السويداء... ما الذي أوصلنا إلى هذا المشهد؟

أزمة السويداء كشفت وعرّت جميع أطراف المجتمع السوري، وأظهرت لنا سطوة المجتمع وهيمنة المرجعيات، وفكرة النفير والفزعات العشائرية التي لم توظف إلا في الخراب.

  • خارطة الطريق لحل الأزمة.
    خارطة الطريق لحل الأزمة.

أحداث دموية شهدتها محافظة السويداء عادت بنا إلى عصور ما قبل الدولة، حيث الولاءات الدينية والعرقية والمذهبية، في مشهد أقل ما يُقال عنه إنه لايمت للإنسانية بصلة.

عنف وعنف مضاد، اتهامات متبادلة، وروايات يسعى كل طرف لترويجها وفقاً لمصلحته أو إملاءات مشغّليه، في مشهد أقل ما يُقال عنه أنه مأسوي ولا يمت للوطنية بصلة.

مرتكبو جرائم غير آبهين بسلطة، ولا متسترين على شناعة أفعالهم وقبحها، بل إنهم يتفاخرون بها، في مشهد يعطي انطباعاً وكأنهم أمِنوا العقاب فأساؤوا العمل.

أفعالهم طالت المدنيين من شيوخ وأطفال ونساء، كما شملت الاعتداء على القوى الأمنية والتنكيل بهم، وتصوير تلك الجرائم في تحدٍ كبير للسلطة وكسر لهيبتها.

الحقيقة غائبة، والجميع لا يرى سوى بعين واحدة، فيبرّئ أفعاله، وينتقد أفعال الآخرين ويضخمها، سعياً منه لكسب التأييد لسرديته، لتكون أساساً للحقيقة التي افتقدها الجميع.

الصراع في سوريا ليس صراعاً طائفياً، بل هو صراع ثقافي يرتدي لبوس الطائفة أحياناً، لكن دوافعه ليست طائفية حتى لو حاول البعض تصويره كذلك، وخاصة أن الأكثرية من جميع الطوائف ترفض كل ما يجري.

الكثير منا تمترس خلف انتماءاته الغريزية، فغابت الهوية الوطنية، وسادت هويات فرعية، همها التركيز على كل ما يفرق بدلاً من البحث عما يمكن أن يجمع.

الأقليات لا تشكل خطراً إلا إذا سُيّست، وها قد سُيّست حتى النخاع في ظل عدم قدرة المجتمع على احتضانها، وعدم قدرة الدولة على بناء المواطنة التي تُشعر الجميع بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات.

مانراه من مشاهد عنف تبدو دخيلة على السوريين وثقافتهم، لم تكن في الحقيقة سوى نتيجة لسنوات الحرب التي عاشوها، فالملايين هُجروا، وأبناؤهم لم يحصلوا على حقهم في التعليم.

مشاهد العنف التي رافقت الجيل الجديد من السوريين منذ طفولتهم، غذّت غريزة الانتقام لديهم، الانتقام من الآخر، الذي أساء لهم، في حالة من التعميم باتت تنذر ببوادر حرب أهلية. 

حالة الانغلاق التي عاشها الكثير من شباب سوريا، نتيجة تقطيع أوصال بلدهم، وعدم قدرتهم على التنقل فيها، كرست لديهم حالة "الخوف من الآخر"، حتى لو كان هذا الآخر هو أبناء بلده، من محافظة أخرى أو دين مختلف.

حالة "السعار الطائفي" هناك من يغذّيها من الخارج، ومن يسوّق لها في الداخل، ومن ينقاد خلفها تطبيقاً لمنطق القطيع وحيونة الإنسان. 

غياب الثقة هو السمة الأبرز للمشهد (غياب الثقة بين السويداء والحكومة السورية الجديدة، غياب الثقة بين السويداء وبين مكوناتها، وغياب الثقة بين مكونات الشعب السوري بشكل عام).

لقد كشفت أزمة السويداء وعرّت جميع أطراف المجتمع السوري، وأظهرت لنا سطوة المجتمع وهيمنة المرجعيات، وفكرة النفير والفزعات العشائرية التي لم توظّف إلا في الخراب، فلا مجال للحديث عن الفزعات لتعويض المتضررين من أحداث السويداء من البدو والدروز على حد سواء.

استعجال كل طرف لفكرة "إعلان النصر"، متناسين أنها حرب لا منتصر فيها، فالجميع مهزومون، وتبعات ما حدث لن تمضي بسهولة، وخاصة أننا شعوب أبدعت في توريث العداوة والبغضاء.

