الحرب في منطقتنا بين رئيسين
ستبذل الولايات المتحدة والغرب الاستعماري كلّ جهد ممكن لتنتهي الحرب في منطقتنا لصالح الكيان، لكننا وللمرة الأولى في تاريخنا نمتلك القدرة على تحقيق جزء من أهدافنا من خلال الصمود في الميدان وفي الشارع.
برحيل جو بايدن عن البيت الأبيض، تطوى صفحة الخلاف المزعوم بينه وبين نتينياهو، وهو الخلاف الذي تناوله المعلّقون والمحلّلون على مدى أكثر من عام، هو عمر حرب الإبادة الأميركية – الصهيونية على غزّة ولبنان. رحل بايدن بعد أن أطلق يد شريكه نتنياهو ليقتل ويجرح ويشرّد الملايين في فلسطين ولبنان.
في تلك المسرحية كان المطلوب من نتنياهو تأدية دور الشرير الذي لا يصغي لنصائح واعتبارات الغرب الإنسانية، مقابل الحصول على كل الدعم المطلوب لإقامة "إسرائيل" التي يحلم بها، وفي الوقت نفسه يظهر الغرب وفي مقدّمته الولايات المتحدة بمظهر الوسيط المحايد، الذي يعترف بحقّ الفلسطينيين بالحياة والحصول على المساعدات الإنسانية، لكنه في الوقت نفسه ملتزم بالدفاع عن "أمن إسرائيل".
لم يكن أكثر المتشائمين في الغرب، وأكثر المتفائلين من جمهور المقاومة يتوقّع السيناريو الذي ستسير عليه الحرب. صمود غزّة الأسطوري، التدخّل الاستراتيجي لجبهات الإسناد، انتفاضة الضفة الغربية التي حوّلت مدناً مثل جنين ونابلس وطولكرم وطوباس إلى ساحات معارك، العمليات عبر الحدود من الأردن، والأهم قدرة المقاومة على ترميم الفراغ الذي أحدثته عمليات اغتيال قادة بحجم سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله، والقائدان إسماعيل هنية ويحيى السنوار. نستطيع الادّعاء أننا كجمهور ومراقبين لم نشعر بأي فراغ على صعيد الأداء الميداني، مما يشير إلى أن الخطة الموضوعة أخذت بعين الاعتبار جميع الإمكانيات حتى أكثرها تطرّفاً.
على الجانب المقابل دفعت شدة المعارك، وطول أجلها، العديد من المستوطنين إلى مغادرة الأراضي المحتلة بشكل مؤقت أو دائم، ناهيك عن أعداد النازحين داخلياً، الذين ترفض الحكومة الصهيونية التصريح عن عددهم. معظم المغادرين ينتمون إلى فئة رجال الأعمال، والصهاينة الليبراليين، الذين يرون في الحرب خطأ استراتيجياً ارتكبه اليمين، وأن ما حدث أنهى وإلى الأبد أساطير مثل أرض الميعاد، والوطن الآمن ليهود العالم، وواحة الديمقراطية. بحسب ما يكتبه هؤلاء فإن ما حدث سيجعل "إسرائيل" مركزاً لجذب المتطرّفين والمجرمين والمرتزقة، في حين سيجد العلمانيون ورجال الأعمال والعلماء حواجز اقتصادية وأخلاقية تمنعهم من الهجرة إلى الكيان. وفي ظل تنامي أعداد العرب الفلسطينيين، فإن هذا الكيان يسير نحو الزوال خلال بضعة عقود ومن دون حروب.
