الذاكرة

لأنّ الطرف الظالم يعتمد على قوة عسكرية ضاربة وعلى اختلال في موازين القوى لن يتمكّن أحد من تغييره في المدى المنظور، فإنّ الحكمة تقتضي أن يركّز الطرف الأضعف على أيّ نقاط قوة بحوزته.

0:00
  • عدوّنا لم يحاربنا بالسلاح فقط وإنما أيضاً بالفكر والاستراتيجيا والتخطيط والإعلام.
    عدوّنا لم يحاربنا بالسلاح فقط وإنما أيضاً بالفكر والاستراتيجيا والتخطيط والإعلام.

أحد أوجه الحرب الدائرة بشراسة ضدّ العرب هي الحرب على الذاكرة. كلّ الحروب التي تعرّضت لها الأمّة العربية من فلسطين إلى العراق فليبيا فسوريا فلبنان واليمن تهدف إلى احتلال الأرض ومحو الذاكرة تماماً تمهيداً لاستبدالها بذاكرة يتمّ تصنيعها من خلال الآثار المنهوبة وتشويه التاريخ وإعادة صياغته بما يتلاءم مع الواقع الجديد والمستعمرين والمستوطنين الجدد.

فإضافة إلى البشر فإنّ الآثار كانت أهمّ ضحية للحرب على العراق ومن ثمّ الحرب على سوريا البلدين اللذين يزخران بأهمّ وأعرق الآثار عن حضارتيهما الموغلتين في القدم. 

ومن أهمّ الهجمات الصامتة والخطيرة التي تمّ شنّها على هذه الأمة توطئة لكلّ ما تلا وما سوف يلي من كوارث مصيرية هي الهجمة الممنهجة والمدروسة على اللغة العربية، والتغلغل في ثنايا المناهج التدريسية والأنشطة الثقافية والقوانين لتدمير اعتزاز أهلها بها بذريعة أنها لم تعد قادرة على مواكبة الإنتاج العلمي والتطوّر التكنولوجي مع أنها أغنى لغة على وجه البسيطة، وتمتلك مفردات لا تمتلكها ولا حتى تقاربها أيّ لغة في العالم. 

كما تمّ الانقضاض على الإنتاج الفكري العربي والشعر والموسيقى والفلسفة والآداب مع التركيز في الجامعات العربية عموماً على الطب والهندسة، علماً أنّ خريجي هذين الفرعين يبحثون فور تخرّجهم عن فرصة عمل خارج بلدانهم، وتمّ إهمال كليات الآداب والتاريخ والفلسفة والقانون والتي أبدع العرب بها على مدى العصور، كما اتبعت أقوى الشبكات الإعلامية في العالم العربي أسلوب نقل البرامج واستنساخها من بلدان لا يجمعنا بها أيّ مكوّن ثقافي أو تاريخي، وذلك لتعميق هوة الغربة بين الأجيال الناشئة وتاريخها، كي لا تتمكّن من البناء عليه والانطلاق منه إلى رحاب إبداع يجدّد آفاق المعرفة ويواكب العصر. 

وقد أصبح واضحاً لنا اليوم أنّ أحد أهداف الحرب على العراق والدمار الكبير الذي حلّ بالعراق كان يهدف إلى محو الذاكرة، وكذلك الأمر في سوريا. ولم تكن الهجمات الوحشية المتكرّرة على تدمر والعبث بأوابدها التاريخية تدميراً ونهباً إلّا وفق مخطّط مرسوم لمحو هذه الذاكرة التي تشهد للأجيال من كان هنا ومن لم يكن. وسوف تستمرّ سرقة الآثار من سوريا والعراق ومن بلدان عربية أخرى من دون توقّف. 

كما أنّ التدمير الوحشي والمتعمّد للأوابد التاريخية في غزة وفلسطين ومحو أيّ مبنى أو جامع أو كنيسة أو مكتبة شاهد على الزمن يندرج في الهدف والمخطط القديم الحديث ذاته، وما تدمير الصهاينة لغزة بالكامل وقتلهم غير المسبوق لمئات الصحافيين إلا خطوات مدروسة لمحو الذاكرة ومنع الصحافيين من تسجيل ذاكرة اللحظة، فقد قال المفكّر الفرنسي ألبير كامو إنّ "الصحافي هو مؤرّخ اللحظة."

واليوم والصهاينة يفتكون بجسد غزة وفلسطين بشراً وحجراً وذاكرة وتاريخاً ويعلنون مخطّطهم الاستيطاني للدول العربية الأخرى، بما في ذلك مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق وبلدان الخليج والسعودية، من دون ردّة فعل عربية ترقى إلى حجم العدوان المبيّت، كيف سيقارب العرب هذه الهجمة على بلدانهم وتاريخهم وذاكرتهم ومستقبل شعوبهم؟ 

اليوم ونحن نرى فرقاً غنائية في الغرب تتمّ محاكمتها بتهمة الإرهاب فقط لأنها قالت كلمة حقّ مؤثّرة لصالح فلسطين المظلومة، واليوم ونحن نشهد فعلياً انهياراً تامّاً للنظام الدولي الذي تمّ وضعه بعد الحرب العالمية الثانية، ماذا يجب أن يفعل العقلاء المتضرّرون من هذا الانقلاب في السياسات والنظم والمعايير القانونية والأخلاقية؟ 

أولاً أعتقد أنّ أكبر المتضرّرين في هذه الحقبة التاريخية هم العرب ومؤيّدو قضاياهم العادلة في العالم، وأنّ كلّ الإجراءات التي يتمّ اتخاذها بحقّ الطلاب المظلومين في الجامعات الأميركية سببها المواقف الجريئة والشريفة لهؤلاء الطلاب وأساتذتهم المحترمين. ولذلك ولأنّ الطرف الظالم يعتمد على قوة عسكرية ضاربة وعلى اختلال في موازين القوى لن يتمكّن أحد من تغييره في المدى المنظور، فإنّ الحكمة تقتضي أن يركّز الطرف الأضعف على أيّ نقاط قوة بحوزته حتى وإن لن تكون لها نتائج سريعة ومرئية. 