محنة الدولة...

التعاطي مع الدولة من وجهة نظر البعض أمر غير ممكن، وخاصة أن لديه العديد من الملاحظات على سلوكها، ما جعله يفكر في الرغبة بـ "تفصيل دولة على هواه". 

الحاجة إلى الدولة دفعته إلى توجيه المناشدات لها لكي تقوم بواجبها في حمايته، فكانت المفارقة أن يطلب الحماية من دولة لا يعترف بوجودها أصلاً.

عدم الاعتراف بالدولة يفقدك الحق في طلب حمايتها، كما أن هناك خلطاً كبيراً بين الدولة والسلطة، فمؤسسات الدولة أمر لا غنى عنه، أما السلطة فحضورها يبدو أقل سوءاً من افتقادها، أياً كانت تلك السلطة.

هذا لا يعني تبرير سلوك السلطة والتغطية على فشلها في خلق الثقة بينها وبين الشعب الذي يُفترض أنه مصدر شرعيتها، والأساس في جعلها قوية أو ضعيفة، طبعاً هنا الأمور نسبية، والحديث عن حالة السويداء بشكل خاص.

المشكلة أن السلطة في سوريا، ولعقود مضت، عملت على إضعاف المجتمع الذي رأت في إضعافه قوة لها، فبتنا اليوم نجني ثمرة غياب المجتمع القوي المتماسك، القادر على مواجهة السلطة وجعلها أداة تعمل على خدمته، فبات المجتمع هو المعني بخدمة السلطة، في حالة من قلب للمفاهيم، وتكريساً لمبدأ "قداسة السلطة".

"قداسة السلطة" تجعلها "عصية على النقد"، وبالتالي لا يمكن توجيه الاتهام إليها، كما أنها لم تعد بحاجة للدفاع عن نفسها في ظل وجود الكثيرين الذين تطوعوا لذلك.

هذا المشهد يبدو جلياً في كم الانتقادات التي توجه لكل من يحاول مجرد التلميح إلى أخطاء السلطة، حيث ستنهال عليه مختلف أنواع الشتائم، وكل صفات التخوين.

حالة من الخطاب الشعبوي سيطرت على المشهد السوري، جعلت المثقفين وأصحاب الرأي ينكفئون على ذاتهم، فباتوا "الأقلية" الحقيقية الأكثر حاجة لمختلف أشكال الدعم وكل أشكال التمكين.

تصدي رجال الدين للمشهد السياسي حمل العديد من المخاطر، فالسياسة فن الممكن، وأساسها العمل على "تدوير الزوايا"، لا الالتزام بحرفية النص وتقديسه.

حرفية النص تجعله لا يتناسب مع تطورات العصر، وبالتالي سيبدو وكأنه بعيد عن معطيات العقل وحجج المنطق، وتدخله في حالة من المواجهة مع معطيات العلم وتطور الحضارة.

تلك المعطيات تجعلنا نقر بأن أكثر ما تحتاجه سوريا اليوم هو مشروع لترميم الوعي الجمعي لأبنائها، فما رأيناه من أفعال لم يكن لعاقل أن يتوقع صدورها من مواطن سوري.

حلقات غير مكتملة...

قامت الحكومة الجديدة في سوريا بعدد من الخطوات استكمالاً لبناء هياكل الحكم اللازمة، لكنها في الواقع لم تكن ملبية لتطلعات الكثيرين من أبناء الشعب السوري، فوُجِّه العديد من الانتقادات للإعلان الدستوري، وللطريقة التي عُقد بها مؤتمر الحوار الوطني، إضافة إلى طول المدة التي جرى تحديدها وصولاً لإجراء الانتخابات في سوريا.

العديد من تلك الأخطاء يمكن تلافيها، فما المشكلة في صدور تعديل على الإعلان الدستوري، أو اختصار المرحلة الانتقالية، وعقد مؤتمر للحوار الوطني يعكس جدية الحكومة في الاستماع إلى ما يريده أبناء سوريا، كي لا تُكرّر أخطاء الماضي، وسلوكيات السلطة.

مؤتمر النصر الذي عُقد في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي والذي تمخّض عنه انضمام 18 فصيلاً إلى وزارة الدفاع، كان خطوة مهمة نحو جمع السلاح وحصره بيد الدولة، لكنه في الوقت نفسه كرّس جيشاً من طائفة دينية واحدة، وهو ما يثير حفيظة باقي السوريين بكل تأكيد.

