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وترك العولمة تأخذ مجراها، كما يقوم على الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي لا يقبل له نداً ولا يعترف بحق غيره في الوجود، وعلى تكريس الفرد مرجعية عليا ثقافياً وروحياً، أي عبادة المصلحة الفردية، وتجريم الحس القومي، سواء بصورته التحررية التواقة للمساواة في الجنوب العالمي، أو بصورته العنصرية البيضاء في الغرب الجماعي.

وكثيراً ما يضيع تعريف "التعددية القطبية" في أتون الصراعات المرتبطة بمحاولات هذا الطرف الدولي أو الإقليمي أو ذاك تغيير موازين القوى، ومساعي الإدارة الأميركية تقويض تلك المحاولات.

لذلك، كثيراً ما يُستهلك مصطلح التعددية القطبية في اللحظة الراهنة إعلامياً، في التوتر وعدم الاستقرار الناتجين عن تفاقم الصراع المحتدم بين الصاعد والقاعد، من دون الالتفات إلى بعد أعمق للتعددية القطبية هو إمكانية وجود أنماط متنوعة في العالم، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، بما يتجاوز ديكتاتورية المدرسة النيوكلاسيكية كمرجعية لعلم الاقتصاد، وأحادية ما يسمى "الديمقراطية الليبرالية" كمرجعية للفكر السياسي المعاصر، وتعسف "التعددية الثقافية" التي فرضتها العولمة كوصفة لتذرير المجتمعات وتفكيك البلدان إلى بلدات. 

يمثّل صعود الصين المبهر على الساحة الدولية تحدياً كبيراً، بحدّ ذاته، للأسس العقائدية التي انطلق منها أنصار العولمة، لأن الصين بلد تقود الدولةُ فيه الاقتصادَ، ويقود الحزبُ الشيوعيُ الصينيُ فيه الدولةَ، على الرغم من وجود قطاع خاص كبير وحيوي فيها يعمل بالتناغم مع القطاع العام وبالانسجام مع حاجات المجتمع الصيني إلى حدٍ بعيد.  فنحن لا نتحدث عن تجربة شيوعية هنا.  

ويمثّل نجاح الصين تحدياً للقيم الغربية سياسياً لأن نظامها لا يخضع لمقاييس "الديمقراطية الليبرالية"، ولأنها انخرطت في فضاء الاقتصاد الدولي المتعولم استناداً إلى دولة مركزية قوية حريصة على تماسك مجتمعها ووطنها وهويتها وذاكرتها التاريخية، فضاهت الغرب الجماعي، وراحت تسبقه في بعض المجالات، حتى انقلب بعضه على بعضٍ بشأن العولمة ومآلاتها.  

أخيراً، تمثّل التجربة الصينية انتصاراً للدولة المستقلة في الجنوب العالمي، الدولة التي تطابق حدودُها حدودَ الأمة التي تعبر عنها قانونياً، الدولة المركزية الموحدة، عندما تعبئ قواها وتتبنى مشروعاً حقيقياً للنهوض القومي.  

مرة أخرى، كثيراً ما يضيع ذلك البعد "الأيديولوجي" في الصراع من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية، مع أنه لا يقل خطورةً عن تغير موازين القوى، دولياً وإقليمياً، من جراء صعود القوى الجديدة، والاحتكاكات الناجمة عنه.  

لكنّ الصين التي أرعبت الغرب الجماعي، وقوى إقليمية شتى في محيطها الشرق آسيوي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بصعودها الصاروخي، ترجمت ذلك الصعود، دولياً، من خلال مبادرات كبرى يعدّها الاستراتيجيون الأميركيون تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي على غرار:

أ – "الحزام والطريق"، الذي جرى التطرق إليه بالتفصيل في مادة "عوائق جدية في دروب مبادرة الحزام والطريق الصينية".  

يمكن أن نضيف هنا، في سياق الصراع الصيني-الأميركي، أن مبادرة "الحزام والطريق" ركزت بصورة غير حصرية، منذ نشوئها سنة 2013، على ربط أجزاء العالم القديم، آسيا وأفريقيا وأوروبا، ببنية تحتية وخطوط تجارية، برياً وبحرياً، بقوة دفع وتمويل صينيين.  

هذا مهم إذا حُرِمت الصين من التصدير إلى السوق الأميركية، السوق الأكبر للواردات عالمياً، ومن أجل تمييع النفوذ الأميركي في العالم القديم، والذي يبقى مركز ثقل مبادرة "الحزام والطريق"، على الرغم من اختراقات صينية عميقة في أميركا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ القصيّة.