من هنا أرى أنّ أهمّ ما يمكن القيام به اليوم هي تأريخ هذه المرحلة بكلّ صدق وشفافية، وتكريس الموارد المتاحة من أجل كتابة تاريخ هذه المرحلة كي لا تتكرّر مأساة سكان أميركا وأستراليا ونيوزيلاندا الأصليين حيث لا نعلم اليوم شيئاً عن تاريخهم وأديانهم وفنونهم وثقافتهم ومعتقداتهم وأسلوب عيشهم. ما أراه اليوم هو استعمار جديد مسلّح بكلّ استنتاجاته من الاستعمار القديم مضافاً إليه حنكة استخدام التقنيات الحديثة، المصطلح والصورة والسردية المضلِّلة والتي تخدم أهدافه. 

في هذا المسرح الدولي والذي تبدو الأحداث فيه وكأنها مسرحية سوداء مقبلة من العدم لا بدّ من مواجهة هذه المتغيّرات الكبرى بواقعية وحنكة وحكمة. بما أنّ أحد أهمّ أهداف هذا الانقلاب التاريخي في الأسس والمعايير والأخلاق هو استحداث وتثبيت حقائق جديدة للأجيال القادمة، فإنّ أهمّ ما يمكن القيام به اليوم هو تأريخ هذا الإرث الحضاري الثقافي والسياسي والمعرفي والأخلاقي قبل أن تدمّره هذه الهجمة الشيطانية الغادرة، وتثبيت الحقّ وفرز الغثّ من السمين في محاولة لإعطاء سردية المظلومين المكانة التاريخية التي تستحقّها، لأنّ الانتصار لا يمكن أن يكون عسكرياً فقط كما يتوهّم المعتدون والمحتلون والمستوطنون بل سيكون الصراع حضارياً وثقافياً وتاريخياً، ولن يكون البقاء إلا للأفضل ولما ينفع الناس أما زبد نشوة الظلم فتذهب جفاء.

العرب لديهم من الكنوز الثقافية والفلسفية والمعرفية والتاريخية ما يضمن لهم التفوّق المطلق على من يطمع بإزاحتهم ووراثة جغرافيّتهم وثرواتهم وتاريخهم، وفي الآن ذاته يجب إعداد العدّة لاستعادة الحقوق وتأصيل الانتماء بطرق سليمة تتخلّص من شوائب الماضي وتبني مستقبلها مستفيدة من دروس كلّ ما تمّت مراكمته من أخطاء وما أكثرها. 

هذه مرحلة تاريخية صعبة لكلّ صاحب مبدأ ولكلّ الصادقين والمنتمين للأمّة العربية وحضارتها العربية، ولكنها مرحلة من التاريخ وليست التاريخ كلّه. ولكلّ من يعتريه وهم أنه وجد مأمنه في كنف عدو قوي يبدي له حالياً المحبة والطمأنينة عليه فقط أن يميل الطرف ليرى غزة الشهيدة وقبلها دول الطوائف في الأندلس، وليعلم علم اليقين أنّ هذا هو حكم هذا العدو مستقبلاً على كلّ من يداهنه اليوم ويخطب ودّه، لا فرق لديه بين عربي وعربي أو بين عربي وأعجمي فالجميع في نظره عبيد مسخّرون لخدمته فقط. 

لقد بدت بوادر هذا العالم الجديد تظهر من خلال استهداف ثقافة وروح الأخلاق التي يؤمن بها المقاومون وأصحاب المبادئ والقضايا العادلة، إذ إنّ موسيقياً أو شاعراً أو مفكّراً أو أستاذاً أو طالباً يرفع صوته لنصرة الحقّ تتمّ معاقبته وكأنه ارتكب جرماً مشيناً، أما القادة والنشطاء السياسيون فتتمّ تصفيتهم أو محاصرتهم وتحويلهم إلى لاجئين غير مرغوب بهم في أيّ مكان.

ستلي هذه المرحلة مرحلة أخرى تنقضّ فيها السرديات المعادية على قيم العرب على قيم هؤلاء وتاريخهم ونضالاتهم وتضحياتهم من أجل انتزاع مكانتهم من الذاكرة التاريخية للأجيال القادمة، وسوف يكتبون تاريخاً مختلفاً عن كلّ ما شهده من ماتوا ولم يودعوا الأرشيف سجلاً دقيقاً وواضحاً عن عالمهم الذي تمّت إزاحة معالمه من وجود أبنائهم وأحفادهم. 

هذه مهمّة كبرى للحفاظ على روح هذه الأمة من الضياع بعد أن عايشنا قتل وتدمير كلّ من يمكن أن يكون شاهداً على حقّها في أرضها وعظمة مكوّنات تاريخها والتضحيات التي بذلها الكثيرون بسخاء في سبيل عزتها ورفعتها.

كما أنّ عدوّنا لم يحاربنا بالسلاح فقط وإنما أيضاً بالفكر والاستراتيجيا والتخطيط والإعلام، فقد حان لنا جميعاً أن نعي أهمية استشراف المستقبل والتخطيط لأسوأ ما يمكن أن تأتي به الأيام، أما الإغراق في التفكير الرغبوي وعقد آمال غير واقعية على انهيار الطرف الآخر لأسباب لا علاقة لنا بها فلن يغيّر من الواقع شيئاً ولن يساهم في استرجاع حقوق أو إعداد العدّة لمحاولة استرجاعها.