سوريا الجديدة التي نحبها جميعاً، ليست سوى سوريا القرون الوسطى، فالبنية التحتية شبه متهالكة، والبيئة القانونية والتشريعية تقونن الفساد وتؤمن كل المخارج للتهرب من المساءلة والعدالة، والمجتمع السوري غير متماسك، في ظل غياب الشعور بالمواطنة والافتقار إلى العدالة والمساواة.

إن كنا قد وصلنا إلى الحرية، فكل المعطيات تؤكد أننا لسنا أهلاً لتلك الحرية التي باتت أداة للدعوات الطائفية والتنمر الاجتماعي، ووسيلة لترهيب الآخر وقمعه إن لم يكن فعلياً، فلفظياً على أقل تقدير.

تغاضي السلطة عن بعض الممارسات يعطي انطباعاً بأنها راضية عن تلك التصرفات، أو أنها لا تقف على مسافة واحدة من الجميع. فكيف يمكن الاعتداء على بعض المعتصمين السلميين المناشدين بوقف إراقة الدماء، والرافعين لراية "دم السوري على السوري حرام" أمام مجلس الشعب، من دون أن تتدخل قوى الأمن الموجودة في المنطقة والمسؤولة عن حماية مجلس الشعب.

بحث السلطة عن المؤيدين لها فقط وتقريبهم منها، ورفضها الاستماع إلى باقي الآراء يوقعها في الخطأ، ويأخذنا إلى حيث كنا قبل قيام الثورة السورية، في مشهد يبدو أن تكراره أمر لا يطيقه السوريون وليسوا قادرين على دفع فاتورته بكل تأكيد.

سوريا الجديدة التي يُراد لها ألا تكون مصدراً لإثارة الصراعات مع غيرها، يجب ألا تكون مكاناً للصراع أو الاقتتال الداخلي، وبالتالي يجب علينا أولاً أن نعي مفهوم الدولة، وأن نرقى بخطابنا السياسي ليكون خطاباً علمياً مدروساً، لا مجرد خطاب يدعو إلى التحريض والتجييش الذي لن يتمخض عنه سوى "هبّات العرب".

خارطة الطريق لحل الأزمة...

استبشر الجميع بالإعلان عن التوصل إلى وقف إطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية إلى المدينة المنكوبة، لكن المشاهد المنقولة من المدينة أظهرت قبح ما حدث، وجعلتنا نفكر ملياً بالبحث عن الضمانات اللازمة لعدم تكراره.

الموقف في السويداء ليس موحداً، فالخلاف بين المرجعيات الروحية واضح للجميع، وسطوة المجتمع والمرجعية الدينية تحول دون قدرة أبناء المدينة على التعبير عن مواقفهم الحقيقية التي يحدثوننا بها. 

سعي البعض لتأليب أبناء السويداء بعضهم على بعض تصرف غير مسؤول، وخاصة فيما يتعلق بموقف الشيخ البلعوس المختلف عن باقي المواقف، والذي يُعدّ الأقرب إلى السلطة في سوريا. فالتصعيد بينهم قد يؤدي إلى اقتتال لا يخدم مصلحة السوريين، ولا يمكن اعتباره انتصاراً للدولة.

"الإدارة بالعقاب"أمر يجب الابتعاد عنه، وبالتالي لا بد من تقديم كل ما تحتاجه المدينة من مساعدات، لتفويت الفرصة على الراغبين بالتوجه نحو "إسرائيل" جنوباً، أو صوب قسد شمالاً، لتبقى دمشق هي القبلة للسوريين جميعاً.

بسط سيطرة الدولة لا يكون بالقوة العسكرية وحدها، فالحوار هو الطريق للتوصل إلى ذلك. ويمكن للحوار مع السويداء أن يشكل نموذجاً للحوار مع باقي المناطق، وخاصة أن السويداء تتمتع ببعض الميزات التي تسهم في إنجاح ذلك الحوار.

البحث عن إيجاد حل سلمي للتعاطي مع قسد هو الخيار الأفضل، ويمكن لتركيا لعب دور في هذا المجال، سعياً لتلافي مواجهة ثالثة مع قسد، بعد ما حدث في الساحل والسويداء.

مع التأكيد أن "قسد" ليست الكرد، والهجري لا يمثل كامل السويداء، والساحل السوري ليسوا جميعاً من فلول النظام، وأن الفلول الحقيقيين باتوا خارج سوريا أو تحت حماية الهجري، أو انضووا تحت مظلة قسد، كما أن العديد منهم موجود تحت الحماية الروسية في قاعدة حميميم.