لا بد من لفت النظر هنا أيضاً إلى "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، وهو اتفاق تجارة حرة لدول جنوبي المحيط الهادئ دخل حيز التنفيذ سنة 2022.  تضم تلك الشراكة الصين وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام وكمبوديا ولاووس وتايلند والفليبين ونيوزيلندا وسنغافورة وميانمار وبروناي.  ويعدّ هذا الاتفاق أكبر تكتل تجاري في التاريخ من حيث حجم الاقتصادات المشاركة فيه، ومن بينها أكبر الاقتصادات الآسيوية.  

اللافت طبعاً أن الولايات المتحدة، كدولة مشاطئة للمحيط الهادئ، لم تُدعَ إلى المشاركة فيه، أما الهند فدُعيت إليه، لكنها امتنعت عن المشاركة.  وفي الحالتين، تبقى الصين السمكة الأكبر في ذلك الوعاء، وهذا ذو مغزى بمقاييس الجغرافيا السياسية. 

يذكر، في هذه المناسبة، أن صادرات الصين باتجاه جنوبي آسيا وشرقيها ككل تفوق كثيراً صادراتها إلى السوق الأميركية، مع العلم أن كوريا الجنوبية لديها فائض تجاري مع الصين بلغ مقداره أكثر من 35 مليار دولار سنة 2024، واليابان بلغ فائضها أكثر من 4 مليارات، وأستراليا نحو 70 ملياراً، وماليزيا أكثر من 9 مليارات.  ولا نرى الصين تذرف الدموع من جراء ذلك.  

لعل بعض تلك الفوائض خسائر محسوبة من طرف الصين لربط مصالح تلك الدول بها.  ونسوق هنا مثال تايوان، غير العضوة في شراكة المحيط الهادئ الإقليمية، والتي بلغ فائضها التجاري مع الصين نحو 143 مليار دولار سنة 2024 فقط.  وربما يمكن تصريف بعض ذلك العجز في سياق "الجهود الوحدوية" مع الجزيرة.       

ب -  "بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية"، الذي تأسس سنة 2015 كمبادرة تمويل دولي جرى حشد 92 دولة فيها، بعضها دولٌ غربية أو دائرة في فلك الغرب الجماعي، ما عدا الولايات المتحدة الأميركية واليابان وتايوان.  وثمة تلخيص لدور ذلك المصرف وخطورته في سياق الحديث عن مبادرة تمويل دولي أخرى أرعبت الغرب الجماعي، في مادة "بنك التنمية الجديد: تحديات وآفاق".

أثارت تلك المبادرات، بما تمثله من توسعٍ أفقي صينياً في مديات الجغرافيا السياسية وعالم المالية الدولية، عقيرة الإدارات الأميركية المتعاقبة إذاً، منذ ما قبل إدارة الرئيس أوباما، لا منذ إدارة ترامب الأولى فحسب.

وكان بيرني ساندرز ("التقدمي" جداً إياه) في مجلس النواب الأميركي عندما أطلق في 9/2/2005 دعوته إلى تجريد الصين من امتياز التعامل معها تجارياً بصورة عادية في الولايات المتحدة، داقاً ناقوس الخطر إزاء العجز التجاري الأميركي مع الصين، والذي بلغ 160 مليار دولار آنذاك.

المهم أن الصين، في هذه المرحلة التاريخية على الأقل، تتبع منهجية مزدوجة في مواجهة التغوّل الأميركي:

أ – زيادة الانخراط في المؤسسات الدولية القائمة، ومن ذلك زيادة مساهمتها المالية ودورها في الأمم المتحدة ومنظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي، ومحاولة إلزام الولايات المتحدة بالتقيد بأحكام تلك المؤسسات، في ظل صعود القوى الأخرى، دولياً وإقليمياً، فيها.

ب – تأسيس أطر موازية للمؤسسات الدولية القائمة، مثل "بريكس"، والمبادرات المذكورة أعلاه، وبث اليوان كعملة بديلة في المنظومة المالية الدولية، بحيث تؤسس لخيار التعددية القطبية من خلال مشاريع جذابة للدول الأخرى، من دون مطالبتها بقطع صلاتها بالقطب الأميركي.

