البحرين.. هل من تسوية إقليميَّة؟
في ظلِّ المتغيرات وتشابك الملفات الإقليمية على مستوى المنطقة، أين تقف البحرين من هذه التعقيدات؟ وأين يقف ملف التسوية السياسية بين الملفات الكبرى؟
معطيات عدة رفعت سقف التوقعات مؤخراً بين أوساط المعارضة البحرينية وشارعها، وعلَّقت الآمال على ما قد تحمله رياح التسويات على المنامة، علّها تأتي وإن بشيء قليل من التغيير، خصوصاً بعد وصول رئيس إيراني جديد قال في أول خطاب له خلال مراسم أداء اليمين الدستورية إن أولوية حكومته ستكون تحسين العلاقات مع دول الجوار.
خلال استقباله وزير الخارجية الكويتي، أكّد الرئيس إبراهيم رئيسي أن "لا قيود في مسار توسيع العلاقات بين البلدين وبدء صفحة جديدة من التعاون الإقليمي"، كما أكد خلال استقباله مبعوث أبو ظبي أن "إيران لديها إرادة جادة وصادقة لتطوير العلاقات مع الإمارات، ولا توجد عقبات في طريق توسيع العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، وخصوصاً في المجال الاقتصادي".
يأتي ذلك في ظلّ استمرار الحديث عن حوار بين إيران والسعودية عبر بوابة بغداد، وإن ما زال غير مكتمل الصورة حتى اللحظة، فيما تتوجه الأخيرة بالدعوة إلى عقد مؤتمر لدول جوار العراق، ما يرفع سقف التوقعات حول الدور الذي يمكن أن تقوم به بغداد في تقريب وجهات النظر بين الخصمين. ليس ذلك فحسب، إذ تبرز عمان في المشهد مؤخراً كوسيط لحل الخلاف السعودي الإيراني حول الملفات الإقليمية، وعلى رأسها ملف الحرب على اليمن، فهل تنال البحرين من ذلك نصيباً؟
في الواقع، لا يبدو أنَّ المنامة تقع تحت دائرة التسويات الإقليمية، وذلك لعدة أسباب؛ أولها جيوسياسي، فالبحرين خاصرة الخليج وأمنها الاستراتيجي، ولا مساومة إقليمية بشأنها. هذه المملكة التي لا تتجاوز مساحتها 765 كيلومتراً مربعاً، يصفها البعض بأذن الرياض، متى ما قُبض عليها قُبض على شرق المملكة، ما يجعل أيّ تغيير سياسي خارج المعادلة السعودية صعباً، وليس الأمس ببعيد، فعندما اندلعت الاحتجاجات في البحرين في شباط/فبراير 2011، لم تتردد الجارة للحظة في الدخول على خط الأزمة، بإرسال قوات "درع الجزيرة" للحيلولة دون تغيير المعادلة السياسية في ظلّ ما سُمي حينها بـ"الربيع العربي".
باختصار، البحرين خط أحمر سعودي خليجي، وأي تغيير سياسي فيها خارج المنظومة الخليجية ممنوع، وهو ما تسبّب حينها بصدمة في الأوساط المعارضة الشعبية التي لم تتوقع خطوة بهذا الحجم من الرياض.
عموماً، البحرين ملفّ يحمل في طياته بعدين؛ الأول محلّي طامح إلى التغيير السياسي وتحقيق الديمقراطية والعدالة التي كانت، وما زالت، مطلباً أساسياً للقوى السياسية المحلية، أسوة ببقيّة شعوب المنطقة، وهي مطالب تاريخية، وليست وليدة اللحظة. وثمة بعد إقليمي في خضم الخصومة مع إيران، التي لطالما كانت متهمة من خصومها بالتدخل في الشؤون الخليجية وبتهديد أمن الخليج، ومنها البحرين، ليأتي السؤال: ما تأثير المتغيرات الإقليمية في الحل في البحرين؟ وهل حل الأزمة السياسية محلي أم إقليمي؟
من الناحية الإقليمية، يبدو جلياً تفكّك تحالف الثلاثي الخليجي (البحرين، السعودية، الإمارات) ضد إيران بعد رحيل ترامب، ما دفع كلّ دولة إلى سلوك طريقها في معالجة الملف. الرياض وأبو ظبي اختارتا التواصل مع طهران كل على حدة، غير أنَّ المنامة كسرت التوقعات، واختارت الطريق منفردة في مواصلة ما تسمّيه مواجهة طهران، آخرها التوقيع على مذكّرة للتعاون مع "إسرائيل" في ما أطلقت عليه "مكافحة إيران في حرب الأفكار".
وكيل وزارة الخارجية البحرينية، الشيخ عبد الله بن حمد آل خليفة، قال بعد التوقيع على الاتفاق إن "إيران تشكل تهديداً مشتركاً، سواء لإسرائيل أو البحرين"، وإنَّ العلاقات التي بُنيت مع "إسرائيل" منذ توقيع اتفاقيات التطبيع يمكن "أن تساعد تماماً".
