السيد حسن نصر الله: زعامة صنعتها المقاومة وإرث خالد في ذاكرة الأمة

لن يكون مشهد التشييع مجرد حدث عابر، بل هو إعلان، مفاده أن الأبطال لا يغيبون، بل يتحولون إلى رموز خالدة تعيش في ذاكرة الشعوب.

0:00
  • الزعامة الحقيقية تولد من وعي الجماهير.
    الزعامة الحقيقية تولد من وعي الجماهير.

لم يكن السيد حسن نصر الله مجرد قائد مقاومة أو زعيم سياسي، بل كان روح الأمة المتجسدة في رجل، وقلبها النابض الذي واجه الطغيان بلا تردد، وسيفها الذي لم يُغمد في مواجهة الظلم والاحتلال.

كان يقين الأمة وسط عواصف الشك، وإرادتها التي لم تنكسر أمام أعتى التحديات، ورمز الصمود الذي لم يساوم ولم يتراجع. في كل كلمة نطق بها، كان يحمل أمانة الدماء الزكية التي سالت في دروب التحرير. وفي كل موقف اتخذه، كان يجسد الوفاء للمقاومة نهجاً ومساراً. لم يكن قائداً عابراً في مسيرة الأمة، بل كان محطة فاصلة في تاريخها، وعنواناً لمرحلة لم تنتهِ باستشهاده، بل بدأت أكثر رسوخاً وعنفواناً.

وداعٌ يليق بالقادة الخالدين

لطالما تمنيت أن أكون حاضراً في مراسم تشييعه، أن أشارك الملايين الذين تدفقوا من كل حدب وصوب ليودعوا قائداً نقش اسمه في ذاكرة الأحرار. لكن تقدم العمر وما يرافقه من وهن حالا دون تحقيق أمنيتي. ومع ذلك، فإن كلماتي تظل سفيري إلى هذه اللحظة التاريخية، لتشهد مكانته الراسخة في قلبي، كما في قلوب الملايين من أبناء الأمة العربية.

إنه ليس وداعاً لشخص، بل لحظة إجلال لرجل جسد وجدان الأمة وضميرها المقاوم. لن يكون مشهد التشييع مجرد حدث عابر، بل هو إعلان، مفاده أن الأبطال لا يغيبون، بل يتحولون إلى رموز خالدة تعيش في ذاكرة الشعوب، تحفزها على مزيد من الصمود والمقاومة. كما أن موكب التشييع، الذي سيتردد صداه في العواصم العربية، لن يكون مجرد تكريم لذكراه، بل رسالة إلى العالم، مفادها أن شعلة المقاومة لن تنطفئ، وأن دماء القادة العظام وقودٌ لمواصلة الطريق حتى النصر المحتّم.

صورة مقاومة محفورة في الذاكرة

لا تزال صورته، التي رُفعت في كل ميادين العواصم العربية، ماثلة أمامي، وخصوصاً تلك التي ارتفعت داخل ساحات الجامع الأزهر وسط القاهرة، وفي شوارع دمشق، حيث كنت حينها رئيساً لتحرير برنامج "خيمة صمود"، الذي بُثَّ عبر الهواء مباشرة عبر الفضائية السورية من ساحة المدينة الجامعية لجامعة دمشق، خلال العدوان الصهيوني على لبنان في تموز/يوليو 2006. لم تكن هذه الصور مجرد تعبير عن لحظة إعجاب، بل كانت انعكاساً لوجدان شعبي، وإيماناً بأن هناك من يقف في وجه الاحتلال بلا خوف أو تردد.

كانت المقاومة الإسلامية، بقيادة حزب الله، تخوض معركة كسر الهيمنة والهيبة الصهيونيتين؛ معركة أكدت أن زمن الاستسلام ولّى، وأن المقاومة وحدها هي من يصوغ معادلات القوة والكرامة. كان هذا الظهور بمنزلة شعلة أمل في زمن اليأس، وكان إثباتاً يؤكد أن القوة الحقيقية لا تكمن في العتاد وحده، بل في إرادة لا تلين، وعزيمة لا تستكين، وصوت لم يخفُت على رغم كل محاولات كسره.

الزعامة الحقيقية تولد من وعي الجماهير

لا أنسى كيف كانت الجماهير العربية، من المحيط إلى الخليج، تنتظر ظهوره على الشاشة، تترقب كلماته التي كانت بمنزلة يقين متجدد، كيف كان يمنحها الثقة في المستقبل، وكيف كرّس في أذهان الملايين أن المقاومة ليست خياراً، بل قدراً حتمياً للأمم الحرة. لم يحظَ قائد عربي بعد جمال عبد الناصر بمثل هذا الالتفاف الشعبي، وبمثل هذه المحبة التي تخطت الطوائف والجغرافيا. لقد أدركت الجماهير بحسها العميق، أن القادة الحقيقيين لا تفرضهم المناصب، بل تصنعهم التضحيات، ويمنحهم الشعب مكانتهم لأنهم يجسدون آماله وآلامه، ويقودونه بثبات في أحلك الظروف.

كان السيد حسن نصر الله قائداً استثنائياً، صاحب رؤية ثاقبة وإرادة فولاذية، رجلاً لم يساوم على شبر من الأرض، ولم يتردد في مواجهة أعتى القوى الاستعمارية. وظل، حتى لحظة استشهاده، أميناً على العهد، متمسكاً براية المقاومة. ومثلما منحته الجماهير العربية حبها وإيمانها بقيادته، فإنها تودعه اليوم كونه زعيماً خالداً، سيبقى حاضراً في الوجدان، ومؤثراً في مسار الصراع الذي لمّا ينتهِ بعد.

كان أول زعيم من محور المقاومة يعلن دعمه المطلق لـ"طوفان الأقصى"، ولم يكن دعمه كلمات أو شعارات، بل كان قراراً ميدانياً يقضي بالإسناد الفعلي على الأرض، في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو القرار الذي دفع حياته ثمناً له في طريق القدس.

وسيكون يوم تشييعه شهادة على إرثه النضالي ومكانته في وجدان الشعب العربي، بحيث سيلتفّ الملايين لتوديعه توديعاً يليق برجل عاش قائداً فذاً، ومقاوماً صلباً لم ينكسر أمام المشاريع الصهيوأميركية، وظل حتى الرمق الأخير وفياً لفلسطين، وللقدس، وللأمة التي حمل أمانتها بكل شرف وعزة.

إرث خالد ومسيرة لا تنتهي

اليوم، إذ نودّعه، ندرك أن الفراغ الذي يتركه عظيم، لكننا على يقين بأن نهجه سيبقى بوصلة الأحرار، وأن دمه الطاهر سيكون حافزاً جديداً على استكمال مسيرة التحرير. إن شهادته ليست نهاية، بل بداية مرحلة أكثر صلابة، وأكثر زخماً، وأكثر إصراراً على بلوغ الهدف الأسمى: تحرير فلسطين. وكما كان في حياته عنواناً للصمود، سيكون استشهاده نبراساً يضيء درب المقاومة، ويؤكد أن القضية التي أفنى عمره من أجلها لن تموت.

سلام عليك أيها السيد الشهيد، أيها القائد الذي رفع راية الأمة عالياً ولم يُسقطها أبداً. سلام عليك يوم وُلدت، ويوم قاومت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حياً في ذاكرة الشعوب الحية، التي لن تنسى من أفنى عمره في سبيل عزتها وكرامتها.