لم يكن المسار الانحداري للكيان وليد اللحظة، أو نتيجة معركة معيّنة، بل هو مرتبط بالطبيعة الاستعمارية للكيان، وبارتكازه على أسطورة غير قابلة للتصديق، فهو كيان لا يمتلك مشروعية جغرافية أو تاريخية أو اجتماعية تجعله جزءاً من المنطقة، بل جاء تعبيراً عن تحالف الأطماع الاستعمارية مع مصالح طبقات وعائلات سياسية حاكمة في منطقتنا، بذلت أقصى جهدها لتجعله حقيقة، في وجه مقاومة استمرت منذ لحظة الإعلان عن نية إقامة هذا الكيان وحتى اليوم، لم يكن أمامه، رغم الانتصارات التي يعتقد البعض أن الكيان حقّقها عبر تاريخ الصراع، لم يكن أمامه سوى التأكّل والتراجع ليتحوّل إلى تجمّع لعصابات متطرفة دينياً، يقودها مجرمون أصحاب سوابق جنائية، لا يختلفون في بنيتهم ودورهم في المنطقة عن بقية العصابات الإرهابية التي أنشأها الاستعمار في منطقتنا من أمثال "داعش" وجبهة النصرة.
الغرب الاستعماري الذي استثمر في اليمين المتطرف الصهيوني بقيادة نتنياهو، وجد نفسه عالقاً مع هذا التيار. "لقد أصيبت إسرائيل بالعقم ولم تعد قادرة على إنجاب قادة كبار"، بهذه الكلمات علّق صحافي على فوز نتنياهو وسموتريتش وبن غفير بالانتخابات. المجتمع الذي تجاوز أحزاباً مثل العمل والعمال وميرتس، لم يعد قادراً إلا على تصدير اليمين بكلّ أطيافه من المجرم شارون وحتى "ملك إسرائيل" كما يلقبون نتنياهو.
الجماهير التي خرجت إلى الشارع محتجة على الإصلاحات القضائية، وتلك التي تخرج اليوم مطالبة بصفقة لإطلاق سراح الأسرى، لا تمثّل أي معارضة حقيقية للعصابة الحاكمة، بل لعل جزءاً كبيراً منها أكثر تطرّفاً، ولن يبالي لو قتل جميع الفلسطينيين بعد إطلاق سراح الأسرى. بعبارة أخرى لو غاب نتنياهو فإن البديل القوي القادر على مجاراة المشروع الاستعماري والعمل على إنجاحه غير متوفّر.
الغرب مأزوم بسير المعارك على جميع الجبهات، من أوكرانيا وحتى باب المندب، لو حدث وقف لإطلاق النار فإن حكومة نتنياهو بسجلّها الإجرامي لن تكون قادرة على إدارة "اليوم التالي" الإسرائيلي داخلياً ودولياً. الدفاع عن نتنياهو أمام المجتمع الدولي سيكون صعباً، وانكشاف المزيد من جرائمه خاصة في غزّة محرج لهذا المجتمع الدولي، الذي قد يجد نفسه مضطراً لاتخاذ عقوبات بحقّ "إسرائيل"، وهي سابقة مرفوضة غربياً وبشكل خاص أميركياً.
الحلّ الوحيد لهذه الأزمة هو قدوم رئيس أميركي بمواصفات دونالد ترامب، فهو الرئيس القوي القادر على اتخاذ قرارات حاسمة، وإذا كانت هناك ميزة لترامب فهي توجيه سياسته نحو مصالح الداخل الأميركي أكثر من السياسة الخارجية، وبالتالي لن نسمع عن خلاف بين ترامب ونتنياهو، لأن ترامب قادر على حسم مثل هذا الخلاف بقرارات جذرية. من دون الغرق في التفكير التفاؤلي من أن إدارة ترامب ستوقف دعمها لـ "إسرائيل"، إلا أن هذه الإدارة ستكون أكثر حسماً في مراعاة المصالح الأميركية حتى لو كان ذلك على حساب حكومة نتنياهو.
أزمات الكيان وداعميه تتفاقم، والفرصة مواتية لمحور المقاومة لوضع المزيد من الضغط على المشروع الاستعماري في المنطقة. بحسب منطق ترامب لا بدّ من نهاية للحروب العسكرية، لتنطلق الحروب التجارية خاصة في مواجهة الصين.
بالتأكيد ستبذل الولايات المتحدة والغرب الاستعماري كلّ جهد ممكن لتنتهي الحرب في منطقتنا لصالح الكيان، لكننا وللمرة الأولى في تاريخنا نمتلك القدرة على تحقيق جزء من أهدافنا من خلال الصمود في الميدان وفي الشارع، لنفرض أنفسنا على طاولة مفاوضات العالم الجديد.