هذه الخطوة تباينت بشأنها القراءات بين من رأى أنها منفردة، ومن رأى أنها جزء من لعبة تبادل الأدوار بالتنسيق مع السعودية. وفي الحالتين، هذا لا يغيّر من أمر تعزيز التعاون الأمني بين "إسرائيل" والخليج وتعميقه. أما من جانب المعارضة، فقد شهدت "الوفاق"، أكبر تيار معارض في البحرين، تحوّلات عدة في مسار عملها السياسي، منها الانتقال من محاولة الدفع بإبقاء الملف السياسي ملفاً محلياً بعيداً عن التجاذبات الإقليمية إلى التماس مع الإقليم.
مواقف "الوفاق" أصبحت أكبر وضوحاً في انتمائها إلى محور المقاومة، سواء على صعيد مواقف المرجعية الدينية التي يطلقها الشيخ عيسى قاسم، والمتّسقة مع مواقف محور المقاومة ونهجه، أو على الصعيد العمل السياسي الَّذي تعبر عنه قيادات "الوفاق"، ما يجعل السّلطة و"الوفاق" على طرفي نقيض على المستوى المحلي والإقليمي.
هذه النّتيجة تتحمَّل فيها السّلطة جزءاً ليس قليلاً من المسؤولية، بعد أن مارست العزل السياسي ضد المعارضة طوال السنوات العشر الماضية، وما زالت، أو ربما تعمّدت الدفع بجمعية "الوفاق" نحو هذا الخيار لاستخدامه ضدها، إذ تستفيد السلطة من التسويق لأنَّ الأخيرة جزء من منظومة المقاومة التي تقودها إيران، لتحويل الملفّ من كونه أزمة سياسيّة إلى ملفّ أمني، وهو أمر يرى فيه البعض هروباً إلى الأمام من استحقاق التغيير.
يدخل على خطّ ذلك تراجع سياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إزاء التغيير السياسي في البحرين. هذه الدول باتت أقرب إلى التخلّي عن الملفّ ببعده السياسي وتبنّي سياسة تحسين أوضاع حقوق الإنسان؛ تخلٍّ كلّي خلال فترة رئاسة ترامب، وتخلٍّ سياسي خلال مرحلة بايدن.
يؤكّد ذلك نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون شبه الجزيرة العربية دانيال بنيام في مقابلة له مع صحيفة "البلاد" المحلية على خلفية زيارته الأخيرة. الرجل قال إن بلاده أجرت مشاورات مع المسؤولين البحرينيين حول عدد من القضايا الأمنية، لضمان عدم تمكن إيران من تهديد البحرين. وقد أُجريت مناقشات حول الإنجازات الحقوقية على صعيد مكافحة الإتجار بالبشر وتطبيق العقوبات البديلة من دون إشارة أو ذكر إلى الملف السياسي، ما يشير إلى تفهم أميركي لمسألة تعليق حلّ الملف السياسي. هذا الموقف يتسق أيضاً مع المواقف الأخيرة لبعض الدول الأوروبية التي جاءت في الإطار نفسه.
في المحصّلة، ربما من الصعب الجزم بمآلات الإقليم، وهو حالياً أشبه بمنطقة رمال متحركة، إلا أنَّ الحلّ السياسي في البحرين يبدو حتى اللحظة بعيد المنال. ويبيع الوهم من يسوّق لأنَّ التسوية الإقليمية قد تأتي بتسوية سياسية، من قبيل تحقيق الديمقراطية والحرية المنشودة.
وبين الإقليمي والمحلي، فإنَّ ملف الأزمة السياسية وما يحمله البحرينيون من تطلعات نحو الديمقراطية والتغيير تعدّ سكّته الداخلية أفضل من الطريق الإقليمية وتعقيداتها، عبر البحث عن سبل لإعادة صياغة العلاقة بين المعارضة والسلطة التي بيدها فتح الأبواب الموصدة منذ أكثر من 10 سنوات، بدلاً من الاستمرار بتعطيل العملية السياسية في البلاد، ودفع المعارضين خارج المنظومة السياسية وتهميشهم بدلاً من إشراكهم في عملية صناعة القرار.
وفي الجانب الآخر، لا يمكن القفز على الحاجة إلى إعادة صياغة العلاقة بين البيت الشيعي وبيت الحكم، وهي بلا شكّ مسؤولية تقع على عاتق الطرفين، إذ إنَّ احتواء الشيعة أفضل للمصلحة الوطنية من الاستمرار في سياسية التهميش والضغط والاستفزاز، فهذا لا يجني إلا المزيد من التوتر والانقسام والتعميق للشرخ.