تحاول الصين، في المسارين، تجنب الصدام مع الولايات المتحدة، لأنها لا ترى أنها مهيأة بعد للانتصار في ذلك الصدام، تكنولوجياً أو عسكرياً.  ويذكر أن الرئيس شي جين بينع حدد سنة 2035 لتحديث القوات المسلحة الصينية بالكامل.  

كما تعمل الصين، في الآن عينه، على تمييع الهيمنة الأميركية عالمياً ببطء، من خلال تعزيز مراكز القوى، دولياً وإقليمياً، لإنشاء نظام دولي أكثر توازناً.  فهي تتحدى، في شرق آسيا، البنية الأمنية التي أسستها الولايات المتحدة.  وهي تنطلق، في ما سمّاه الاستعمار "الشرق الأوسط"، بصورة براغماتية ومحايدة، باتجاه مفاصل مركزية مثل إيران والسعودية والكيان الصهيوني ومصر، في آنٍ واحد.

وهي تنخرط في أوروبا، باتجاه التجارة والاستثمار، مع تهميشٍ كاملٍ للبعد السياسي، في محاولة لفك عرى التحالف العابر للأطلسي.  لكنها تعمل بصورة مباشرة في أفريقيا على الحلول محل الولايات المتحدة.

 وللمزيد بشأن تفاصيل تلك الاستراتيجيات الصينية بحسب الحيز الجغرافي، يمكن مراجعة تقرير "تفكيك استراتيجية الصين الكبرى" المنشور في موقع "معهد السلام والدبلوماسية" الكندي في 26/2/2025.

وفي سعيها لنسج علاقات واسعة النطاق في كل زاوية في الكرة الأرضية، وخصوصاً في البلدان التي تجد نفسها في تناقض مع السياسات الأميركية، فإن الصين سعت للالتزام بحدي البراغماتية والحياد، أيديولوجياً وسياسياً، في علاقاتها مع دول العالم.  

تشكل تلك النقطة بالذات مفصلاً مركزياً من أجل إبراز حرص الصين على عدم زعزعة استقرار أي دولة، مهما كان توجهها وطبيعة نظامها، وخصوصاً في ظل حملة الإدارات الأميركية المتعاقبة لتغيير الأنظمة وتفجير البلدان.

ولا يمكن فهم رؤية ترامب الجديدة لما سماه الاستعمار "الشرق الأوسط"، والتي تقوم على تحقيق المصالح الأميركية بدلاً من محاولة فرض القيم الأميركية وتغيير الأنظمة، من دون متابعة التقدم الذي حققته الصين في العلاقة مع دول العالم على أساس عدم التدخل أبداً في شؤونها الداخلية، وعدم التدخل في الصراعات في ما بينها.

المشكلة أن هذا المنهج الصيني لا يقابل بالمثل من الطرف الأميركي. فالغرب الجماعي يتدخل، بذرائع "الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات"، في شؤون الدول والبلدان، ومنها الصين، ويطيح الأنظمة التي تنسج علاقات متينة معها من دون تردد، والأمثلة المعاصرة لا تعد ولا تحصى.  انظر، مثلاً، مادة "بنغلادش: انقلاب أميركي بواجهة مدنية".  انظر أيضاً الجزء المتعلق بالكونغو في مادة "هل تنجح جمارك ترامب في تقويض الصعود الصيني؟" الأسبوع الفائت.

العبرة أن الصين لا ترى إلا الدول، وتفضل من بينها الدول القوية طبعاً.  وباستثناء محيطها الجغرافي المباشر، فإنها لا تفكر في التدخل العسكري المباشر، ولا تتبني علاقات مع قوى داخل البلدان يمكن أن توحي أنها بصدد الانخراط في مشاريع "تغيير الأنظمة"، حتى عندما تفعل الولايات المتحدة العكس تماماً.

ومن هنا، استبعاد حركات التحرر في الجنوب العالمي من دائرة اهتمامها المباشر.  وهي لا تريد تبديد مواردها في دعم مثل تلك الحركات.

فإلى أي مدى تستطيع الصين أن تتجنب الانخراط في الصراعات المحلية والإقليمية في حين يوجه بعض تلك الصراعات ضدها؟ عندما تشن الولايات المتحدة حرباً مباشرة، أو بالوكالة، ضدها؟ أو عندما تكتشف أن الأنظمة التي تستثمر فيها، من "الحزام والطريق" إلى "مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي" Southern African Development Community، والذي يضم 16 دولة أفريقية جنوب الصحراء، عرضة للسقوط بفعل التدخلات الأميركية وغيرها؟